قـف فـي رُبـى الخـلد واهتف باسم شاعره .. فــســدرة المــنــتــهــى أدنـى مـنـابـره
وامـسـح جـبـيـنـك بـالركـن الذي انبلجت .. أشــعــة الوحــي شــعــراً مــن مــنــائره
سألتنيه رثاء خذه من كبدي .. لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره
بشارة الخوري.. الأخطل الصغير
كانت حياته سلسلة من المعارك الأدبية والسياسية، خاض فيها بقلمه وشعره للدفاع عن أمته وإيقاظ هممها ضد الاستعمار، وكان شعره نسيما عليلا يهب على النفوس، فهو شاعر الحب والهوى والقصائد المغناة، بويع أميرا للشعراء بعد وفاة أحمد شوقي، وقد أغرت النبرة الغنائية المتوافرة في شعره الملحّنين، فعكفوا على تلحين قصائده.
تسابق على غناء شعره أشهر الفنانين العرب من الطبقة الأولى، وفي مقدمتهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، كما كان للفنانة الكبيرة فيروز من قصائده حظ وافر، وغنى له فريد الأطرش عددا من قصائده في مقدمتها “أضنيتني بالهجر” و”عش أنت”، كما غنى له وديع الصافي وأسمهان، وغيرهم.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية نتعرف على الشاعر اللبناني بشارة الخوري الذي اشتهر بلقب “الأخطل الصغير”، تيمنا بالشاعر الأموي الأخطل التغلبي.
ولد شاعرنا بشارة الخوري عام 1885 بقرية إهمج في قضاء جبيل في حضن محافظة جبل لبنان، وقد اشتهر سكانها بالفصاحة ونظم الشعر فصيحه ومحكيه، وطبعوه بصبغة أدبية فريدة، وكان للأخطل الصغير من ذلك نصيب الأسد، واكتسبت قصائده عذوبة في الألفاظ ورقة في العاطفة وجزالة في المعاني.
جده هو الخوري ميخائيل الملقب بالحكيم، فقد كان يداوي الناس بالطب العربي، ونقل المهنة لأبنائه ومن بينهم عبد الله الذي تزوج حلا نعيم وأنجبا سبعة أبناء، كان الأخطل أصغرهم.
الأخطل الصغير.. علاقة وطيد مع عائلة الرحباني
ارتبط اسم الشاعر بشارة الخوري بعائلة الرحباني الموسيقية ارتباطا فنيا وثيقا، وكان أصلها علاقة نسب، فقد تزوج عبد الله نجل الأخطل من سلوى إحدى بنات عائلة الرحباني، وكانت العلاقة مع عائلة الرحباني قوية، وكان يزورهم في مسكنهم في الجبل.
ويروي الشاعر والمؤلف الموسيقي غَدي الرحباني عن الأخطل أنه كان لا يحب زيارة الجبل، لكنه كان يقول إنه لا يحتاج إلى الطبيعة لينظم الشعر، بل إنه يستطيع استحضارها فيكتبها بأجمل ماهي عليه.
وقد لحن الأخوان كثيرا من قصائده، وكان للفنانة فيروز منها نصيب كبير، ومن هذه القصائد:
يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا
كعاشقٍ خطّ سطرا في الهوى ومحا
من بسمة النجم همس في قصائده
ومن مخالسة الظبي الذي سنحا
قلبٌ تمرس باللذات وهو فتى
كبرعم لمسته الريح فانفتحا
وقصيدته:
يا عاقد الحاجبين
على الجبين اللُجينِ
إن كنتَ تقصد قتلي
قتلتني مرتينِ
وكما يلاحظ، فقد تميز شعره بالسلاسة والليونة، والعبارات القصيرة، ولقبه بعضهم بشاعر القُبل لكثرة ما ذكرها في قصائده، كما في قصيدة “أسقنيها” التي غنتها الراحلة أسمهان:
أسقنيها بأبي أنت وأمي
لا لتجلو الهمّ عني أنت همّي
املأ الكأسَ ابتساما وغراما
فلقد نامَ الندامى والخُزامى
زَحَمَ الصبحُ الظلامَ فإلامَ
قمْ نُنَهْنِهْ شفتينا
ونذَوِّب مهجتينا
رضيَ الحبُّ علينا
الأخطل الصغير.. رحلة غنائية مع موسيقار الأجيال
اهتم بشارة الخوري كثيرا بالقصيدة الغزلية، وكان يختار الكلمات بدقة ورقة، لكنه كان كمن يغرف من بحر، وجاءت قصائده إيقاعيه غنائية، وامتازت بالموسيقى الشعرية وقوة المشاعر، ويرى بعضهم أن هذا أكثر ما ميز شعر الأخطل عن شعر غيره من الشعراء.
ويروي الشاعر سهيل مطر أن الموسيقار محمد عبد الوهاب سئل مرة، لمن لحنت من الشعراء؟ فأجاب أنه لحن لكثيرين منهم، وعندما سئل عن الشاعر الأخطل الصغير، قال إن قصائده تأتي ملحنة، ولا تحتاج لمن يلحنها.
بدأ بشارة الخوري تعاونه مع عبد الوهاب في قصيدة “الهوى والشباب”. وكما يروي الأخطل في حديث مصور، فقد كانت مكونة من أربعة أبيات فقط، فطلب منه عبد الوهاب أن يضيف لها أبياتا أخرى، فنظم القصيدة بشكل كامل، وغناها الموسيقار الكبير، وبدأت بينهما صلة إخاء ومحبة.
الهوى والشباب والأمل المنشود ضــاعــت جــمــيــعــهــا مــن يـديّـا
يـشـرب الكـأس ذو الحـجـى ويـبقّي لغــد فــي قــرارةِ الكــأس شــيّــا
لم يـكـن لي غـدٌ فـأفـرغـتُ كـأسـي ثــم حــطّــمــتــهــا عــلى شـفـتـيّـا
بشارة الخوري.. رائحة الشعر الفرنسي
غمس الأخطل قلمه في دواة الشعر الفرنسي، فأنتج قصائد فاحت منها عطور باريسية، وهو ما جعل بعض النقاد يتهمونه بسرقة قصائد من الأدب الفرنسي، ويدافع الناقد نذير جعفر عن الأخطل، فيقول إن مصطلح السرقة قاسٍ على شاعر مثل الأخطل، ففي النقد مصطلح التناص أو الاقتباس، ولقد كانت بعض قصائده مترجمة حرفيا، وبعضها مقتبس، والآخر محاكاة للشعر الفرنسي، وهذا ما خلط الأحكام النقدية، ومن هنا جاءت التهمة.
ويقول نذير جعفر لو حاول بشارة الخوري توثيق هذه النقاط الثلاث في شعره، وفصل القصائد عن غيرها -وهي نقطة ضعف في شعره- لما اختلط المستورد مع الأصيل.
ويرى نقاد آخرون أن الأخطل تأثر ببعض الشعراء الفرنسيين مثل “بوردون”، وقد اقتبس من قصيدة “إناء في كأس”، وكذلك تأثر بالشاعر “موريس ماترلين”، ويرون أنه عندما يفقد الشاعر تأثره بالآخرين فإنه يفقد ذاته.
كان الأخطل الصغير مثقفا وقد تأثر كثيرا بالشعراء الغنائيين الرومانسيين الفرنسيين أمثال “موريس ماترلين” و”فيكتور هوغو”، وقد كان أول شاعر عربي تحدث عن المرأة، وتغزل بها بشكل عذري أحيانا، وبشكل حضري أحيانا أخرى، وقد قال نزار قباني إنه التلميذ الأول والأوحد للأخطل.
الأخطل الصغير.. في جريدة البرق
كان للأخطل الصغير قلم تمرس في مناهضة الظلم، فقد مارس الصحافة في سن مبكرة في جريدة المصباح، وبعد ذلك أسس له أخوه الكبير يوسف جريدة البرق 1908، وكانت أسبوعية ثم يومية.
كان الأخطل موهوبا وصحفيا حقيقيا، توفرت فيه كل صفات الصحفي. ففي البداية دافع عن العثمانيين، وكان يرى أن الدستور الذي أصدره السلطان عبد الحميد عام 1908، هو الدستور الذي سيؤمن الاستقلال للبنان، ولكن خاب ظنه في ذلك.
وكان يفتتح جريدته بقصيدة شعرية، وقد مزج بين الأدب والشعر والصحافة والسياسة، وكانت جريدة البرق منبرا له ولزمرة من الشباب الثائرين الذين كتبوا عن لبنان وقضاياه وطالبوا باستقلاله، ودافعوا عنه بأقلامهم وأفكارهم التحريرية.
كلفه ولاؤه لبلده الكثير، إذ لم يترك القلم الذي كان رصاصة كما البندقية، ولم يغير مبادئه في تعرية الظلم، فلوحق وحكم عليه بالإعدام إلى جانب عدد من الصحفيين، فاجتمع سرا بزملائه وقرر الفرار من بطش السلطات.
“أرز لبنان”.. إعدام بأمر المحكمة العرفية
وفي عام 1910 التحق بشارة بجمعية سرية اسمها “أرز لبنان”، وكان رئيسها سليم بيك المعوشي، وقد ضمت الجمعية أخاه يوسف وأمين الجميل وشبل الملاط وبعض أمراء بيت رسلان وغيرهم، وعندما اكتشف أمرهم، طلبتهم المحكمة العرفية أحياء أو أمواتا في زمن جمال باشا الذي وضع المشانق وأعلن الإعدامات على كثيرين.
وفي 6 أيار/مايو من عام 1916 قام جمال باشا بإعدام نحو 40 شخصا من بينهم صحفيون، وكان منهم بعض رفاق الأخطل، بينما تمكن هو من الهرب إلى منطقة ريفون.
رحب الأخطل بالانتداب الفرنسي بداية، لكنه هاجمهم بعدما اكتشف أنهم محتلين. يقول حفيده زياد: كان جدي سعيدا بالانتداب الفرنسي، فقد كان يظن أنهم سيهبون لبنان الحرية، لكنه أدرك الاحتلال على حقيقته، فأخذ يكتب ضده، فوجهوا له إنذارات عدة، وعندما زار فيصل الأول في العراق أغلقوا جريدته.
“سألتنيه رثاء خذه من كبدي”.. أحمد شوقي
قطف الأخطل من الشعر رقته، ومن الصحافة رصانتها، ووثق بشعره مناسبات عدة، فمدح ورثى وتغزل. وقد جمعته علاقات مع الشعراء مثل أمير الشعراء أحمد شوقي الذي تعرف عليه أول مرة في بيت رئيس الجمهورية اللبنانية، وعندما مات شوقي رثاه بقصيدة قال في مطلعها:
قـف فـي ربـى الخـلد واهتف باسم شاعره
فــســدرة المــنــتــهــى أدنـى مـنـابـره
وامـسـح جـبـيـنـك بـالركـن الذي انبلجت
أشــعــة الوحــي شــعــرا مــن مــنــائره
سألتنيه رثاء خذه من كبدي
لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره
“أنت في دولة القوافي أمير”.. إمارة الشعر
بويع الأخطل أميرا للشعراء بعد أحمد شوقي، في حفل كبير أقيم في مقر اليونسكو ببيروت عام 1961، وقد حضره شعراء العرب والمهجر، وألقى الشاعر أمين نخلة قصيدة في المناسبة، قال فيها:
أيقولون أخطل وصغير؟
أنت في دولة القوافي أمير
فاسحب الذيل ما تشاء وجرّر
إن مُلك البيان ملك كبير
أثار لقب أمير الشعراء غيظ وحسد بعض الشعراء، واعتبر بعض النقاد أن شعر الأخطل خيمت عليه لغة المنابر والمناسبات، فكان مصبوغا بالمباشرة والتقريرية والقصصية.
ويرد نقاد آخرون بأن المتنبي ليست له قصيدة بدون مناسبة، وهو أمير الشعراء في عصره، كما يرى المدافعون عن الأخطل أن الأمر لم يكن كذلك، إذ كانت القصيدة الغزلية حاضرة بقوة في شعره، كما كتب قصيدة “المسلول”.
“قم نقبل ثغر الجهاد”.. شاعر القضايا الإنسانية العادلة
كان الأخطل شاعر ملتزما دافع عن وطنه لبنان وكذلك القضايا العربية والقومية، وكان لفلسطين حصة الأسد في ذلك، فمن قصائده فيها قصيدة “فلسطين”، و”قم نقبل ثغر الجهاد”، و”وردة من دمنا” التي لحنها وغناها فريد الأطرش.
كما ناصر القضايا الإنسانية كالحرب العالمية الأولى والفقر والمجاعة، وكان وطنيا وشجاعا، وقف ضد الاستعمار، وإنسانا مرهف الحس عجت قصائده بمشاعر الحب والغزل، وبقيت خالدة.
توفي الأخطل عام 1968 عن عمر ناهز 83 عاما.