في أحد أيام شهر أبريل/ نيسان 2015، ألقت الشرطة الأمريكية القبض على ثلاثة ضباط من إدارة السجون في ولاية فلوريدا، بتهمة التخطيط والرصد لقتل سجين أسود سابق يُدعى “وارن ويليامز”. هذا ما نشرته الصحف ووسائل الإعلام في تلك الأثناء، لكن ما أُفصح عنه فيما بعد، هو الهوية الفكرية لهؤلاء الضباط؛ فقد كانوا أعضاء في أخوية “كو كلوكس كلان” (Ku Klux Klan).
تلك الجماعة السرية التي تأسس كيانها في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية، بالتعاون بين “ناثان بيدفورد فورست” الضابط في القوات الجنوبية، وبين عدد من القادة العسكريين القُدامى في الجيش الفيدرالي آنذاك، لتبدو هذه الجماعة السرية كأنها تسعى لاستعادة مجد الجنوب الأمريكي القديم، في ظل تصاعد موجات التحرر من العبودية.
تُرى هل كان يُدرك مؤسسي هذه الأخوية ما يُخبئه القدر لأعضائها اللاحقين من أحداث قد تدفع مصير الولايات المُتحدة لمُنعطف مُغاير؟
هذه الجماعة الغامضة هي محور الفيلم الوثائقي الأمريكي “فارس الصقر الكبير.. التسلل داخل كو كلوكس كلان” (Grand Knight Hawk: Infiltrating the KKK)، الذي أخرجه “دوغ لوني” (2023)، لشبكة “إيه بي سي” الإخبارية الأمريكية.
يتناول الفيلم هذه القضية المُثيرة، ويسعى لإزاحة الستار عن تفاصيلها الثرية، وهي ليست كاشفة فقط عن أسلوب التعامل الأمني هنالك مع تلك النوعية من القضايا، لكنه ينطلق لما هو أعمق، ويُزيح اللثام عن كم لا بأس به من العنصرية، التي لا تزال كامنة داخل المُجتمع الأمريكي، وتبرز صورها بين حين وآخر، على الرغم من محاولات الطمس المُتعمدة.
افتتاحية الفيلم.. مدخل مشوق إلى عالم الغموض المثير
يفتتح الفيلم بمُقدمة مُتدفقة الإيقاع قبل كتابة العنوان وأسماء الفريق، وتحوي أكثر من مقطع تظهر فيه بعض الشخصيات المُتناثرة التي سنلتقي بها لاحقا خلال توغلنا في السرد، كل من هؤلاء يقول كلمة أو جملة ما، إذا ارتبطت بما يسبقها أو ما يليها، يُمكننا أن نفهم السياق العام، المُراد التعبير عنه، فنحن أمام جريمة قتل عنصرية، وبذلك يتواءم هذا المدخل مع البناء العام للفيلم، القائم على الغموض والإثارة. وهكذا اختار الفيلم أن يُفتتح بهذه البداية الجذابة، التي تشي بقصة ما لا تخلو من الإثارة والريبة كذلك.
عندما يشرع “جايسون ديرين” الصحفي الاستقصائي لوكالة “أسوشييتد برس”، بتتبع مسار قضية القبض على الضباط الثلاثة العاملين في سجن “فلوريدا”، يُفاجأ بورود رسالة على بريده الإلكتروني من شخص ما يُدعى “جو مور”، يصرح بامتلاكه تلالا من المعلومات المهولة عن هذه القضية، والأهم هو معرفته العميقة بأسرار تلك الجماعة العنصرية.
وعند هذا المشهد يبدأ الفيلم الكشف عما يُخبئه في جعبته، فما هذا الرجل سوى ضابط أمن سري لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وقد زُرع وورط عمدا في صفوف هذه الجماعة السرية، للإيقاع بأعضائها المُستترين، فالعالم الذي يتناوله الفيلم ويضعه تحت المجهر عنصري، يحمل كرها وبُغضا نحو الآخر بصورة واقعية لا تقبل المساس بمصداقيتها.
وحتى يتمكن السرد من قول ما يرغب في الوصول إليه، لجأ إلى ثلاثة محاور أساسية، ارتكز عليها، الشق الأول يتعلق بالمكان ذاته، ومدى تأثير أبعاده المُعبئة بمزيج تاريخي جغرافي واضح وجلي، وهنا ننتقل للشق الثاني، ألا وهو الناحية التاريخية، ليس للمكان فحسب، بل لأخوية “كو كلوكس كلان” كذلك. أما العنصر الثالث في التناول، فهو يتماس مع التحقيقات الدائرة في القضية وكشف مُلابساتها الغامضة، التي تتوازى مع العناصر السابقة، وتنصهر معا في وحدة عضوية واحدة.
وكر العنصرية.. فلوريدا التي لا نراها في الإعلام
“عندما أخبر الناس أنني من فلوريدا، يُفكرون في شواطئها وأشجار النخيل وديزني، لكن ليست هذه فلوريدا التي نشأت فيها”. هذا ما تُصرح به الكاتبة والناشطة الحقوقية “تاميكا برادلي هوبر”، فما يعنى به الفيلم ويرصده بعناية هو فلوريدا الأخرى البعيدة عن الصورة الذهنية التي صُدرت سنوات عبر الأفلام السينمائية والوسائل الدعائية.
فالنسبة الكبرى من سكان هذه الولاية الجنوبية البعيدة عن المركز، هم من العنصر الأبيض، وتُقدر نسبتهم بنحو 83% من إجمالي القوة البشرية المُشكلة للتعداد السكاني، بينما يبلغ العنصر المقابل 17%، ولهذا فقد بدت هذه الولاية، رقعة خصبة لنمو الحركات العنصرية، وهذا هو المقصد من بين سطور الجملة السابقة.
يستكمل خيطَ الحديث “جايسون ديرين”، فيستطرد في التعبير عن البيئة العامة للمكان، ويصف بإسهابٍ الطبيعةَ الزراعية لهذه الولاية الجنوبية، وأن الريف هو المُسيطر عليها، وكأن النظام الحضري والصناعي الأمريكي تركها خلفه، ومن ثم بدت المدينة بحكم طبيعتها الجغرافية موطنا لهذه الحركات العنصرية.
رفضت الإدارة العامة للسجون السماح للفيلم بالتصوير، لذا تنتقل الكاميرا لاختلاس لقطات لأسوار السجن الكبير الذي يحتجز قطعة كبيرة من أراضي الولاية لمساحته الفضفاضة، وحينها يأتينا التعليق الصوتي، بأن هذه المدينة تقوم النسبة الكبرى من اقتصادها القومي على ما تُنتجه إدارة السجون، إذ تحتوي على أكثر من 150 مُنشأة، ويقبع بداخلها حوالي 80 ألف سجين، نصف تعدداهم من السود، مع أن البيض هم الأغلبية السكانية. وبذلك يُقدم الفيلم تشريحا هادئا ومتوازنا لهذا المكان المُخادع المُسمى جغرافيا باسم فلوريدا.
وفي هذا الإطار يواصل “تيريل هيل” محامي عائلة “ويليامز” المُشتبه في مقتله، قائلا: “شمال فلوريدا أكثر ريفية بشكل ملحوظ، فهي عبارة عن أراض زراعية كبيرة المساحة، ذات تاريخ قديم”.
ولايات الجنوب الأسود.. خبايا يتداخل فيها التاريخ والجغرافيا
يتعرض الفيلم بشكل مباشر لجريمة القتل المزعومة ضد أحد السجناء السود، وقد وُجهت أصابع اتهامها نحو 3 من ضباط السجون الأمريكيين، ينتمون سرا لجماعة “كو كلوكس كلان” العنصرية. وبناء على ما سبق، يتسلل السرد إلى عمق هذه الجماعة، سعيا لفهم ماهية أفكارهم ومُعتقداتهم، حتى يتسنى الإدراك الكامل لأبعاد الفيلم، لذا ينبغي العودة للوراء قليلا، لتمام المعرفة.
وهنا يطرق السرد سؤالا جوهريا، ألا وهو من هؤلاء؟
يسرد الفيلم قبسات متنوعة، عبر مشاهد أرشيفية تنوعت مصادرها، ما بين الأفلام السينمائية التاريخية واللقطات التوثيقية، لكنها تحوي ثراء معلوماتيا عن تاريخ هذه الأخوية التي يرتدي أفرادها زيا موحدا، مثل غطاء الرأس المُدبب لأعلى، والسترة البيضاء المدثرة للجسد كله، وبذلك الزي تبدو هيئتهم أقرب لجنود الحملات الصليبية في القرون الوسطى.
وهنا يتداخل التاريخ والجغرافيا، للتعبير عما وراء الفيلم، فيندمجان معا بحرفية واضحة لا غبار عليها، فبعد توحيد ولايات الشمال والجنوب في اتحاد واحدة، جنحت الولايات الجنوبية نحو السلام بعد أن هزمها الجيش الشمالي، وقد احتوت هذه المناطق حينها على قطاع كبير من السكان السود، في مقابل التعداد الأبيض المناهض لهذه الموجات السمراء.
ومن ثم نشأت العنصرية المُضادة لهذا العرق من ذاك، وتزايدت هذه الاتجاهات العنصرية في ظلال الحقوق الممنوحة لأصحاب البشرة السمراء بعد الاستقلال، في هذه الأجواء نشأت أخوية “كو كلوكس كلان” المُناهضة لكل ما ليس أمريكيا أبيض اللون.
“أف بي آي”.. محاولة الإيقاع بالإمبراطورية غير المرئية
أثناء محاولات التأسيس الأولى، أقدمت الجماعة على القيام بعمليات إعدام وتعذيب مُمنهجة للأمريكيين الأفارقة، مما ساهم في بزوغ إحساس عام بالرعب والهلع داخل المُجتمع حينها، وظلت الأخوية تعمل في الخفاء سنوات وعقودا، بل حتى يومنا هذا، فلا أحد يُدرك على وجه التحديد من هم أعضاؤها، فالسرطان ينتشر في الداخل الأمريكي، دون أن يعرف أحد أين تقع رأسه من قدميه.
يقول “جيسون ديرين”: “عندما ينضم عضو كلان إلى المنظمة، فإنه يلتحق بشيء ما يُدعى الإمبراطورية غير المرئية”. مشيرا بذلك لأسلوب عملهم الغامض، وقدرتهم على الاختباء والتمويه، ومن هنا يبرز أحد عناصر قوة هذه الأخوية، وهي قدرتها على الانكماش داخل شرنقة ذاتية، لا يقدر أحد على الولوج إليها.
وحتى تتمكن المباحث الفيدرالية من الإيقاع بأعضاء هذه المُنظمة، كُلّف “جو مور” -وهو أحد الضباط السريين- باقتحام الخلايا الداخلية للأخوية، ومحاولة خداعهم بكونه واحدا منهم، وهنا ينتقل الفيلم لأبعاد أخرى لا تخلو من الإثارة والتشويق، ليجيب السيناريو -عبر أكثر من طبقة سردية- على السؤال الرئيسي القائم عليه الفيلم، وهو كيف أوقع بهؤلاء الضباط المُنتمين سرا لهذه الجماعة؟
“جو مور”.. عميل يقلد بوسام فارس الصقر الكبير
يستعين الفيلم بمقاطع الفيديو وتسجيلات المكالمات الهاتفية التي استقبلها “جو مور” من الضباط الثلاثة، وكلها تكشف عن رغبتهم في إنهاء حياة السجين الأسمر “وارن ويليامز”، والسبب ما هو إلا خلاف تطور إلى شجار، أثناء تأدية “ويليامز” عقوبته في سجن الولاية، لكنها تكشف عما هو أعمق من رغبتهم واندفاعهم للقتل، وهو الشحوم العنصرية المُحملين بها داخل ذواتهم، فلدى المُجتمع الأمريكي منها فائض كبير يحتاج إلى ممارسة حمية قاسية عنه، بحسب ما سيظهر لاحقا.
وهنا يلجأ المُخرج لأسلوب المقابلات التليفزيونية الأرشيفية، بما يتناسب تماما مع الطبيعة العامة للمادة المعروضة، لا سيما ونحن أمام جريمة كانت وقائعها في الماضي القريب، ولذا يُعاد تصوير أغلب المشاهد الواقعية مُجددا، حتى يكتمل الإيهام، وليتداخل الواقعي -المتمثل في التسجيلات الصوتية وغيرها من المشاهد المصورة خلسة عبر كاميرات المراقبة- مع المتخيل الذي يُمثل المشاهد المُعاد أدائها، فنصبح أمام مزيج جذاب من التوليفة السينمائية، يكشف عن حرفية إخراجية لا يُمكن إنكارها.
وبعد زراعة “مور” ليكون عنصر تجسس داخل الأخوية، وثّق صلته بزعمائها، ليحرز بناء على هذه الثقة مرتبة “فارس الصقر الكبير”، وهي درجة أشبه بالرتبة العسكرية العليا، ومن يصل لهذا المنصب يستطيع بسهولة ويسر أن يطلع على سجلات الأعضاء وبياناتهم. وهنا يقع بطلنا على كنز حقيقي، سيساعده لاحقا في تتبع مسار القضية.
فنحن أمام جماعة تُحيط بها طبقات متراكمة من الغموض الكثيف، ولا بد لنا من إزاحته ولو قليلا، وهذا ما يسعى الفيلم إليه ولو بقدر ضئيل، فنرى بعض المشاهد المتناثرة عن عمليات حرق الصليب الخشبي، وهو تقليد يتخذه أفراد الجماعة طقسا أساسيا، ومثله القسَم بالدم، وينص على التصفية الدموية لمن تراوده نفسه بإفشاء نُتفة يسيرة من أسرار الأخوية، وهنا أصبحت حياة “جو مور” فوق صفيح مُلتهب، تحفه التهديدات المُتلاحقة بالقتل والانتقام.
مشاعر الفرح والحقد.. فخ يرمي بالضباط الثلاثة وراء القضبان
وفق إيقاع بوليسي لاهث، يُتابع الفيلم إزاحة الستار عن كواليس القبض على الضباط الثلاثة، وكيفية الإيقاع بهم، فقد زُيفت صورة فوتوغرافية يظهر من خلالها “وارن ويليامز” مُلقى مُضرجا بدمائه المُتخثرة، مما حدا بالضباط الثلاثة أن يظهروا ذات ردود الأفعال الممزوجة بالفرحة والحقد تجاه الضحية بعد معرفتهم بما حدث، وذلك ما يُثبت تورطهم الفعلي في الجريمة، بينما كل ذلك غير حقيقي.
ولكي تكتمل المصيدة، أودعت الأجهزة الأمنية “ويليامز” ووالدته في أحد الفنادق، وأحاطته بحراسة مُشددة، وهنا أصبحت القضية مُكتملة أركان الاتهام.
ولكي يُخفف الفيلم من هذه الأجواء المُحملة بشعاب لا تنتهي من التوتر، لجأ لالتقاط وتصوير المقابلة الوحيدة التي دارت بين ضابط الأمن “مور” والضحية “ويليامز”، بعد انتهاء فعاليات القضية، وإصدار أحكامها على المتهمين بالسجن أعواما عددا تراوحت بين 4-12 سنة لكل منهم.
تبادل الأدوار.. رعب يلاحق الضابط السري والضحية
في لقاء المنقذ “جو مور” والضحية “وارن ويليامز”، نرى أحاسيس مُختلطة ومُضطربة تُسيطر على “مور” أثناء اللقاء مع الرجل الذي سعى عدة أشهر لإنقاذه من موت مُحقق، لتتحول حياة ضابطنا السري على إثر هذه القضية إلى النقيض الآخر، ويُصبح مطلوبا التخلص منه، وتلك لعبة تبادل أدوار، لا يملك أحدهما خيارا فيها، فالجميع تحت مقصلة هذه الجماعة، وهي لا تفرق بينهما.
لكن أهم ما يقتنصه الفيلم في هذه المُشاهد المُتعاقبة، هي الآثار الناتجة عن هذه العملية الإرهابية. إذ يسعى السرد للتعبير عما وصل إليه “ويليامز” بعد القضية، فالمشاهد المتوالية تكشف ولعه بتأليف المقاطع الموسيقية وكتابة القصائد الشعرية، في حين أنه ما يزال قابعا في منزله، ولا يكاد يُغادره. وهنا نُدرك التأثير الجانبي للحادثة، فقد أصبح الخوف والرعب يُكبلان حياته بشكل ملحوظ.
ومن ثم يُشير الفيلم بأسلوب صريح ومُباشر لردود أفعال الجانب الآخر المفعول به، من توابع هذه السياسات العنصرية المُمنهجة، وما يُمكن أن يحدث من خلف تلك المُمارسات.
تنتقل الكاميرا بعد ذلك لعرض بعض المشاهد المُلتقطة لمظاهرات جماعة “كو كلوكس كلان” في عدة أنحاء من الولايات المتحدة، ومقتبسات من النشرات الإخبارية كذلك عن انتشار هذه الأخوية، وعند هذه النقطة يدق الفيلم ناقوس خطر، ليبحث عمن يُنصت إليه، عن مدى التأثير الفعال لهذه الجماعات المنتشرة في نسيج المجتمع، فالأوضاع الداخلية تبدو على غير ما تظهر به، فالعنصرية ما تزال تتوغل وتتصاعد موجاتها، مما يكشف عن عوار وتراخٍ لدى المؤسسات الحكومية الأمريكية وداخل المنظومة ذاتها.
فيا تُرى هل يُمكن تدارك الوضع؟ أم سنستيقظ في صباح أحد الأيام على أخبار خروج الجنوب الأسود عن سطوة الشمال الأبيض؟