محذرا من التهديد الذي يفرضه الغزو الروسي لأوكرانيا على أوروبا، خرج رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، بتصريحات قوية، اعتبر فيها أن “الحرب لم تعد مفهوما من الماضي”، وأنه للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تدخل القارة العجوز “حقبة ما قبل الحرب”.
وقال توسك في مقابلة الجمعة، مع شبكة “لينا” الإعلامية التي تضم أكبر تحالف للصحف الأوروبية، “الحرب لم تعد مفهوما من الماضي. إنها حقيقة، وقد بدأت منذ أكثر من عامين. والأمر الأكثر إثارة للقلق حاليا هو أن أي سيناريو ممكن الحدوث. لم نشهد وضعا كهذا منذ عام 1945”.
وتطرح تحذيرات المسؤول البولندي، تساؤلات بشأن إمكانيات تحقق سيناريو توسع الصراع المندلع في أوكرانيا إلى دول الجوار، خاصة في ظل التحركات الأوروبية والتصريحات الصادرة عن القادة والمسؤولين الأوروبيين خلال الآونة الأخيرة، والتي تأتي أمام المعطيات التي تكشف عن تفوق ميداني روسي.
خطر “قائم”
الخبير في الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، يؤكد أن احتمالات تطور الأزمة غير المسبوقة بين الدول الأوروبية المنضوية تحت حلف شمال الأطلسي وروسيا إلى مواجهة مباشرة “قائمة”، خاصة أن التوترات الحالية لم يسبق لها مثيل منذ فترة الحرب العالمية الثانية.
ويضيف بركات في تصريح لموقع الحرة، أن خسارات الأوكران في المعارك أمام الروس، تجعل من المستحيل إجراء مفاوضات بالرغم من تعبير مسؤولين غربيين مثل ماكرون عن رغبتهم في الجلوس للتفاوض والتباحث مع بوتين، مشيرا إلى أن المستجدات الأخيرة تعكس أن هناك “تطورا خطيرا نحو اندلاع أزمة أعمق وربما حرب إقليمية”.
من جهته، يرى المحلل السياسي الروسي، ديميتري بريجيه، أن التصريح “جدي وله دلائل على أرض الواقع”، مشيرا إلى أن الاستراتيجيات الروسية المتعلقة بالحرب لن تتوقف على المقاطعات الأربعة التي تم ضمها، وسوف يتم ضم مناطق جديدة مثل أوديسا وهذا قد يصعّد من الوضع”.
وعلى المستوى الثاني، يلفت بريجيه في تصريح لموقع “الحرة”، إلى التهديدات المتبادلة بين روسيا والغرب والتي تفتح الباب أمام “احتمالية الاصطدام المباشر”.
وقال المسؤول البولندي في تصريحاته “أعلم أن الأمر يبدو مدمرا، خاصة بالنسبة لجيل الشباب، لكن علينا أن نعتاد على حقيقة أن عصراً جديداً قد بدأ: عصر ما قبل الحرب. أنا لا أبالغ. لقد أصبح الأمر أكثر وضوحًا كل يوم.
وجاءت تصريحات تاسك بعد أيام من اختراق صاروخ روسي المجال الجوي البولندي خلال هجوم كبير على أوكرانيا، وصفه توسك بـ”الحادث المثير للقلق”، ودفع وارسو إلى وضع قواتها في حالة تأهب قصوى.
لكن بينما تلوح الاضطرابات في الأفق، حذر توسك من أن أوروبا ليست مستعدة لمواجهة التهديد على الرغم من جهودها لتعزيز دفاعها، مضيفا أنه إذا خسرت كييف الحرب فلن يشعر “أحد” في أوروبا بالأمان.
ومنذ أن شنت روسيا غزوها على أوكرانيا في فبراير 2022، تزايد قلق القادة الأوروبيين والمسؤولين العسكريين من احتمال انتقال الصراع إلى دول أخرى على حدودها، رغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نفى مرارا أن اعتزام موسكو مهاجمة دول الناتو.
ووفقا لشبكة “سي ان ان”، فقد قلبت حرب روسيا النظام الجيوسياسي لفترة ما ما بعد الحرب الباردة “رأساً على عقب”، مما أجبر أوروبا على أخذ دفاعها على محمل الجد بعد عقود من تراجع الميزانيات العسكرية، ودفع أيضا الدول الواقعة على حدود روسيا إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة.
وانضمت السويد وفنلندا مؤخرا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي ــ وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تصوره حتى عامين مضت بالنسبة للدولتين الاسكندنافيتين المشهورتين بالحياد.
وفي دول البلطيق، عززت إستونيا وليتوانيا ميزانياتهما الدفاعية بما يتجاوز بكثير الحد الأدنى الذي حدده حلف شمال الأطلسي والذي يبلغ 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. فيما تسعى مولدوفا، التي تقع على الحدود مع أوكرانيا والتي ظلت لفترة طويلة عرضة للتدخل الروسي، للانضمام إلى تكتل الاتحاد الأوروبي.
“رسائل التصعيد”
ومن ناحية أخرى، كان الثلاثي المؤلف من فرنسا وألمانيا وبولندا، أو ما يسمى بتحالف “مثلث فايمار”، يقود الجهود التي تبذلها القارة لإعادة تسليح وحماية نفسها ضد العدوان الروسي.
واجتمع زعماء ألمانيا وفرنسا وبولندا في برلين، وسط الشهر الجاري، لمناقشة دعم أوكرانيا ومحاولة التنسيق، بعد أشهر من الخلافات على نقاط أساسية بشأن الحرب في أوكرانيا وقضايا أخرى.
وخلال هذه القمة، حاولت القوى الأوروبية الثلاثة إعادة تفعيل التنسيق بعد توتر العلاقات في ظل الحكومة القومية السابقة في بولندا، كما سعت إلى إرسال إشارة للوحدة، في الوقت الذي تواجه فيه كييف نقصا في الموارد العسكرية، وفيما كان بوتين يستعد لانتخابه لـ6 سنوات جديدة في الكرملين.
في هذا السياق، يقول الخبير في الشؤون الأوروبية، بركات، إن التصعيد الأوروبي وتواصل الدعم العسكري لأوكرانيا يكشف أن من المحتمل أن تتجه الأمور نحو مواجهة مباشرة، خاصة في حالة إرسال طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا، وهو ما تعتبره موسكو مشاركة فعلية من الناتو في الحرب.
ويربط بركات في تحليله بين التصريحات التي أدلى بها المسؤول الأوروبي، وخرجات الأمين العام للناتو والتي أشار فيها مرارا إلى أنه “لا يجب أن تنتصر وتكسب روسيا الحرب، إضافة إلى تصريحات مسؤول الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل وغيرهما، من رؤساء وقياديين بدول غربية تذهب في الاتجاه ذاته”.
من جانبه، يرى ديمتري بريجيه، أن التحركات الأوروبية الأخيرة، تشير إلى مخاطر تصاعد الأزمة إلى مستويات أكثر توترا، والتي قد تؤدي في النهاية إلى صراع عسكري، وذلك في ظل التهديدات المتبادلة بين روسيا والغرب، بالإضافة إلى الخطاب العسكري والسياسي الذي يتبادله الطرفان، ما يجعل التحذيرات الصادرة من السلطات البولندية أكثر جدية.
ومع ذلك، يقول بريجيه، يجب أن نتذكر أن هذه التصريحات قد تستغل أيضا لأغراض سياسية، سواء كان ذلك لتعزيز التحالفات الإقليمية أو لزيادة الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات أكثر حزمًا ضد تهديدات روسيا المحتملة.
لذلك، يمكن أن يكون لهذه التصريحات “أبعاد بروباغندا”، وفقا للمتحدث الذي يشير كذلك إلى أن الخطر الحالي المتعلق بالتوترات بين روسيا والغرب “يبرّر بالفعل التحذيرات الجادة التي أدلى بها رئيس الوزراء البولندي”.
“بروباغندا الحرب”
في سياق متصل،الباحث المتخصص في الشؤون الأوروبية، يرى لخضر فرات، أن التصريحات الأخيرة من الجانبين “تندرج ضمن بروباغندا الحرب”، وتحضير الرأي العام الغربي لاحتمال تدخل بلدان الناتو لدعم أوكرانيا أو على الأقل لـ”تجميد الصراع”.
ويضيف فرات في تصريح لموقع “الحرة”، أن المواجهة المباشرة بين روسيا ودول حلف الناتو ستكون “خطيرة جدا على الأمن العالمي”، حيث إنها لن تكون كما هو الشأن في الحربين العالميتين السابقتين، بالنظر إلى تكنولوجيا الأسلحة الحالية وأيضا التهديدات النووية المدمرة، والتي لا تترك أمام الجانبين أي فرصة لفتح الباب لصراع مباشر.
ويؤكد فرات، أن التصريحات الأخيرة تبقى ضمن ما يسمى “تسخين للرأي العام وبروباغندا الحرب”، ولا يستبعد أن تكون “دعوة للجلوس على طاولة المفاوضات لإيجاد حل لهذه الأزمة”، خاصة في ظل تصريحات أخرى تحدث فيها مسؤول رفيع بالناتو أن الحلف لن يتدخل إلا إذا تم استهداف إحدى دوله، بموجب اتفاق الدفاع المشترك.
ويوضح المتحدث ذاته أن تصريحات رئيس الوزراء البولندي، تحمل “أهدافا مختلفة”، وقد تكون أيضا ورقة للضغط من أجل “تقديم المزيد من الدعم”، خاصة وأنها تتزامن مع حديث الرئيس الأوكراني، عن تأخر الدعم وعن إمكانية تراجع قواته.
وقال زيلينسكي في مقابلة منشورة، الجمعة، إن أوكرانيا إذا لم تحصل على المساعدات العسكرية التي وعدتها بها الولايات المتحدة وتعرقلها خلافات في الكونغرس، فسيكون على قواتها التراجع “بخطوات صغيرة”.
والدعم الذي تحتاج اليه أوكرانيا بشدة عالق في الكونغرس منذ العام الماضي وتسبب بنقص في الذخيرة للجنود الأوكرانيين على خطوط الجبهات.
ويعرقل مجلس النواب بقيادة الجمهوريين مساعدة بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا وسط ضغوط من دونالد ترامب بشأن طريقة إدارة الرئيس جو بايدن، للحدود الأميركية الجنوبية.
وأضاف الرئيس الأوكراني لصحيفة واشنطن بوست “إذا كان الدعم الأميركي غير موجود، فيعني ذلك أننا ليس لدينا دفاعات جوية، أو صواريخ باتريوت، أو أجهزة تشويش للحرب الإلكترونية، أو طلقات مدفعية من عيار 155 ملليمترا”.
وتابع “يعني ذلك أننا سنتراجع، سنتقهقر، خطوة تلو الأخرى، بخطوات صغيرة”. وتابع “نحاول العثور على سبيل ما كي لا نتراجع”.
وبينما ظل الرئيس الأميركي، جو بايدن، ثابتا في دعمه لأوكرانيا، قال الرئيس السابق دونالد ترامب الشهر الماضي إنه إذا أعيد انتخابه في نوفمبر، فإنه سيشجع روسيا على فعل “كل ما يريدونه” لأي عضو في الناتو لا يلتزم بإرشادات الإنفاق على الدفاع في الحلف.
وقال توسك تعليقا على الموقفين المتباينين: “مهمتنا هي تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، بغض النظر عمن سيكون الرئيس الأميركي”.