في غرفة الاستقبال بمقر حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني، تكوّمت فوق طاولة القهوة نسخ من “تحقيق في المسألة اليهودية”، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات من صحيفة “ديربورن إندبندنت” الأمريكية.
كان ذلك الأمر سيكون عاديا لو أن كاتب تلك المقالات لم يكن “هنري فورد”، صاحب علامة “فورد” للسيارات، فخر الأمريكيين جميعا، وهو تفصيل دقق فيه الباحثون ليثبتوا علاقة محتملة جمعت بين “فورد” و”هتلر”، إلى جانب تفاصيل أخرى استغلها في منتصف تسعينيات القرن الماضي محامون ينوبون ضحايا الهولوكوست لمقاضاة شركة “فورد موتور” المصنعة للسيارات، التي أسسها “هنري فورد”.
في العام 1998، كتبت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أن “أدولف هتلر” قال لمراسل صحيفة “ديترويت نيوز” قبل عامين من توليه منصب المستشار الألماني سنة 1933: أنا أرى “هنري فورد” مصدر إلهام لي.
وكانت تلك الإجابة توضيحا من “هتلر” عن سبب احتفاظه بصورة لصاحب شركة صناعة السيارات الأمريكية بجوار مكتبه، ونقلت صحيفة “ذي أتلنتيك” الأمريكية أن “هتلر” قال في العام 1923: إننا نرى “هاينريش فورد” زعيما للحركة الفاشية المتنامية في أمريكا. ونحن معجبون بشكل خاص بسياسته المعادية لليهود التي تمثل برنامج الفاشية البافارية.
ذكرت الصحيفة أيضا أنه حين طُرح “هنري فورد” مرشحا ديمقراطيا محتملا لمنصب الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية، قال “هتلر” إنه يتمنى أن يتمكن من نشر “بعض القوات الخاصة في شيكاغو وغيرها من المدن الأمريكية الكبرى، للمساعدة في الانتخابات”.
تبدو القصة خرافية، لكنها حقيقية. فكيف لزعيم الحزب النازي الذي ما يزال شبحه يخيف الشطر الغربي من العالم، ويذكّره بأكثر الحروب الدموية التي خاضتها الإنسانية، أن يلهمه أمريكي وضع أحد الأعمدة التي غيّرت الاقتصاد والمجتمعات في العالم؟ وكيف لابن مزارع تربى في مزرعة قبل أن يؤسس إمبراطوريته في مجال صناعة السيارات أن يشعّ اسمه حتى انتزع اعترافا له بالعظمة من “الفوهرر”؟
ساعة ومحرك بخاري.. الشعلة التي أوقدت الحلم الأكبر
ولد “هنري فورد” سنة 1863 في مزرعة والده في ديربورن التابعة لولاية ميشيغان، وكانت عائلته متوسطة الدخل، لكنها لم تكن فقيرة. يقول “هنري” في مذكراته “حياتي وعملي”: كان هناك كثير من العمل اليدوي الشاق في مزرعتنا وفي جميع المزارع الأخرى في ذلك الوقت. وعندما كنت صغيرا جدا، كنت أظن أن كثيرا من الأعمال يمكن فعلها بطريقة أفضل، وهذا ما دفعني إلى دراسة الميكانيكا. في تلك الأيام لم تكن لدينا ألعاب اليوم، ما كان لدينا كان مصنوعًا في المنزل، كانت ألعابي كلها أدوات حديدية، وكل جزء من تلك الأدوات بمثابة كنز.
يعترف “هنري” أنه لم يكن شغوفا بالدراسة ولا بالاختصاصات النخبوية، فقد كان يريد العمل في مجال يقدم خدمة كبيرة لأكبر عدد من الأشخاص في العالم، ولم يجد أنفع من الميكانيكا لتقديم تلك الخدمة، وقد أدرك ذلك منذ وقت مبكر من عمره.
يقول في مذكراته: كان أكبر حدث في تلك السنوات الأولى هو تقاطعي في الطريق مع محرك بخاري على بعد حوالي ثمانية أميال من ديترويت في أحد الأيام عندما كنا مسافرين إلى المدينة، وكان عمري حينها 12 سنة. والحدث الأكبر الثاني هو امتلاك ساعة، وقد حدث في نفس العام.
أتذكر ذلك المحرك وكأنني رأيته بالأمس، لأنه كان أول مركبة رأيتها في حياتي غير التي تجرها الخيول، كان المقصود من تصنيع ذلك المحرك في المقام الأول قيادة آلات الحرث، وكان مجرد محرك محمول وأسطوانة غليان مثبتة على عجلات مع خزان مياه وعربة فحم تجر خلفها.
لقد رأيت الكثير من هذه المحركات تجرها الخيول، ولكن هذا المحرك كانت به سلسلة تربط بين المحرك والعجلات الخلفية للإطار الذي يشبه العربة، وقد صنعت ذلك المحرك البخاري شركة “نيكولس أند شيبارد” (Nichols & Shepard Company). لقد كان هذا المحرك هو الذي أخذني إلى عالم النقل بالسيارات. حاولت أن أصنع نماذج منه، وبعد بضع سنوات صنعت نموذجا يعمل بشكل جيد للغاية.
حين بلغ “هنري” 13 عاما، شُغف بإصلاح الساعات، وأتقن ذلك العمل في سن مبكرة، وقد بدا شغفه بعيدا كل البعد عما خطط له والده، وهو أن يرث مهنة المزارع مثله، لكنه لم يبد أي اهتمام بالزراعة، وكان كل ما أراده أن يغوص في عالم الآلات.
وحين بلغ 17 عاما، ترك المدرسة للعمل في شركة (Dry Dock Engine Works). يقول “فورد”: كنت أحب العمل الذي يتطلب دقة، وكنت أميل لإصلاح الساعات، لذلك عملت ليلا في محل مجوهرات، وظننت أني أستطيع صناعة ساعة صالحة للخدمة مقابل حوالي 30 سنتا، وكدت أن أبدأ في هذا المشروع، لكنني لم أفعل، لأنني اكتشفت أن الساعات ليست من الضروريات العالمية، ولذلك لا يشتريها أغلب الأشخاص.
“كانت لدي فكرة صنع سيارات بخارية تحل محل الخيول”
في العام 1879، عمل “هنري فورد” مع ممثل محلي لشركة “وستنغ هاوس” في اختصاص تركيب وإصلاح المحركات الآلية. يقول “فورد” في مذكراته “حياتي وعملي”: خلال عملي في الشركة، لم يزعجني في تلك المحركات إلا وزنها الثقيل وكلفتها العالية، كان وزنها بضعة أطنان، وكانت باهظة الثمن لا يمتلكها إلا مزارع لديه مساحة كبيرة من الأرض. وحتى قبل ذلك الوقت، كانت لدي فكرة صنع نوع من السيارات البخارية الخفيفة لتحل محل الخيول، ولكن -على وجه الخصوص- لتكون جرارا للقيام بأعمال الحرث الشاقة للغاية.
ألهمت محركات شركة “وستنغ هاوس” الفتى “هنري” بتجربة صناعة محرك بخاري لتشغيل عربة، وكان يعلم أن تلك المحركات تستعمل في إنجلترا لتشغيل ما يشبه المقطورات، ففكّر في استنساخ تلك التجربة، لكنه تخلى عنها بسبب أن الطرقات في الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مهيئة بالشكل المناسب لسير تلك العربات كما هو الشأن في بريطانيا حسب قوله. أما السبب الثاني، فهو كلفته العالية، فلن يستطيع شراءه إلا عدد قليل من المزارعين الأثرياء، لذلك رأى أن تلك الفكرة لا تستحق عناء التجربة.
لم يدم عمل “هنري فورد” في شركة “وستنغ هاوس” إلا عاما واحدا فحسب، فقد رأى أنه ليس هناك ما يمكن للجرارات والمحركات البخارية الكبيرة أن تعلمه إياه. يقول “فورد”: عندما كنت متدربا قبل بضع سنوات، قرأتُ في مجلة عالم العلوم عن محرك الغاز الصامت “أوتو”، وكان يُصنّع آنذاك في إنجلترا. وفي العام 1885، أصلحتُ محرك “أوتو” في “شركة إيغل آيرون ووركس” (Eagle Iron Works) في ديترويت، ولم يكن أحد في المدينة يعرف شيئا عن تلك المحركات. أعطاني ذلك فرصة لدراسة المحرك الجديد بشكل مباشر، وفي العام 1887 صنعت محركا على نموذج “أوتو” رباعي الدورات، لأعرف هل فهمت مبدأ عمله أم لا.
“كانت إنجازا مزعجا لدى الناس”.. ميلاد السيارة الأولى
عاد “هنري فورد” إلى مزرعة والده، وكان قد قرر أن يفتح ورشة عمل ميكانيكية هناك، مع أن والده قدم له عرضا يتمثل في منحه أربعين فدانا مقابل التخلي عن عمله في اختصاص الميكانيكا، وقد وافق بشكل مبدئي حتى يضمن شيئا من الاستقرار المادي بعد زواجه، ولكنه عاد في العام 1890 للتجربة مرة أخرى، وصنع محركا ذي أسطوانة مزدوجة، وبعد ذلك أنهى صناعة سيارته الأولى التي شبهها بالعربات التي تجرها الدواب.
يقول “هنري فورد”: كانت عربة البنزين التي لدي هي السيارة الأولى والوحيدة في ديترويت، وظلّت كذلك زمنا طويلا، وقد كانت حينئذ إنجازا مزعجا لدى الناس، لأنها تحدث ضجة تخيف الخيول، كما أنها تعطل حركة المرور لأني إذا أوقفتها في أي مكان في المدينة، يتجمع حشد من الناس حولها قبل أن أتمكن من تشغيلها مرة أخرى، وإذا تركتها في الشارع ولو لدقيقة واحدة، يحاول دائما بعض الأشخاص الفضوليين تشغيلها، لذلك كان عليّ أن أحمل سلسلة وأربطها بعمود الإنارة كلما تركتها في أي مكان.
وبعد ذلك حدثت مشكلة مع الشرطة، لا أعرف السبب تحديدا، لأن انطباعي هو أنه لم تكن هناك قوانين تحدد السرعة في تلك الأيام. على أي حال، كان علي أن أحصل على تصريح خاص من عمدة المدينة، وبذلك استمتعت فترة من الوقت بكوني السائق الوحيد المرخص له في أمريكا.
قمت بتشغيل تلك الآلة مسافة ألف ميل تقريبا خلال العامين 1895-1896، ثم بعتها لـ”تشارلز أينسلي” من ديترويت مقابل 200 دولار، وكان ذلك أول بيع لي. لقد صنعت السيارة ليس من أجل بيعها، بل من أجل تجربتها فقط. أردت أن أبدأ بصناعة سيارة أخرى.
صناعة السيارة الثانية.. مشروع لم يكتب له النجاح المأمول
بدأ “هنري فورد” صناعة سيارة ثانية في العام 1896، وكانت تشبه إلى حد كبير سيارته الأولى، لكنها أخف قليلا. يقول “فورد”: لقد تعلمت الكثير من تلك السيارة. في البداية كانت العربة التي لا تجرها خيول مجرد فكرة غريبة، ولم يفكر أي رجل من أصحاب رؤوس الأموال في اعتبارها إمكانية تجارية، لم يكن هناك أي شخص تقريبا يشعر بأن السيارة يمكن أن تكون عاملاً كبيرا في الصناعة.
في 15 أغسطس/ آب 1899، بدأ “فورد” العمل في تجارة وتصنيع السيارات، وكان ذلك بمثابة مغامرة لديه، فلم تكن لديه أموال للاستثمار، فقد استخدم كل مدخراته المعيشية في تجاربه السابقة، لذلك قَبِل أن تصنع سيارتَه التي صممها شركةُ “ديترويت للسيارات”، التي ستصبح فيما بعد شركة “كاديلاك”، وقد شغل “فورد” في ذلك الاتفاق منصب كبير المهندسين.
وخلال مدة ثلاث سنوات، واصلت الشركة صنع السيارات على طراز سيارته الأولى، وبيع عدد قليل جدا منها. وفي مارس/ آذار 1902، قدم “فورد” استقالته، وقرر أن لا يضع نفسه تحت الأوامر بعد ذلك، وأن يخوض تجربته بنفسه.
بدأ “فورد” العمل بحُرية في متجره الجديد الذي استأجره، ولم يكن إلا مبنى من الطوب ذا مساحة محدودة، لكنه على العكس من مصانع الشركات التي عمل بها، أفرد جناحيه بحرية كاملة في ذلك المصنع الصغير، فجعله طيلة عامين كاملين مختبرا له، من أجل تطوير محرك رباعي الأسطوانات.
“آلة ستحظى بإعجاب الرجل والمرأة والطفل”.. إعلان “فورد”
أسس “هنري فورد” شركة “فورد للسيارات” في العام 1903، وصنع طرازين من السيارات، الأولى تحمل اسم “999” والثانية “السهم”، وركّز على أن يتميّز النموذجان بالسرعة، لكنه بتأسيسه شركة فورد للسيارات، لم يكن حرا بشكل فعلي، فقد أسند له منصب نائب الرئيس، إضافة إلى مهامه مصمما وميكانيكيا، ولم يكن يملك إلا 25% من أسهم الشركة، وهو ما يجعل قراراته غير نافذة داخلها.
يقول “فورد” في مذكراته: في العام 1906، اشتريت من الأموال التي كسبتها في الشركة ما يكفي لرفع أسهمي إلى 51%، وبعد ذلك بقليل اشتريت ما يكفي ليعطيني 58% من أسهمها، وفي عام 1919 اشترى ابني “إدسل” النسبة الباقية.
في العام 1903، تأسست شركة “فورد للسيارات”، وبدأت تصنيع سيارة أطلق عليها “الطراز أ” وبيعت بـ850 دولارا، وأطلقت الشركة إعلانها الأول لتسويق سياراتها. يقول الإعلان “هدفنا بناء وتسويق سيارة مصممة خصيصا للاستخدام اليومي، للاستخدام التجاري والمهني والعائلي، سيارة ستصل إلى سرعة كافية لإرضاء الشخص العادي دون اكتساب أي من تلك السرعات الفائقة التي تُدان عالميا، آلة ستحظى بإعجاب الرجل والمرأة والطفل على حد السواء، بسبب صغر حجمها وبساطتها وسلامتها”.
كان ذلك الإعلان يمثل صميم فلسفة “هنري فورد” التي كتبت له المجد في مجال تصنيع السيارات.
سيارات “فورد”.. سياسات تسويق ذكية تلتهم السوق الأمريكية
بين 1905-1906، صنعت شركة “فورد” نموذجين فقط من السيارات، أحدهما السيارة ذات الأسطوانات الأربع، وكان ثمنها ألفي دولار، أما الطراز الثاني فكان سعره ألف دولار، وكان منتصف العام 1908 فترة الحظ لشركة “فورد” للسيارات، حين استطاعت من تجميع أكثر من 300 سيارة في ستة أيام فقط.
يقول المؤرخ “أندري كاسبي” في دراسة له بعنوان “هنري فورد ملك السيارات”: ميزة سيارة “فورد” من طراز “ت” التي صنعتها شركته في تلك الفترة، هي سعرها الذي لم يزل ينخفض من 825 دولارا عام 1908، إلى 690 دولارا عام 1911، ثم 490 دولارا سنة 1914. واستمر انخفاض سعرها حتى بلغ 360 دولارا عام 1916، ثم 290 دولارا عام 1924.
وإذا استحضرنا سعر شراء الحصان في تلك الفترة الذي يصل إلى 300 دولارا، فإن شراء سيارة “فورد” يعد صفقة جيدة جدا، وهذا هو السر البسيط لنجاح “هنري فورد”. نتيجةً لذلك، استحوذت شركة “فورد” على حصة متزايدة من السوق الأمريكية، حتى بلغت 61% عام 1921.
وكانت شركة “فورد” أيضا تصنع الجرارات التي أصبحت من المعدات الأساسية للمزارعين، والأفضل من ذلك، تركيب “هنري فورد” خطوط تجميع متنقلة في مصانعه. والحق أنه لم يخترع نموذج الإنتاج الضخم، ولكنه منذ عام 1913 كان قادرا على إدخال السلسلة المتحركة في صناعة السيارات، فبدلا من العمل في مجموعات حول الجسم والمحرك، يقوم كل عامل بجزء خاص من مهمة التصنيع، في حين يمر المنتج أمامهم بواسطة السلسلة المتحركة.
إن نمط الإنتاج هذا مستوحى من نظريات “فريدريك تايلور” الذي يكن “فورد” إعجابا كبيرا به، وهو يوفر فرص عمل للعمال الأقل مهارة، ويزيد الإنتاج ويخفض أسعار الإنتاجية.
ذاع صيت “هنري فورد”، وفي ظرف عقد من الزمن أو أكثر بقليل، كسب إعجاب أكبر أعداء أمته، ألا وهو “أدولف هتلر”.
ترسانة النازية.. وثائق تكشف عورات شركة “فورد”
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، نبش محامون -ينوبون عن ضحايا الهولوكوست- أرشيف ألمانيا خلال الحكم النازي، ليثبتوا تهما لاحقت شركات مالية وصناعية بتمويل الحزب النازي، ولاحقت تلك التهم البنك السويسري وشركة “جنرال موتورز” وشركة “فورد” للسيارات.
وقد كتبت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية عام 1998: خلال الحرب العالمية الثانية، اكتسبت شركات السيارات سمعتها بوصفها ترسانة الديمقراطية، من خلال تحويل خطوط إنتاجها لتصنيع الطائرات والدبابات والشاحنات للجيوش التي هزمت “أدولف هتلر”، وفي المقابل تنكر تلك الشركات أن مصالحها التجارية الضخمة في ألمانيا النازية قادتها -قصدا أو عن غير قصد- إلى أن تصبح أيضا ترسانة الفاشية.
وكان من تلك الشركات المصنعة للسيارات التي دعمت ترسانة “هتلر” الحربية، شركتا “جنرال موتورز” و”فورد” الأمريكيتين، وقد سيطرتا على 70% من سوق السيارات في ألمانيا حين اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939.
تقول الصحيفة: مع كل ذلك الإنكار، تُظهر الوثائق المكتشفة في الأرشيف الألماني والأمريكي صورة أكثر تعقيدا بكثير. في بعض الحالات -حسب تلك الوثائق- وافق المديرون الأمريكيون في “جنرال موتورز” و”فورد” على تحويل مصانعهم الألمانية إلى الإنتاج العسكري، في الوقت الذي تُظهر فيه وثائق الحكومة الأمريكية أن هؤلاء المسؤولين الأمريكيين كانوا يقاومون دعوات إدارة “روزفلت” لزيادة الإنتاج العسكري في مصانعهم في الداخل الأمريكي.
وحسب الصحيفة ذاتها، فقد اتهم تقريرٌ للجيش الأمريكي -أعده المحقق “هنري شنايدر” بتاريخ 5 سبتمبر/ أيلول عام 1945- الفرعَ الألماني لشركة “فورد” بالعمل ترسانةً للنازية، بتصنيع المركبات العسكرية لألمانيا، بموافقة من الشركة الأم في ديربورن الأمريكية.
مركبات الجيش الألماني.. شركات أمريكية تنخرط في الحرب
لم يكن خفيا أن “هنري فورد” كان معجبا بألمانيا النازية، وعارض دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب، وفي يوليو/ تموز 1938، قبِل “فورد” أن يتقلد أعلى وسام تمنحه ألمانيا النازية لأجنبي. وفي الشهر التالي، نال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة “جنرال موتورز” ميدالية مماثلة، وهو “جيمس موني”، وذلك تقديرا “لخدمته المتميزة للرايخ”.
تقول صحيفة “واشنطن بوست”: كان فرع شركة “فورد” الألماني ثاني أكبر منتج للشاحنات للجيش الألماني بعد “جنرال موتورز”، وفقا لتقارير الجيش الأمريكي. لقد تجاوزت أهمية شركات صناعة السيارات الأمريكية، صنع الشاحنات للجيش الألماني.
ويذكر تقرير “شنايدر” -وهو متاح الآن للباحثين في الأرشيف الوطني- أن شركة “فورد” الأمريكية وافقت على صفقة مقايضة، منحت الرايخ (ألمانيا) إمكانية الوصول بشكل أكبر إلى كميات كبيرة من المواد الخام الإستراتيجية، ولا سيما المطاط. يقول المؤلف “سنيل” إن قائد الأسلحة النازي “ألبرت سبير” أخبره في عام 1977 أن “هتلر” لم يكن ليفكر أبدا في غزو بولندا، لولا تكنولوجيا الوقود الصناعي التي قدمتها شركة “جنرال موتورز”.
وفي يونيو 1940، استخدم “هنري فورد” شخصيا حق النقض ضد خطة وافقت عليها الحكومة الأمريكية، لإنتاج محركات “رولز رويس” للطائرات المقاتلة البريطانية، وفقا لروايات نشرها شركاؤه، حسب الصحيفة. وفي المقابل، يقول تقرير لصحيفة “ذي أتلانتك” إن “أدولف هتلر” نفى أي تمويل من شركة “فورد”، لكنه لم يُخفِ إعجابه الشديد بـ”هنري فورد” الذي كان يراه ملهما له.
“رجل عظيم واجه وحده حدّة اليهود”.. شهادة باهظة الثمن
تعود علاقة شركة “فورد” بالنظام النازي إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ففي تلك الفترة تنافست شركات السيارات الأمريكية للوصول إلى السوق الألمانية المربحة، وكان “هتلر” معجبا بتقنيات الإنتاج الضخم الأمريكية، ومتابعا لكل المقالات التي كتبها “هنري فورد” في صحيفة “ديربورن أندبندنت” حول اليهود.
يقول الباحث “نيل بالدوين” في دراسة بعنوان “هنري فورد واليهود”: كان “فورد” نموذجا لـ”أدولف هتلر”، وذلك منذ إقامته في ميونيخ أوائل العشرينيات من القرن الماضي، بل يحتمل -كما ذكر المؤرخ “نورمان كوهن” في كتابه- أن كتابات “فورد” كانت أكثر ما تسبب في شهرة ما سمي بروتوكولات حكماء صهيون. في المجلد الثاني من كفاحي، أشاد “هتلر” بـ”فورد”، وقال إنه رجل عظيم واجه وحده حدّة اليهود.
يقول المؤرخ “أندري كاسبي” إن الحملة الصحفية التي قادتها صحيفة “هنري فورد”، انتهت فجأة في يناير/ كانون الثاني 1922، بسبب تضرر صورة علامة “فورد” التجارية، ولأن منتجي الأفلام في هوليود هددوا بإظهار سيارة فورد من طراز “ت”، في مشاهد حوادث اصطدام أو انقلاب.
وقد استؤنفت المقالات التي نشرتها صحيفة “ديربورن أندبندنت” حول اليهود عام 1924، وانتهت بعد ذلك بثلاث سنوات في أروقة المحاكم، ودفع “هنري فورد” تعويضات، واعتذر لليهود في رسالة طويلة.