تسجيلٌ مصوّر من ثوانٍ كان بمثابة حبل النجاة للينا عكلة الأحمد وشقيقتها عائشة بعدما تعرضن لضربٍ وحشي وسط أحد شوارع مدينة الرقة السورية، وبينما كتب لهن عمرٌ جديد قبل أسبوع كانت هبة حاج عارف تقتل بلا صرخات حيث تقيم مع طفليها إلى الغرب قليلا في إحدى مناطق ريف محافظة حلب.
الحبل الذي مُدّ للشقيقتين لم يكن خيارا متاحا أمامهن للبقاء على قيد الحياة، بل رمته عبارة “والله بنيّة”، التي لاقى مشهد توثيقها بفيديو انتشر عبر مواقع التواصل حالة من الغضب والاستنكار، ما دفع السلطات للتحرك وإنقاذهن واعتقال الجناة.
قصة الشابة هبة لاقت أيضا حالة غضب واستنكار لكن بعدما انقضى الأمر وفقدت حياتها داخل منزلها في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” بريف حلب.
وتقول ناشطات نسويات إن حاج عارف وهي ناشطة في حقوق المرأة وأرملة وأم لطفلين “اغتيلت” وأنها تلقت الكثير من التهديدات، دفعتها قبل أشهر لترك منصبها كعضو في “مجلس بزاعة المحلي”.
كما توضح الناشطات وفق حديثهن لموقع “الحرة” أن ما ادعته “مديرية أمن الباب” بأن حاج عارف “أنهت حياتها انتحارا” هي مزاعم بعيدة عن الصحة، مدللين بذلك إلى الحالة الطبيعية التي كانت تعيشها، والمحاضرة التي كانت بصدد أن تلقيها عبر الفيديو في يوم مقتلها، والتضارب الحاصل في البيانات التي أصدرتها الجهات المسيطرة.
“على أبواب يومهن العالمي”
هذه الحوادث الثلاث في مناطق النفوذ المختلفة لا تعتبر استثناءً أو حالة جديدة على المشهد الذي تعيشه النساء في سوريا، بل على العكس تمثلان “جزء من بحر جرائم وحوادث عنف”، كما توضح الناشطة السورية، بيان ريحان لموقع “الحرة”.
وتختصران حسب حديثها مع ناشطات نسويات أخريات تفاصيل الواقع المأساوي للمرأة السورية داخل البلاد الممزقة، وهي على أبواب يومها العالمي، الذي يصادف إحياؤه يوم الثامن من مارس الحالي.
“نحن غير مقتنعين بمزاعم (انتحار) هبة.. في نفس اليوم الذي قتلت فيه كانت تجري تدريبا عن بعد مع إحدى المنظمات السورية”، كما توضح الطبيبة ومديرة منظمة “مساواة”، ميّا الرحبي.
وتضيف أن الضحية كانت أيضا بصدد تقديم مداخلة حول موضوع خاص بحقوق المرأة في اليوم التالي لمقتلها، وهو ما ينفي رواية “فقدانها للحياة عن طريق الانتحار”.
الشابة النسوية تلقت عدة تهديدات من قبل، ولم تدل شخصيتها أبدا على أنها تفكّر بالإقدام على الفعل الذي أشارت إليه “مديرية أمن الباب”، وفق الرحبي.
وتتابع في حديثها لموقع “الحرة”: “هبة قتلت بجريمة بشعة.. وهناك سلطات أمر واقع تتستر على الحوادث”.
وتشير إلى ذلك الناشطة ريحان بأن هبة في السابق لتهديدات متكررة، ما دفعها للاستقالة من المجلس المحلي. ورغم ابتعادها عن المنصب “اغتيلت”.
وتوضح: “هبة أرملة لديها ولدان وكانت تعمل على تربيتهما لوحدها”، وتقول إن “خيار العمل لم يكن رفاهية بالنسبة لها، كونها معيلة في ظل ظروف الحرب التي نعيشها”.
“حوادث غير معزولة”
وكان الكشف عن مقتل هبة في ريف حلب الشمالي قد جاء بعد يومين فقط من حادثة الضرب الوحشي الذي تعرض له الشقيقتان لينا وعائشة في بلدة تل السمن بريف الرقة السورية.
وبعدما وثّق تسجيل مصور نشره مستخدمون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجريات الواقعة التي كان ينفذها 4 رجال وقاصرين اثنين أعلنت السلطات الأمنية هناك اعتقال 3 أشخاص متهمين، ونقل الشقيقتين إلى “مكان آمن”.
“والله بنية والله بنية” (في تأكيد على العذرية) عبارة كانت ترددها إحداهن وهي تصرخ، بينما يدعو واحد من الرجال الآخر بعبارة: “اضرب حيل (بقوة) اضرب اضرب”، من منطلق “الدفاع عن الشرف”.
المديرة التنفيذية لـ”اللوبي النسوي السوري”، ريما فليحان تصنّف الحادثة كـ”جريمة بشعة”، وتقول إنها “ليست المرة الأولى التي يمارس بها العنف ضد النساء جهارا نهارا وفي كل مكان”.
وتضيف لموقع “الحرة” أن الأسباب ترتبط بأن “من يمارس العنف يعرف أنه لا رقيب ولا حسيب سيوقفه عند حده.. ولا قانون يسأل”.
“المجتمع الذكوري” يرى أن النساء تابعات وملك للرجال بتعدد أدوارهم، وفق الناشطة النسوية.
وترى أن “من يحمل هذا الفكر (رجل أو امرأة) يعتبر أن الرجل يستطيع أن يفعل ما يشاء!”.
في المقابل توضح الباحثة أن “مقتل الناشطة هبة كان صدمة مؤلمة لكل النسويات ولكل من عرفها.. هي جريمة بشعة يجب أن يحاسب فاعلها، وأن تكشف حيثياتها بالكامل للعلن”.
كما تؤكد إلى جانب الطبيبة الرحبي والناشطة ريحان أن مقتلها “جاء بعد سلسلة تهديدات تلقتها الفقيدة وترتبط بنشاطها النسوي وفي الحقل العام”.
الرحبي تعتبر أن مقتل هبة ليست حادثة معزولة، أو يمكن تصنيفها كاستثناء.
وتوضح أن “كل الناشطات في حقوق لمرأة يتعرضن للتهديدات والخطر بشكل دائم، بسبب تغيير عقيلة المجتمع فيما يتعلق بالحقوق التي يتم المناداة لها”.
وعن عائشة ولينا تعتقد الطبيبة أن العنف الذي تعرضن له “هو جزء بسيط جدا من حالة عامة تستهدف المرأة في كل المناطق السورية”، بسبب “الانفلات الأمني وغياب محاسبة الجناة”.
إضافة إلى أسباب متعلقة بـ”المفهوم الاجتماعي للشرف”، وأن “المرأة ملك لعائلتها والمجتمع الذي تعيش فيه، وبالتالي أي تصرف من جانبها بعيدا عن هذا العرف يشكل جريمة وتستحق العقاب دون أي قانون!”، حسب مديرة منظمة “مساواة”.
“عنف مؤدلج”
بالنظر إلى المؤشرات الدولية المتعلقة بسلامة وأمن المرأة دائما ما تحتل سوريا المراكز الأدنى والأسوأ عالميا، وخاصة فيما يتعلق بـ”العنف المنظم” ضدها.
وبينما تربط الناشطات النسويات هذه الحالة وتصاعدها بالظروف التي أفرزتها الحرب يؤكدن من جانب آخر أن ما يحصل ليس بالجديد، وأن جذوره تعود إلى قضية أعمق.
الصحفية والناشطة النسوية، لمى راجح تعود للوراء، وتقول لموقع “الحرة” إن الانتهاكات والعنف ضد المرأة في البلاد “مؤدلج منذ سنوات طويلة”.
وتدلل بذلك إلى “حالة الأدلجة السياسية التي فرضها النظام السوري أولا من خلال بعض البنود المنصوص عليها في قانون الأحوال الشخصية”، وإلى السائد ثقافيا واجتماعيا وضمن العادات والتقاليد.
فيما يتعلق بحادثتي الرقة وريف حلب ترى الناشطة أن ما حصل جزء من حالة كبيرة، وفي غالب الأحيان لا تصل الكثير الحوادث إلى حالة الإبلاغ عنها.
وتضيف: “المرأة عندما يتم قتلها تكون قد مرت بسلسلة عمليات تعنيف متواصلة، ودائما ما تخشى أن تتحدث وتبوح، لأن المجتمع يلومها ويحملها مسؤولية الجاني”.
قصة هبة وعائشة ولينا تعكس كيف أن “كثير من النساء في سوريا بتن يعشن حالة من العنف باختلاف المناطق”، وفق راجح.
وتعكس أيضا أن “كل سلطات الأمر الواقع غير قادرة على توفير بيئة آمنة للنساء من أجل حمايتهن”.
ومن جانبها ترى الناشطة فليحان أن “كل قوى الأمر الواقع انتهكت حقوق الإنسان في سوريا من النظام وسواه”.
وتقول: “لا يوجد على كامل التراب السوري من يأبه حقيقة لحقوق الإنسان وحقوق النساء، في ظل انتشار الفوضى وعواقب فوضى السلاح والفقر والتشرد وانعدام الأمان والحرب”.
“النساء السوريات يعانين من تحديات كبيرة يتشاركن بها مع كل السوريين من جهة، ويدفعن أضعافها بنواح أخرى”، حسبما تؤكد مديرة “اللوبي النسوي السوري”.
“بالأرقام”
وفق بيانات منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ومنظمتي “مساواة” و”سارا” لمناهضة العنف ضد المرأة، تم تسجيل ما لا يقلّ عن 185 جريمة قتل راح ضحيتها نساء وفتيات بذريعة “الدفاع عن الشرف”، منذ 2019 وحتى نوفمبر 2022.
كما تمّ تسجيل مقتل ما لا يقلّ عن 20 ضحية أخرى نتيجة العنف المنزلي في سوريا، فضلا عن وقوع ما لا يقلّ عن 561 حادثة عنف منزلي أخرى تضمنت الضرب والإيذاء الجسدي.
وازدادت جرائم القتل تحت ذريعة “الدفاع عن الشرف” مع تصاعد حدّة النزاع السوري.
وتشير المنظمات المذكورة إلى أن الفلتان الأمني وغياب سيادة القانون وانتشار السلاح كلّها أسباب ساهمت بشكل أو بآخر بارتفاع نسبة جرائم القتل تحت ذريعة “الدفاع عن الشرف” في مناطق مختلفة من سوريا.
وهناك أسباب أخرى ترتبط بانتشار “ثقافة العنف ضد النساء” والتطبيع معها، وفق المنظمات المعنية بمتابعة حقوقهن.
الطبيبة ميّا الرحبي ومديرة “مساواة” تشير إلى أن “المجتمع يشرعن والقوانين تشجع على العنف، بينما تطلب الثقافة السائدة من النساء اللواتي يتعرضن للانتهاك بكل أنواعه أن يسكتوا عنه ولا يتحدثن فيه”.
ومن تتحدث سرعان ما تتحول إلى “متهمة لا ضحية”، وفق الرحبي.
ورغم أن ما سبق موجود منذ زمن زاد النزاع المسلح والانفلات الأمني من تبعاته، وكذلك غياب القانون الذي من المفترض أن “يردع الجاني ولا يجعله طليقا”.
وتضيف الطبيبة: “نحن في خارج سوريا نشعر بالعجز. نتواصل مع زميلاتنا في الداخل دائما ونراهن يتعرضن للعنف والتهديد والقتل.. العنف ممنهج بالفعل وبات يستهدف أي ناشطة تتحرك في مجال حقوق المرأة”.
وتؤكد الناشطة ريحان أن “العنف في سوريا ضد النساء موجودا منذ زمن ولا يمكن ربط الأمر بما بعد 2011”.
ومع “فورة الإنترنت والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي”، تضيف الناشطة: “بات الضوء يتسلط على هذه الممارسات بشكل أكبر، وبالتالي أرى أننا في مرحلة الوعي بالجرائم وأسبابها ومرتكبيها والطرق التي يجب التخلص منها لاحقا”.
“الحوادث الأخيرة هي جزء من بحر حوادث عنف تتعرض لهن السيدات بشكل عام”، حسبما تتابع الناشطة.
وتردف ريحان: “الفوضى الحاصلة تساهم والظروف الاجتماعية كذلك. وسواء من شمال شرق إلى شمال غرب وحيث يسيطر النظام السوري”.
“هبة لن تكون الأخيرة”
لن تكون الضحية هبة الأخيرة ضمن قائمة النساء اللواتي فقدن أرواحهن، كما تشدد الطبيبة الرحبي.
وتوضح أن “كلمة نسوية في سوريا أصبحت شتيمة والمساواة بين كل أفراد المجتمع من نساء ورجال أصبحت كذلك أيضا، وكأننا نحن من نرتكب المعاصي بحقوق البشر وحرياتهم!”.
الناشطة تشير في ذات الصدد إلى “أقلام مأجورة باتت تكتب المقالات لشتم الحركة النسوية السورية”.
ومع ذلك تؤكد بالقول: “نحن لن نسكت وسنظل نناضل ونطالب بالدفاع عن حقوق النساء في سوريا. لن نسكت عن قتل هبة أيضا وسنظل نتحدث عن الجريمة التي راحت ضحيتها”.
كما توضح الناشطة فليحان أن “الحملات الممنهجة ضد النسويات والمنظمات النسوية تزيد العنف وتشكل بيئة خطرة للعمل في دعم النساء”.
هذه الحملات تأتي “بسبب التعصب والتخلف والجهل المرتبط بشخصيات وهيئات متشددة وتيسرها قوى الأمر الواقع”.
وتضيف: “هم لا يدركون حقيقة وأهداف النسوية السورية ونضال النسويات من أجل مستقبل بلدنا وتحقيق المساواة والحريات للجميع”.