وصية لموت معلن في الضفة الغربية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 5 دقيقة للقراءة

لم يكن في الثمانين أو السبعين، ولا حتى في الستين أو الخمسين من العمر، بل مقبلا على الحياة أيما إقبال لكنه آثر أن يكتب وصيته، ومثله يفعل كثير من شباب الضفة الغربية المحتلة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الحرب على غزة، كما كتبت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في تحقيق بقلم جدعون ليفي بعنوان “الشباب بات يكتب وصيته في الضفة الغربية”.

ويرصد التحقيق الأيام الأخيرة للشاب عبد الرحمن عابد، الذي قتل نهاية يناير/كانون الثاني الماضي على يد جنود الاحتلال.

لم يترك عبد الرحمن تفصيلا -تقول هآرتس- إلا وتناوله في وصيته التي كتبها بخط يده الرفيع، واستودعها صديقا له “ادفنوني سريعا، ولا تتركوني في ثلاجة الموتى”، و”اختاروا لي أفضلَ صوري لنعيي في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تنسوا آية من القرآن”، و”لا تبكوني”، و”ابقوا قليلا عند قبري بعد دفني.. لكن لا تحزنوا واحتفظوا لأنفسكم بأفضل ذكرياتي”.

لا يتمالك إياد حداد -وهو أحد محققي منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان- نفسه من البكاء، وهو يترجم لصحفي هآرتس نص الوصية.

رأى كثيرا من القتل الذي تعرض له الفلسطينيون في سنوات عمله الـ24 مع المنظمة -تقول هآرتس- لكن نياط قلبه تتقطع لوصية ولد لم يبلغ 18 بعد.

أما الأب عبد الرحيم، فيقف واجما بعينين حزينتين جفتا من الدمع.

عيد لم يكتمل

كان عبد الرحمن على أعتاب عيد ميلاده الـ18، حين أنهت رصاصة إسرائيلية حياته منتصف يوم 29 من يناير/كانون الثاني الماضي، ومعه حلم دراسة الطب، الذي كان يسهر له الليالي الطوال.

خرج في ذلك اليوم إلى ما ظن أنه يوم آخر، وتبين أنه يومه الأخير.

قتل برصاصة واحدة من جندي أو شرطي إسرائيلي في بلدة سلواد وهو في طريق عودته من المدرسة.

أتعبت البلدة -التي ينحدر منها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الخارج- الجيش الإسرائيلي، بروحها المقاومة، تضيف هآرتس.

150 مترا

7 من أبناء البلدة قتلوا في السنوات الخمس الماضية مثلما قتل عبد الرحمن.

لم يكن عبد الرحمن ليعود إلى البيت إلا بعد أن سمع من وسائل التواصل الاجتماعي أن الجيش أخذ يغادرها بعد اجتياحها صباحا.

لكن عربتيْ جيب إسرائيليتين كانتا في الشارع الذي انتهى إليه في تلك اللحظة، حسب إياد حداد محقق “بتسيلم”، وكان بين وُرش بضع فيلات عدد من الأطفال يتحينون فرصة رشق العربتين بالحجارة.

رصاصة واحدة انطلقت من اتجاه سيارتيْ الجيب أصابت عبد الرحمن في الصدر، ثم غادرت العربتان بـ”أبطالهما” مسرعتين -تضيف هآرتس- وليس قبل أن تعصف بحياة ولد فلسطيني وحياة عائلة بأكملها.

الشرطة الإسرائيلية ردت على استفسار هآرتس عن ملابسات الحادث ببيان مألوف “خلال إحدى عملياتها، اشتبهت قوات الأمن في إلقاء زجاجة حارقة على أفرادها بما يهدد حياتهم، وقد أطلقت رصاصة على المشتبه به، وجرى تحييد الخطر”.

رغم أن عبد الرحمن كان على بعد 150 مترا من عربتي الجيب، وما كان ليستطيع أن يصيبهما لو أراد، وعلى افتراض ضلوعه في الحادث أصلا.

شاهد عيان كان في شرفة بيت قريب، ورفض كشف هويته قال للصحيفة الإسرائيلية إن الهدوء التام خيّم على المكان لحظة الحادث بعدما ملأ السماء الغازُ الإسرائيلي المدمع.  وحدها الرصاصة القاتلة القادمة من جهة عربتي الجيب مزقت الصمت، حسب تعبيره.

سائق سيارة إسعاف فلسطيني كان ينتظر في مكان قريب (كعادة فرق الإسعاف عند كل اجتياح) رأى عبد الرحمن يخر أرضا، وأدركه حيا لكن لوقت قصير فقط، تقول هآرتس.

“نم قليلا!”

كان عبد الرحمن (وهو الابن البكر لعبد الرحيم وإنعام عيد) مديد القامة ووسيما.

كان شغوفا بكرة كرة القدم، لكنه فضل أن يولي دراسته كل اهتمامه في الأشهر الأخيرة من حياته، على أمل الظفر بعلامات مرتفعة في اختبار التوجيهي والظفر بمنحة جامعية.

يتذكر الأب أنه يوم مقتله همّ بإيقاظه في السادسة صباحا، لكنه آثر أن يتركه ينام قليلا، بعد أن قضى ساعات طويلة من الليل عاكفا على كتبه.

اعتقد الأبوان عندما تلقيا أول اتصال بعد الحادثة أن الأمر يتعلق بابنهما الآخر سليمان (15 عاما) الذي يعمل في ورشة بناء في سلواد، فقد كانا مطمئنين إلى أن عبد الرحمن في المدرسة.

لكن أحد إخوة الأب اتصل به، وطلب منه أن يهرع إلى المستشفى الحكومي في رام الله فـ”قد جُرح عبيدة (اسم تحبيب عبد الرحمن)”.

سارع الأب إلى مهاتفة ابنه “المصاب” ورد عليه الإسعافي، وطمأنه على حاله، لكنه في الاتصال الثاني وصف الإصابة بالحرجة.

عندما أدرك الأب المستشفى، كان الابن قد فارق الحياة.

على أحد جدران غرفة جلوس بيت العائلة الصغير عُلقت صور عبد الرحمن، وفي جدار آخر صور خال وعم له قتلهما جيش الاحتلال أيضا.

كان الخال في مثل سنه تماما، حين أردته رصاصة إسرائيلية قتيلا في 1998، لكنه لم يفكر أن يكتب وصيته قبل موته.

لم يتفشّ الموت حينها تفشيه هذه الأيام.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *