في المدارس الناجية حتى الآن من القصف الإسرائيلي في غزة، يستخدم نازحون فلسطينيون الكراسي والمقاعد الخشبية لإشعال النار لطهي الطعام في ظل عدم توفر الغاز.
هذه المعدات الضرورية للعملية التعليمية يمكن توفير بدائلها بعد انتهاء الحرب من خلال المساعدات، لكن تعويض الطلاب والعاملين في مجال التعليم، الذين فقدوا حياتهم في هذه الحرب، مستحيل، إذ إن “209 معلمين، إضافة إلى أكثر من 3700 طالب في قطاع غزة قتلوا منذ اندلاع الصراع في السابع من أكتوبر، بحسب ما كشف المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم في السلطة الفلسطينية، صادق خضور، في حديثه مع موقع “الحرة”.
ويقول وكيل وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، أيوب عليان إن “هؤلاء الطلاب لن يعودوا إلى مقاعدهم الدراسية أبدا”، مشيرا في تصريح لموقع “الحرة” إلى أن هذه الأرقام لا تشمل الأطفال الذين كانوا في طريقهم للتعليم، “حيث قتل أكثر من ثمانية آلاف طالب، ناهيك عن الإعاقات بين الطلاب والمعلمين والمعلمات، فضلا عن تدمير 90 في المئة من المدارس بشكل كلي أو جزئي”.
كان نقص الفصول الدراسية يمثل مشكلة كبيرة أصلا قبل الحرب، وكانت معظم المدارس تعمل بنظام الفترتين يوميا، واحدة في الصباح، وأخرى بعد الظهر، ما يعني أن الأضرار التي تلحق بمبنى تعليمي واحد، قد يؤثر على قدرة مدرستين على العمل.
وقال خضور: “لدينا 307 مباني مدرسية حكومية تداوم فيها 442 مدرسة إذ كانت هناك 135 مدرسة تداوم بنظام الفترتين”.
وأضاف: “تعرض أكثر من 270 مبنى تعليمي لأضرار، كانت بالغة لنحو مئة منها”.
“الحياة التعليمية توقفت”
ونزح أكثر من 80 في المئة من السكان، وأصبحوا في وضع لا يسمح لهم بالعمل أو التعلم، حيث يعانون من الجوع والعطش والبرد، وانعدام الكهرباء في معظم الأوقات، وصعوبة الاتصال بالإنترنت المتقطع.
ومن بين هؤلاء الذين اضطروا للنزوح، الطفل محمد موسى (14 عاما)، الذي فر من منزله مع عائلته، حاملا معه جهاز الكمبيوتر الخاص به، آملا في أن يظل قادرا على حضور حصصه التعليمية والدراسة بين الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على القطاع، بحسب نقلت عنه صحيفة “الغارديان”.
قبل الحرب، كان موسى قد وضع لنفسه هدف الحصول على منحة دراسية، في قطاع غزة الذي يشهد تنافسا دراسيا كبيرا، حيث من المعروف أن نسبة الالتحاق بالتعليم في هذا الجيب من أعلى النسب في العالم.
ويلتحق 95.4 في المئة من الأطفال الفلسطينيين بالتعليم الأساسي، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، التي ذكرت في الأول من ديسمبر، أن قطاع غزة أصبح أخطر مكان للأطفال في العالم، “ولا مكان آمنا فيه”.
لكن بعد أكثر من سبعين يوما على الحرب، كان الشيء الجديد الذي تعلمه موسى، هو كيفية صنع الخبز على نار في الشارع، بعدما حول القصف الإسرائيلي الحياة المدنية في غزة إلى صراع يومي من أجل البقاء.
قالت سها موسى، وهي معلمة رياضيات في مدرسة الزيتون للبنين، غربي غزة، إنها تفكر طوال الوقت في طلابها، الذين تحبهم كثيرا، “في السابق، كانت أمنيتهم الكبرى هي الحصول على الدرجة الكاملة عندما كنت أختبرهم، أما الآن، فهم يفكرون في كيفية الفرار، والبقاء على قيد الحياة”، بحسب ما تنقل عنها “الغارديان”.
يقول خضور لموقع “الحرة”: “توقفت الحياة التعليمية بشكل شبه تام، فمنذ بدء العدوان. هناك 600 ألف طالب لا يداومون في المدارس”، مشيرا إلى “الضرر البالغ على العملية التعليمية، فضلا عن الآثار النفسية”.
وأضاف أن “أكثر من مئة مدرسة تحولت لمراكز إيواء من مدارس الحكومة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)”.
“حتى المدارس التي تستخدم كملاجئ لم تسلم من القصف”، بحسب خضور، “علاوة على استهداف أبنية مدرسية كانت قيد الإنشاء تمهيدا لإنجازها لكنها باتت مجرد ركام”.
واعتبر أن قصف إسرائيل للمدارس “كان جزءا من استهداف شامل طال البشر والحجر”.
ويشير خضور إلى أن كثيرا من الأطفال باتوا يعانون من المجاعة أو المرض الشديد أو معرضين لخطر المرض لأنهم لا يستطيعون الحصول على المياه النظيفة أو الصرف الصحي.
وقال: “الأطفال أصلا موجودون في أماكن مكتظة، مما يتسبب في إصابتهم بأمراض خاصة وأننا في فصل الشتاء”.
وأضاف: “المدارس المستخدمة كمراكز إيواء مصممة للدراسة لا للسكن، وبالتالي فهي تفتقد للمقومات التي تجعلها أماكن للسكن خاصة مع طول مدة الحرب”.
“وقف النار أولا”
ويحذر المعلمون وجماعات الإغاثة من أنه حتى لو تم الاتفاق على وقف إطلاق نار طويل الأمد، فإن العودة إلى أي شيء مثل الحياة الطبيعية في غزة ستستغرق وقتا طويلا لأن الأضرار واسعة النطاق.
وقال المتحدث باسم اليونيسف في القدس، جوناثان كريك: “عندما نتحدث عن التعليم، فإننا نتحدث عن نظام، كما هو الحال مع الرعاية الصحية. من المستحيل تمامًا إعادة هذه الأنظمة إلى مكانها دون وقف إطلاق نار إنساني طويل الأمد”.
ويؤكد أنه “من أجل أن نكون قادرين على مساعدة الأطفال بشكل صحيح وعلى نطاق واسع، فإن وقف النار أمر ضروري”.
ومع ذلك فإن هناك مبادرات قليلة مضيئة، بحسب خضور الذي أشار إلى أن “ثمة معلمين يقدمون حصصا للطلاب في مراكز الإيواء، نتواصل مع بعض زملائنا هناك رغم صعوبة الاتصالات التي تقطع باستمرار”.
وكشف عليان عن أن أكثر من 80 طالبا ممن استطاعوا الخروج إلى الدول العربية والأجنبية وقت الهدنة، تواصلوا معنا وربطناهم بمدارس في رام الله ليتلقوا التعليم عن بعد، وسيعتبرون طلابا في هذه المدارس”.
“التأهيل النفسي هو الأصعب”
وقال: “في حال انتهاء الحرب، نحتاج لأسبوعين على الأقل لرصد أماكن تواجد الطلاب، وتحديد عدد المدارس الميدانية المتبقية، ثم ربما نلجأ لتقسيم اليوم والأسبوع حسبما نستطيع، بحيث تشتمل كل المدارس فترتين، ويذهب بعض الطلاب لأيام معينة ويذهب الآخرون في أيام أخرى”.
ويشير خضور إلى أنه “لا يزال الوقت مبكرا للحديث عن خطة للعودة في ظل استمرار العدوان. لكن محاور أي تدخل ستشمل جوانب التعليم والجانب النفسي الاجتماعي والبنية التحتية وهناك عمل كبير يجب أن يتم”.
وبعيدا عن محاولة تأمين ما هو مستطاع من أجهزة ومعدات ضرورية، يعتبر عليان أن أصعب ما ستواجهه العملية التعليمية بعد الحرب، هو تأهيل الطلاب أنفسهم نفسيا وعاطفيا، في الوقت الذي فقد فيه كثيرون منهم أصدقايهم أو جزءا من عائلاتهم”.
كتابة أسماء أطفال في غزة على سيقانهم وأجسادهم
“الناس هنا مرعوبون للغاية، أصبحوا يكتبون أسماء أطفالهم على أجزاء مختلفة من أجسادهم وهم أحياء”، يكشف مدير مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة، أحمد الكحلوت، لموقع “الحرة” طرقا جديدة يسلكها الأهالي ” ليتعرفوا على أبنائهم في حالة استشهادهم”.
ويعتبر الناطق باسم اليونيسف، جيمس إلدر، أن “هذا العدد الكبير من الأطفال القتلى يعني أنهم يتحملون عبء الصراع. أعتقد أن نحو 40% من الضحايا هم من الأطفال. هذا أمر لا يُصدق. إنها حرب على الأطفال، أيضا هناك أطفال إسرائيليون محتجزون في غزة، ونأمل أن ينتهي عذاب أسرهم وأن يعودوا إلى منازلهم. عدم حدوث ذلك حتى الآن هو أمر محير”.
وأضاف: “لا أفهم كيف يعتقد أي شخص أن مواصلة الغضب والاستقطاب وتدمير غزة وقتل الأطفال يمكن بأي شكل أن يجلب السلامة للأطفال في فلسطين وإسرائيل”.
وقالت المعلمة سها موسى: “صورة الطلاب هنا في غزة، عن مدارسهم تغيرت خاصة وأنها أصبحت ملاجئ. ومن المؤكد أن صحتهم العقلية تتأثر بالظروف الصعبة التي يعانون منها”، مشيرة إلى أنهم “سيحتاجون إلى وقت طويل لإعدادهم للدراسة مرة أخرى”.
من جانبه يقول، عليان: “نعم الصورة قاتمة، ولكن التعليم بالنسبة للشعب الفلسطينية شيء مقدس. الواقع أليم ولكن يحدونا الأمل بمستقبل أفضل لأبنائنا”.