أحدث الهجوم المباغت لحركة حماس في السابع من أكتوبر بما تخلله من عنف وبما استولده من قلق بشأن الرهائن صدمة جماعية في أوساط المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش أزمة صحة نفسية غير مسبوقة.
وكشفت دراسة نشرت في مجلة “ذي لانسيت” الطبية البريطانية بتاريخ 5 يناير أن كل سكان إسرائيل “تعرضوا بطريقة أو بأخرى لتداعيات هذا الهجوم غير المسبوق من حيث النطاق وهول الصدمة النفسية”.
وتطرقت الدراسة إلى “صدمة نفسية وطنية جسيمة” نظرا لعدد الأعراض التالية للصدمة وحالات الاكتئاب والكرب، ما يؤشر إلى “أثر ملحوظ” على الصحة النفسية للإسرائيليين.
ومنذ اليوم الذي نفذت فيه حماس هجومها في شوارع جنوب إسرائيل ومنازله، تضاعفت تقريبا الاتصالات التي يتلقاها خط الطوارئ “عران”، بحسب ما كشفت شيري دانييلز المسؤولة في هذه المنصة الهاتفية والإلكترونية للإسعافات النفسية.
وأسفر هجوم حماس غير المسبوق في السابع من أكتوبر عن مقتل أكثر من 1160 شخصا، معظمهم مدنيون، بحسب تعداد لوكالة فرانس برس يستند إلى آخر الأرقام الرسمية الإسرائيلية.
وردا على الهجوم، تعهدت إسرائيل القضاء على الحركة، وتنفذ منذ ذلك الحين حملة قصف مدمرة أتبعت بعمليات برية منذ 27 أكتوبر، ما تسبب بمقتل 27238 شخصا، معظمهم من النساء والأطفال، بحسب آخر حصيلة لوزارة الصحة التابعة لحماس.
وخُطف نحو 250 شخصا خلال هجوم حركة حماس ونقلوا إلى قطاع غزة، وفق السلطات الإسرائيلية. ولا يزال 132 رهينة منهم محتجزين، فيما أعلن الجيش الإسرائيلي أن 27 منهم لقوا حتفهم.
وقد فجع هذا الهجوم البلد على نحو غير مسبوق وما زال مصير الرهائن الـ 132 يعكر على الإسرائيليين عيشهم.
فبالإضافة إلى الناجين الذين قاسوا الأمرّين، تشكلت “دوائر هشاشة واسعة جدا”، بحسب دانييلز التي تطرقت إلى وضع عناصر الإسعاف والشرطة وعائلات الضحايا والرهائن. كما إن “الجميع في إسرائيل يتعاطف مع الضحايا”.
“أكبر أزمة”
ولفتت دانييلز إلى وضع الأولاد الذين لا يتركون أهلهم عند حلول الليل أو البالغين الذين يستولي عليهم القلق وينهشهم الندم لعدم قدرتهم على إنقاذ أقربائهم حتى باتوا يعجزون عن التركيز.
وكشف المدير العام لوزارة الصحة موشيه بار سيمان طوف أن من أصل السكان المقدر عددهم بـ 9,7 ملايين، تعرّض 100 ألف لحوادث قد تسبب صدمة نفسية منذ السابع من أكتوبر. وقد نزح حوالى 200 ألف شخص.
واعتبر وزير الصحة أوريئيل بوسو من جهته أن دولة إسرائيل التي أعلن قيامها سنة 1948 تواجه بكل بساطة “أكبر أزمة صحة نفسية في تاريخها”، علما أن القطاع كان أصلا يعاني من “فجوة ضخمة”.
وفي العام 2022، كان 30 في المئة من المراهقين الإسرائيليين يعانون من اضطرابات نفسية جسدية، بحسب منظمة الصحة العالمية التي ربطت هذا الامر بآثار جائحة كوفيد-19.
وما زال التقييم الفعلي للحاجات النفسية سابقا لأوانه اليوم، فالأخيرة لا تتجلى سوى بعد التعرّض للعامل المحرك ولا تؤخذ في الحسبان إلا إذا استمرت أكثر من شهر، بحسب ما أوضحت العالمة النفسية ميلكا أدرعي من جمعية “وان فاميلي” التي تقدم العون لضحايا الهجمات في إسرائيل.
لكن التعرض للحدث ما زال مستمرا، إذ تضم كل عائلة إسرائيلية تقريبا جنديا بين أفرادها، من العسكريين الدائمين أو الاحتياطيين الذين يشاركون في العمليات في غزة. وقد لقي 224 منهم حتفه في المعارك.
إحياء الذكريات
وأشارت أدرعي إلى أن “حماس تستخدم الترهيب سلاح حرب” لبلوغ الجماعة عبر الفرد و”إفجاع جماعة من خلال إحياء صدمات الماضي”، مثل تلك المرتبطة بـ “موجات التهجير المتتالية والحروب ومحرقة اليهود”.
ورأت سوزي شبريشير، وهي عالمة فيروسات متقاعدة، أن الأطفال المحتجزين في غزة وعلى الأرجح في دهاليز قاتمة “أعادوا إلى الواجهة” روايات الناجين من الهولوكوست غير المسموعة.
وقالت المرأة الثمانينية في حديث مع وكالة فرانس برس “في أحد الأيام، كنت وحيدة في المنزل وأصابني الانهيار”. فقد عاد فجأة “الصمت المطبق” ليحرك ذكريات الطفلة التي اضطرت إلى الاختباء خلال الحرب العالمية الثانية، مقرونا بـ “شعور بالخذلان”.
وقالت “أعرف كيف يشعر المرء عندما لا يكون بين ذراعي والدته… صمت ينطبع في الوجدان”.
تواصلت شبريشير مع جمعية “ألوميم” للأطفال الذين اضطروا إلى الاختباء في فرنسا إبان محرقة اليهود. ومثلها، شارك إسرائيليون كثر في مجموعات للكلام أو جلسات علاجية من خلال اللمس عندما تعذّر عليهم الكلام.
وفي ظل الحاجات المتفاقمة والنقص الفادح في الاختصاصيين، أعلنت الحكومة الإسرائيلية حملة للتوظيف وقررت في منتصف يناير منح موارد إضافية لقطاع الصحة النفسية بقيمة 1,4 مليار شيكل (أكثر من 350 مليون يورو).
ويحشد المجتمع المدني صفوفه لمواجهة هذا الوضع. وقد استخدمت خوذات للواقع الافتراضي لأغراض علاجية. وحظي القاصرون الذين حرروا من الاحتجاز في نوفمبر برعاية غير مسبوقة في مركز شنايدر في تل أبيب.
وتقول شيري دانييلز “نسعى إلى سد ثغرات النظام”.