بعد حملات إعلامية واسعة النطاق قادها مواطنون واقتصاديون، بدأ البرلمان التونسي مؤخرا بمناقشة تعديل قانون تجاري مثير للجدل بشأن عقوبة السجن لمن يصدر شيكات بدون رصيد.
وفي شهر مايو، أحالت الحكومة التونسية مشروع قانون منقح للفصل 411 من القانون التجاري للبرلمان الذي بدأ مناقشته مطلع الشهر الحالي دون أن يتوصل لقرار نهائي.
ولطالما تتعرض تونس لانتقادات بسبب هذا الفصل من القانون التجاري الذي يجرم إصدار شيكات من دون رصيد ويعاقب مرتكبي هذا الفعل بالسجن لمدة 5 سنوات.
ويقول البرلماني التونسي السابق، عبدالعزيز القطي، إن هذه القضية قديمة “لم يكن هناك إرادة سياسية كافية” لمعالجتها من الجذور.
وفي تصريحات لموقع “الحرة”، يشير القطي إلى أن الرئيس التونسي، قيس سعيد، “أمر بتنقيح القانون لما له من تداعيات وخيمة على العديد من الأشخاص والشركات التي أصبح مصيرها الإفلاس”.
“نظام جائر”
في الأسبوع الماضي، ترأس سعيد اجتماعا خصص لتنقيح الفصل 411 من القانون التجاري التونسي المعروض على مجلس نواب الشعب.
وقال سعيد في تصريحات نشرتها الرئاسة التونسية: “لا غياهب السجون حل، ولا الفرار بدوره حلا، ولا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولا الاقتصاد يمكن أن ينتعش بهذا النظام القانوني الحالي الجائر الذي آن الأوان لوضع حد نهائي له”.
ويرجع القطي أسباب هذه المعضلة القديمة في تونس إلى البنوك التي “تملصت من مسؤوليتها في عملية المساهمة بتطوير الاقتصاد من خلال تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة”.
ويضيف: “هذه المؤسسات تعتبر العمود الفقري للاقتصاد والبنوك ابتعدت عن مهمتها الأساسية بتمويلها وأوكلت هذه المهمة إلى ورقة الشيك؛ بحيث يصدرونها للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين”.
ويوضح أن هذه الشيكات “أصبحت ضمانا لتمويل المشاريع أو لعمليات الدفع المؤجلة”، في حين تفتقر البنوك التي تحقق أرباحا خيالية سنويا إلى المخاطرة بتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، على حد قول القطي.
ولذلك، تتحد البنوك وتشكل جبهة للتصدي لعملية تنقيح المادة 411، حسبما يقول القطي؛ لأنهم يعرفون جيدا أن التشريعات الجديدة ستجعلهم أمام مسؤوليات وطنية في تمويلات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهو أمر يريدون التخلص منه وإلقاءه على الشيكات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى السجن.
ويناقش البرلمان التونسي صيغة معدلة قدمتها الحكومة من الفصل 411 للقانون التجاري بتقليص عقوبة السجن من 5 سنوات إلى سنتين.
وقال القطي إن “كارتل البنوك يضغط على السلطة التنفيذية التي قدمت صيغة معدلة نسبيا بتقليص عقوبة السجن”، مردفا: “هناك استياء كبير وانتظار لتنقيح جذري ورفع هذه العقوبة التي تتعارض مع المواثيق الدولية والمعاهدات التي أمضت عليها تونس”.
عملية “مربحة” للبنوك
وكان الرئيس التونسي شدد في تصريحاته على “ضرورة تحقيق التوازن المنشود بين كل الأطراف، وتمكين المحكوم عليهم أو الذين هم بحالة فرار من مدة زمنية معقولة تتيح لهم تسوية وضعياتهم”.
في هذا الإطار، يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، رضا الشكندالي، إن “الشيكات من دون رصيد عملية مربحة للبنوك”، مضيفا أن “كل عملية ارتجاع لشيك بدون رصيد يتحصل منها البنك على ما يقرب من 150 دينارا تونسيا (حوالي 47 دولارا)”.
ويؤكد الشكندالي في حديثه لموقع “الحرة” أن البنوك التونسية حققت “أرباحا كبيرة” من خلال هذه العملية، مشيرا إلى أن هذه المصارف ليس في مصلحتها أن يلغى مثل هذا القانون.
وحتى أبريل الماضي، تعالج المحاكم التونسية أكثر من 11 ألف قضية شيك من دون رصيد، بما في ذلك ما يقرب من 500 شخص مودع في السجن، وفقا للأرقام الحكومية.
ومع ذلك، تقدّر الجمعية التونسية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، وهي منظمة تجارية تُركز على هذه القضية، أن الذين يقضون أحكاما سالبة للحرية بسبب شيكات من دون رصيد، يصل عددهم إلى 7200 شخص وأن السلطات تلاحق نحو 450 ألف مطلوب في مثل هذه القضايا.
ويقول المتحدث الرسمي باسم الجمعية، عبدالرزاق حواص، في تصريحات صحفية تعود لشهر مارس الماضي أنه “بحسب دراسة أجريناها، وجدنا أن 200 ألف شركة تعرضت للإفلاس منذ عام 2019”.
ويمضي قائلا إن هذا الرقم ارتفع بسبب جائحة فيروس كورونا التي ضربت العالم في ربيع العام 2020، مضيفا: “بعض الشركات تمكنت من تجاوز الأزمة في عامي 2020 و2021، لكن آثار الأزمة ظهرت عام 2023 ولم تعد قادرة على مواجهتها”.
واعتبر حواص أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تمثل 95.7 بالمئة من الاقتصاد التونسي، وهو ما أثر على نسبة البطالة في البلاد.
انتقادات حقوقية
منظمة “هيومن رايتس وواتش” الحقوقية انتقدت، بدورها، هذا القانون السالب للحرية في قضايا الشيكات من دون رصيد، مطالبة السلطات التونسية بإصلاحه.
وتقول المنظمة الحقوقية في بيان، الاثنين، إنه “ينبغي لتونس أن تتبنى تشريعات بشأن الإعسار الشخصي، حيث لا يوجد قانون للإفلاس الشخصي من شأنه أن يوفر الإغاثة للمدينيين الذين يواجهون صعوبات اقتصادية، منهم أصحاب الأعمال في القطاع غير الرسمي”.
واعتبرت مديرة تونس في “هيومن رايتس ووتش”، سلسبيل شلالي، قانون السجن بسبب الديون غير المسدد أنه “أمر تجاوزه الزمن”.
وتقول في البيان إن ذلك “يأتي بنتائج عكسية لضمان استرداد الدائنين لمستحقاتهم؛ فعندما يظل المدينون طلقاء، تكون لديهم إمكانية كسب الدخل لسداد ديونهم تدريجيا مع الاستمرار بإعالة أسرهم”.
وكان البرلمان التونسي تقدم بمشروع قانون للعفو عن المدانين بقضايا شيكات من بدون رصيد وتعرضوا لعقوبات سالبة للحرية، لكن هذا المشروع الذي تقدم به النائب، نزار الصديق، لم ير النور حتى الآن.
ويقول الصديق المؤيد لإلغاء مثل هذا القانون في تصريحات لوسائل إعلام محلية، الأسبوع الماضي، إن الصيغة التي قدمتها الحكومة لتنقيح القانون “ليست في مستوى تطلعات الشعب ولا يعد إصلاحا جذريا ولا يمكنه إصلاح الاقتصاد والمساهمة في عودة المؤسسات الصغرى والمتوسطة للدورة الاقتصادية”.
“زوبعة في فنجان”
ويشير الصديق إلى أن الصيغة المقترحة من الحكومة تضمنت “تخفيفا” لعقوبة السجن دون أن تغير منظومة الشيكات ككل، وفق تعبيره.
أستاذ الاقتصاد، الشكندالي، يعتقد أن ما يحدث في البرلمان ليس سوى “زوبعة في فنجان” وأن مفتاح حل هذه الإشكالية في يد البنك المركزي التونسي.
ويوضح قائلا إن “الحل الأمثل” يتمثل في فرض البنك المركزي لسياسات “إدارية” تنظم هذه العملية من خلال فرض تصنيفات على البنوك حسب درجة الإيفاء بالتعهدات قبل منحهم دفاتر الشيكات على أن يتم نشر تلك التصنيفات في منصات عامة.
ويقول الشكندالي إن “البنوك إذا أرادت أن تحل هذا الإشكال فهي قادرة، لكن ليس من مصلحتها فعل ذلك؛ لأنها تجني أرباح كبيرة جدا”.