ساهر والكتاب مؤنسه، والتفكر في أمر الدواء والأعشاب شاغله، همه الأكبر تصنيف النباتات واستخراج الدواء للأدواء من مساحيق العيدان والأوراق. هكذا كانت حياة ابن البيطار الذي شق طريقه نحو النبوغ العلمي، حين كان الطريق إلى إشبيلية محفوفا بالأخطار، مليئا بالكمائن، وجيوش الصليبيين تُغير على مدن الأندلس.
ويعرض فيلم “ابن البيطار.. شيخ العشّابين” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون”- حياة ابن البيطار وإنجازاته، بوصفه واحدا من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.
أبو العباس بن فرج.. كاشف أسرار النباتات في حدائق إشبيلية
وُلد ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد الأندلسي في مدينة مالقة بالأندلس حوالي عام 593 هـ الموافق لعام 1197م. وكان يتردد على أستاذه أبي العباس بن فرج النباتي في إشبيلية، ليستكشف على يديه أسرار النبات والأعشاب، وظل يتجول مع أستاذه ويتوقفان عند كل عشب أو نبات مختلف، ويدونان كل ملاحظة وكأنهما يجمعان رحيق العلم.
اهتم الفتى بدراسة النباتات منذ صغره، واتخذ من الحدائق والبساتين منطلقا له، فكان شغوفا بكل وريقة وزهرة وبذرة وثمرة، حتى صار عشّابا ماهرا لا يضاهيه أحد في علمه، في حين كانت عائلته تشتغل بالبيطرة؛ أي مداواة الحيوانات، ولعل ذلك أحد أسباب تسميته بابن البيطار. وقد تميّز ابن بيطار بوصفه واحدا من علماء النبات والأدوية الذين لمعت شهرتهم وذاعت في الآفاق.
ابن البيطار.. هجرة من الأندلس في طلب العلم والمجد
كانت تهديدات الصليبيين المستمرة لمدينة مالقة سببا في هجرة ابن البيطار بعيدا عن مسقط رأسه، مُضطرا لا راغبا. يقول الباحث في التاريخ والوثائق عماد أبو غازي: وُلد ابن البيطار في فترة مليئة بالصراعات والاضطرابات، فقد بلغ ما سُمي بحرب الاسترداد في الأندلس مدى بعيدا، في وقت كانت فيه الممالك الإسلامية في مرحلة اضطراب وصراع داخلي، فهو صراع من الجانبين؛ داخل الدويلات الإسلامية التي ما زالت قائمة في الأندلس، وتقدم للممالك المسيحية التي تحاول إعادة السيطرة على أراضي الأندلس.
ومن مالقة إلى بلاد الإغريق والرومان -حيث مواطن الحكماء القدامى مثل غالينوس وأبقراط وديسقوريدس- تنقّل ابن البيطار، قبل أن يستكمل رحلته إلى مصر، وفي القاهرة حظي بإعجاب الملك الكامل الأيوبي الذي كان يجاهد الصليبيين نهارا، ويفرغ لمجالس العلم ليلا، وقد أثبت ابن البيطار كفاءة وسِعة علم في معرفة النباتات والأعشاب واستخداماتها، فكان من أوائل العلماء الذين استخرجوا الأدوية وحضّروها من النباتات.
يقول أستاذ فلسفة العلوم بجامعة الإسكندرية ماهر عبد القادر إن تميّز ابن البيطار دفع الملك الكامل لتعيينه رئيسا للعشّابين والنباتيين في البيمارستان (كلمة فارسية الأصل، تعني مستشفى ومعهد لتدريس الطب)، مما أتاح له الاطلاع على أشياء جديدة، ومن ثم العمل في المعامل على تركيب الأدوية بطريقة علمية صحيحة، وفق الأصول التي كانت معروفة في ذلك الوقت.
ابن البيطار.. رحلة استقصاء الأعشاب في آسيا الصغرى
كان ابن البيطار على يقين من أن عالم النبات غير محدود، فلم يكفّ عن البحث والتنقيب في كل مكان عن الجديد في دنيا الأعشاب.
ومن القاهرة انتقل إلى دمشق، حيث قصد مدرسة “الدخوار”؛ أكبر مدرسة علمية في دمشق في ذلك الوقت. وهناك سنحت الفرصة له ليلم بأعشاب آسيا الصغرى والشام بعد أن أحصى أعشاب مصر والمغرب والأندلس.
لكن الباحث عماد أبو غازي يرى أن انتقال ابن البيطار للشام ومصر جعله ينتقل لمنطقة صراع أخرى، غير أن الفارق تمثّل في أن حضارة الأندلس كانت إلى أفول وتراجع، بينما كانت حضارة المشرق في صعود وانتصار مع الدولة الأيوبية.
ويشير أبو غازي إلى أن ابن البيطار تنقل بين دمشق والقاهرة عاصمتي دولة الأيوبيين، حيث عاش في رحاب بلاط الكامل الأيوبي ثم الصالح نجم الدين أيوب، وأنجز منجزه العلمي الكبير في هذه المرحلة.
ابن البيطار.. وشهادة تلميذه ابن أصيبعة
يُعد ابن أصيبعة أحد أهم تلاميذ ابن البيطار، فهذا الطبيب والكحّال -المولود في دمشق- صحب ابن البيطار في كثير من أسفاره، وتتلمذ على يديه أكثر من 10 سنوات. وقد سجّل ابن أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء” الجانب العلمي في حياة ابن البيطار؛ من مشاهداته للنبات، وجمعه لها، ومعرفة ألوانها وطعومها وروائحها، بغية استخلاص الدواء منها.
يقول ابن أصيبعة عن أستاذه: رأيت من حسن عشرته، وكمال مروءته، وطيب أعراقه، وجودة أخلاقه ورأيه، وكرم نفسه، ما يفوق الوصف ويُتعجب منه.
أما ابن البيطار فيقول عن نفسه: استوعبت جميع ما في كتاب الأفضل ديسقوريدوس، وكذلك فعلت في جميع ما أورده الفاضل غالينوس، ثم ألحقت بقولهما من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والحيوانية والمعدنية ما لم يذكراه.
“الأدوية المفردة”.. خلاصة علوم الأولين وتجارب المؤلف
يرى الباحث في التاريخ والوثائق عماد أبو غازي أن ابن البيطار لم يكن مجرد قارئ ومجمع لكتابات من سبقه من علماء العرب وغيرهم، لكنه عاين بنفسه أنواع الأعشاب، وكتب عنها وعن فوائدها واستخداماتها.
استطاع ابن البيطار أن يُلخّص في كتبه كتب من سبقوه، إلا أن إنجازه العلمي لم يقتصر على التصنيف والتلخيص، بل عمد إلى ابتكار ما يزيد عن 300 دواء جديد، يستأثر هو بفضل ابتكارها جميعا. وعن ذلك يقول: إن الله خلق الجماد والنبات والحيوان ليتخذ منها الإنسان الوسائل؛ وهي الأدوية المختلفة، وأنواع الأغذية.
وفي كتابه الأهم “الأدوية المفردة”، يُصنّف أنواع النباتات واستخدامات كل منها. ويُنظر إلى هذا الكتاب على أنه مهم جدا، ففيه أضاف ابن البيطار أشياء جديدة أهمها ربطه الدواء بالعضو الذي تداويه في الجسم.
يقول ابن البيطار: الثوم إن أكل نيئا أو مشويا أو مطبوخا؛ صفّى الحلق وسكّن السعال المزمن، وإذا أُحرق وعُجن بالعسل؛ أبرأ الدم العارض تحت العين، أما إذا طُبخ مع خشب الصنوبر وأُمسك طبيخه في الفم؛ جفّف وجع الأسنان.
ابن البيطار.. “توخيت صحة النقل فيما أذكره”
صنّف ابن البيطار في كتابه ما يزيد عن ألف نوع من الأعشاب والنباتات، ومع كل نبات كان يسرد كل ما ذكره علماء العرب عنه كالرازي والزهراوي، وعلماء الإغريق والرومان كغالينوس وديسقوريدوس. لكنه في كتابه يؤكد قائلا: وقد توخيت صحة النقل فيما أذكره عن المتقدمين وفيما أُحرزه عن المتأخرين، وما كان مخالفا في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية في المنفعة والماهية نبذته وهجرته مليا.
ويشير أستاذ فلسفة العلوم بجامعة الإسكندرية ماهر عبد القادر إلى أن كتابي ابن البيطار مكملين لبعضهما؛ فكتاب “مفردات الأدوية” مرتب بحسب أعضاء الجسم، أما كتاب “الجامع” فرُتّب بحسب حروف المعجم، وبهذا صنّف النباتات في 28 مجموعة.
تتبع الخرافة.. هنات لا توهن تاريخ شيخ العشابين
لم نعرف على وجه الدقة ما إن كان ابن البيطار قد مارس الطب، وإن رُوي أنه كان يختبر الأدوية على نفسه، ويستشير الأطباء للتأكد من صحة الأدوية التي يصفها، إلا أن حرصه على التجربة والتثبت من المعلومات الصحيحة، لم يمنعانه من الإيمان ببعض خرافات عصره؛ فيصف في كتابه بعض الوصفات التي تتضمن بول الصبيان ولبن النساء المرضعات، وغيرها من المكونات التي لا يستسيغها العقل ولا الذوق.
ومع ذلك فإن أخطاء ابن البيطار لا تقلل من شأنه بوصفه شيخ العشّابين المسلمين، فموسوعته الجامعة تُرجمت إلى لغات العالم، وامتازت بالأمانة العلمية الشديدة في النقل، ورد المعلومات إلى مصادرها.
ولم تقتصر معرفة ابن البيطار على الأدوية العشبية فقط؛ فقد أورد في كتابه عددا من المكونات غير النباتية مثل الكحول والرصاص الأسود والذهب والنحاس وغيرها، كما فرّق بين أنواع التربة واستخداماتها الطبية مثل الطين النيسابوري وغيرها.
ابن البيطار.. أحلام محققة وحلم مؤجل لما بعد الوفاة
ترك شيخ العشابين “ابن البيطار” موسوعة علمية ليس لها مثيل في عصره، جمعها من ترحاله حول العالم من غربه إلى شرقه، وهو الترحال الذي أُجبر عليه بسبب غارات الصليبيين على مسقط رأسه في الأندلس، وقد ساعده على نبوغه العلمي ملوك الدولة الأيوبية، فوفّروا له ما شاء من إمكانات وأكرموه بالمناصب، غير أنهم لم يحققوا له حلمه في النصر المبين على الصليبيين.
تُوفي ابن البيطار عام 646 هـ الموافق لعام 1248 م، بعد حياة امتدت من أواخر القرن الـ12 حتى منتصف القرن الـ13 تقريبا.
ولأنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ فلم تمهل المنية شيخ العشابين، ولو أنها أخّرته عامين فقط لرأى حلمه يتحقق أمامه رأي العين، بهزيمة نكراء تلحق الصليبيين في المنصورة، لكنه معلوم منذ الأزل أنه “لكل أجل كتاب”.