“موت حكواتي كحريق مكتبة”، تعبير متداول في الوسط الثقافي بالمغرب يعكس قيمة فن الحلْقة في التراث الثقافي للبلاد، خصوصا في ساحة جامع الفناء بمدينة مراكش، حيث يستمر ثلة من محترفي هذا الفن الشعبي في استقطاب عشاقه من الصغار والكبار.
ويقاوم هذا الفن الشعبي الذي تتنوع عروضه بين الحكاية والفكاهة والألعاب البهلوانية وألعاب الحيوانات تحديات العصر، رغم منافسة عروض المسرح في شكله الحديث التي محله وههو ما تسبب في تراجع عدد محترفيه.
لذلك، خلفت وفاة “الحلايقي” (حكواتي شعبي) محمد المسيح، الاثنين، حزنا في الأوساط الفنية المغربية، إذ يعتبر الراحل أحد الوجوه البارزة في فن الحلقة بمراكش واشتهرت لسنوات بقفشاته إلى جانب رفيق دربه عبد الإله المسيح.
ونعى مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي الفنان الراحل، الذي وافقته المنية بعد صراع طويل مع المرض، وتحسروا على وفاة واحد من “أعمدة فن الحلقة” بمراكش.
وقال مدون “يعد الراحل من أعمدة فن الحلقة بجامع الفنا، حيث تميز بأسلوبه الفريد وحضوره القوي، واستطاع أن يجذب جمهورا واسعا، محافظا على هذا الفن التراثي الذي يجسد روح الثقافة المغربية الأصيلة”.
فن يعود إلى القرن الـ11
ترجع بعض الكتب التي تناول فن الحلقة تاريخ ظهور هذا الفن إلى القرن الـ11، تاريخ تأسيس ساحة جامع الفنا بمراكش، وتعتبره أحد أقدم فنون الفرجة بالمغرب، كما تجمع على نجاح فنانيه في مواكبة مختلف الأحداث التي شهدتها البلاد.
وتعرف موسوعة “معلمة تاريخ المغرب” فن الحلقة بأنه “مجلس ترفيهي يتحلق فيه الناس في السوق أو الساحة العمومية حول قاص أو مغن أو منشد أو بهلواني يبهر العيون ويستهوي الأفئدة”.
والحلقة في اللغة، كل شيء استدار، لذلك أطلق المصطلح على تجمع وتحملق الناس حول الراوي، في شكل دائري يثير فضول المارين بجانبه.
وكان هذا الفن الشعبي الفرجوي حاضرا في عدد من الكتب التي تناولت تاريخ المغرب، من بينها كتاب “وصف إفريقيا” للحسن بن محمد الوزان الذي كتبه عام 1526 وتطرق فيه إلى مختلف الفنون التي اشتهرت بها مدينة فاس خلال تلك الفترة.
وساعد في انتشار هذا الفن بالمغرب التوقيت الشمسي المعمول به في البلاد حينئذ، حيث كان الصناع التقليديون والحرفيون يشتغلون من شروق الشمس إلى العصر، ويحضرون بعد ذلك فنون الحلقة التي كانت تنظم في الأسواق وفي الساحات العمومية كساحة جامع الفناء بمراكش، كما انتشر حينها لقلة وسائل الترفيه.
وتنقل الموسوعة المغربية جانبا من مظاهر فن الحلقة بمدينة سلا، المحاذية للعاصمة الرباط، موضحة أنها “تمتلئ من العصر إلى الغروب حيث يكثر فيها القصاصون والممثلون الذين يقدمون قصصا قصيرة وملحا طريفة عن طريق الحكي الفردي أو الجماعي المصحوب أحيانا بالدف والبندير أو الكنبري (آلة وترية يعزف عليها المعلم في موسيقى كناوة) أو عن طريق الحوار بين اثنين أو جماعة يمثلون منافرة البدو والحضر”.
قواعد وأساليب
ويميز محمد شحاته علي عثمان، في كتابه “الراوي والحلقة والتغير الثقافي بساحة جامع الفنا”، بين أربعة قواعد يستند إليه كل راوي، وهي الجرأة والثبات ويعني به عدم سقوط “الحلايقي” في الاستفزاز و”المركة” وتعني الحكي دون خجل أو استحياء.
ويقول أيضا إنه لا بد للحلايقي من مقدمة وعقدة، ويوضح أن حكاية الحلقة قد لا تنهي في يومه، بل قد تستمر في شد انتباه المتفرجين لأيام قبل حلها، كما يعتمد الحلايقي بشكل كبير على توظيف الخيال لتكييف بعض القصص الأسطورية مع الثقافة المحلية في تناغم مع الجمهور.
British Ambassador @UKSimonMartin held a Halqa in Jamaa Elfna! 🇲🇦🌴
An amazing cultural celebration gathering 40 world storytellers in #Marrakech during the International Storytelling Festival where he told the tale of Churchill’s love story with the city. pic.twitter.com/JqXjMVxems
— UK in Morocco (@UKinMorocco) February 17, 2022
سفير بريطانيا بالمغرب، كليف ألدرتون، يفاجئ عشاق فن “الحلقة” بجامع الفنا بمراكش، حينما قام بتنشيط إحدى “الحلقات”، حكى فيها عن قصة عشق، جمعت رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل بمدينة مراكش.
المغرب🇲🇦 بلاد الفن و الحضارة pic.twitter.com/zT0TBu6wE1— محمد جليل Mohamed Jalil (@Simhmd_jalil) February 17, 2022
لذلك، يصف شحاته الحلايقي بأنه “حامل لمعرفة مجتمعية وخبير بها” وبأنه “يعرف كل شيء عن جمهوره ما يضحكه ويقلقه وما يوثر فيه”، كما يقول عنه إنه فنان “متعدد المواهب، يتقن عددا من فنون القول والمرح والارتجال مثل المسرح والشعر والكوميديا والحكايات”.
ولعل ذلك ما يجعل مهنة الحكواتي مهنة صعبة، لا يحيط بها إلا من له القدرة على الحفظ، والتمثيل وتقنيات السرد والحكي.
تحديات واهتمام
بعد ساعة أو ساعات من الحكي المتواصل، يجود جمهور الحلقة على الحكواتي بدريهمات معدودات، يعدها وقد يضطر لتقاسمها مع من شاركه العرض.
دريهمات لم تعد كافية اليوم لتأمين حياة كريمة للحكواتي التي يعاني كغيره من تداعيات ارتفاع الأسعار وتقلبات الأسواق، ولعل لذلك ما دفع بأبناء جيل الرواد إلى اختيار مهن أخرى لتأمين عيشهم.
وإلى جانب ذلك، وعلى اعتبار أن فن الحكي موهبة قبل كل شيء، تراجع عدد محترفي هذا الفن وقلّت الحلقات بساحات مراكش وفاس ومكناس في العشرين سنة الماضية ولا يستبعد أن تكون وسائل الاتصال الحديثة السبب أيضا في هذا التراجع.
تحديات انتبهت لها منظمة اليونسكو منذ عام 2001، سنة تصنيف ساحة جامع الفنا ضمن قائمة التراث العالمي للإنسانية، اعترافا بقيمة صناع الفرجة والترفيه فيها.
وتحاول السلطات المغربية من جانبها حماية هذا الفن من خلال تنظيم مهرجانات سنوية خاصة بالحكواتين، من بينها المهرجان الدولي لفن الحكاية الذي ينظم بمراكش والمهرجان الدولي مغرب الحكايات الذي نظمت دورته الـ11 مؤخرا بالعاصمة الرباط.
المصدر: موقع الحرة