حالة مرضية “قاتلة” تتربص بالناجين من الزلازل، منهم من خسر حياته بسببها ومنهم من ينتظر مصيره بين “البتر” والموت.. إنها متلازمة الهرس أو السحق التي لا تقل رعباً عن أي مرض خطير.
فبعد أشهر قليلة فصلت الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سوريا، في فبراير الماضي، هز زلزال آخر المغرب قبل أيام بقوة 7 درجات.
ويكتشف عدد كبير من الناجين من الزلازل، أن الموت الذي كان يلاحقهم تحت الأنقاض لم يستسلم بمجرد إنقاذهم، بل عليهم مصارعته في جولة أخرى لكن هذه المرة من على سرير المستشفى، فسقوط كتل ضخمة وضغطها على أطرافهم أو أعضاء من جسمهم لفترة زمنية، هي السبب الرئيسي للمأساة الجديدة التي يواجهونها، بحسب ما يؤكد طبيب الأمراض الداخلية في مستشفى السلام حارم، حسام قره محمد.
الإصابة بمتلازمة الهرس لا تتعلق بالمدة الزمنية كما يؤكد قره محمد، شارحاً لموقع “الحرة” أنه “قد يصاب بها شخص نتيجة حادث سير إثر تعرضه لضغط قوي على أطرافه أو أعضاء من جسمه لثوان معدودة، أو من خلال الضغط على طرفه لمدة يوم أو يومين وأكثر، فالأمر يتعلق بحجم الأذية وكمية الطاقة المفرغة في الجسم خلال فترة ما”.
كذلك شرح طبيب جراحة العظام والمفاصل والعمود الفقري، نزيه طعّان، لموقع “الحرة” أن هذه المتلازمة تنتج عن “تعرض العضل إلى صدمة قوية، كسقوط كتلة عليه أو إصابته بضربة قوية أو تأثره نتيجة سير الشخص أو ركضه لمسافة طويلة تفوق قدرته، إذ حينها يتلف العضل ويتحول بروتين الميوغلوبين داخله إلى مواد سامة تنتقل خلال الدورة الدموية إلى الكلى فيغلق مجراها”.
وبلغ عدد الضحايا جراء الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز جنوب مراكش، ليل الثامن إلى التاسع من سبتمبر، 2946 قتيلا و5674 جريحا، وفق آخر حصيلة رسمية، صدرت مساء الأربعاء.
ووقع الزلزال ليل الجمعة السبت، وكان بقوة 7 درجات، بحسب المركز المغربي للبحث العلمي والتقني (6.8 وفق هيئة المسح الجيولوجي الأميركية)، وهو أقوى هزّة يتم قياسها في المغرب على الإطلاق. وضرب خصوصا قرى نائية في مناطق جبلية معزولة.
مكمن الخطورة
أصيب عدد كبير من ضحايا الزلزال الذي ضرب شمال غرب سوريا في فبراير الماضي بهذه المتلازمة، وإن كان كما يقول قره محمد “لا يوجد إحصاءات دقيقة، لكن أغلب المرضى الذين لم يتوفوا تحت الأنقاض دخلوا في هذه المتلازمة ومنهم للأسف من فارق الحياة”.
ويشرح “تنتج متلازمة الهرس عن انقطاع التروية الدموية عن طرف أو عضو ما، ما يؤدي إلى تموته ودخوله في سلسلة من سلاسل الغنغرينة، وهي الغنغرينة الغازية التي تستهدف الأنسجة العضلية العميقة، وتتسبب بإفراز الجراثيم السامة وإطلاق الغازات، وعند عودة التروية الدموية إلى الطرف المصاب، تنتقل مادة الحطام العضلي “الميوغلوبين” إلى الكلية فتعطل عملها ما يصيب المريض بقصور كلوي”.
نتيجة القصور الكلوي “ترتفع نسبة الكرياتينين وهي مادة سامة في الدم، وتضطرب شوارد الجسم وأهمها البوتاسيوم، وإذا لم يتم إخضاع المريض لغسيل كلى إسعافي لضبط هذه المادة القاتلة قد يتوقف قلبه عن النبض ويفارق الحياة”.
فخطورة متلازمة الهرس تكمن بحسب قره محمد “بتسببها بإصابة المريض بالفشل الكلوي الحاد أي عجز كليتيه عن تنقية الفضلات من الدم، بالتالي تتزايد مستويات الفضلات الخطرة التي يسببها الطرف المصاب بأذية، ما يحدث خللاً بالتركيب الكيميائي للدم”، ومن اعراض مرض الكلى كما يشرح “التعب الشديد، الغثيان، التقيؤ، التشجنات العضلية، صعوبة التركيز، تورم حول اليدين او الكاحلين والوجه، كثرة التبول، جفاف الجلد”.
كذلك يشير طعّان إلى أن “هذه المتلازمة تؤدي إلى الفشل الكلوي، واضطراب عملية الأيض، كارتفاع نسبة البوتاسيوم وانخفاض نسبة الكالسيوم، والإصابة بالحماض الأيضي الذي يؤثر على القلب”.
كيفية اكتشاف الإصابة
قد لا تظهر أعراض على المصاب تشير إلى إصابته بمتلازمة الهرس، لكن بعد مراقبته واجراء الفحوص يمكن اكتشاف الأمر بحسب ما يقوله قره محمد، شارحاً “أي شخص يتعرض لكتلة ضاغطة على أطرافه يجب أن يخضع لمراقبة لا تقل مدتها عن 12 ساعة إذا كان سليماً نظرياً، وفي حال وجود كدمات على جسده يجب إخضاعه لإجراءات محددة إن كان على مستوى أشعة الصدر والبطن، أو الطبق المحوري للصدر والرأس، أو الطبق المحوري الماسح، لتقّيم الأطراف كما يجب إجراء تحاليل للكلى ومراقبة الصادر البولي الذي يعتبر أحد أهم المؤشرات، فلون البول الداكن المائل إلى الأسود يشير إلى أن المريض يعاني من هذه المتلازمة”.
من جانبه يقول طعّان “تظهر أعراض متلازمة الهرس على الطرف الذي تعرض للضغط من خلال شعور المريض بالتخدر ليبدأ بعدها الطرف بالتورم وتغيير لونه. ولكشف الإصابة بهذه المتلازمة نلجأ إلى فحوص الدم، لمعرفة مستويات البوتاسيوم والكرياتينين وحمض اليوريك والكالسيوم والغازات وأنزيمات الكبد، كذلك لمعرفة مدى تخثر الدم، كما لا بد من إجراء تخطيط للقلب، وفحص بول لمعرفة مستوى الميوغلوبين، إضافة إلى إخضاع طرف المريض لصورة أشعة سينية”.
أما الأخصائية في أمراض الكلى والضغط، الدكتورة حنان طباجة، فتشير في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “الضغط على أحد أعضاء الجسم يؤثر على وظائف الكلى، ولكشف الإصابة بهذه الحالة الطبية نلجأ إلى فحص الـ CPK في الدم، وهو اختصار للاسم العلمي للتحليل فوسفو كرياتين كيناز، والذي يظهر مدى صحة العضلات أو التلف الذي اصابها، اذ كلما ارتفعت نسبة هذا الأنزيم يزداد احتمال إصابة المريض بالقصور الكلوي”.
بحسب منظمة الصحة العالمية، انتقلت أمراض الكلى من السبب الرئيسي الثالث عشر للوفاة في العالم إلى المركز العاشر، وارتفع معدل الوفيات الناجمة عنها من 000 813 في عام 2000 إلى 1,3 مليون في عام 2019.
رحلة العلاج
أغلب المرضى الذين يصابون بفشل كلوي نتيجة متلازمة الهرس يتماثلون كما تقول طباجة “للشفاء، حيث تعود كليتهما إلى الوضع الذي كانتا عليه قبل الإصابة بالمتلازمة، أما الذين يصابون بفشل كلوي حاد ولم يتلقوا العلاج بالسرعة المطلوبة من الممكن أن تتعرض كليتهما للضرر”، مشددة “كلما تلقى المصاب بهذه المتلازمة العلاج سريعاً كلما ارتفع منسوب شفاء كليتيه لكن لا بد أولا من معالجة السبب الرئيسي الذي أدى إلى تضررهما، مع ضرورة إعطاء المريض السوائل اللازمة ومراقبة كمية البول لدى المريض”.
أما قره محمد فيشير إلى أن نسبة الشفاء من هذه المتلازمة تتوقف على الأذيات المرافقة للطرف أو العضو المصاب، “كنزف هضمي أو اذية على مستوى الجهاز العصبي المركزي، كما تعتمد على مدى توفّر جلسات غسل الكلى، وهو ما واجهناه للأسف في الايام الأولى من الزلزال، حيث فارق عدد كبير من الناجين من تحت الأنقاض الحياة، كون الأذيات المرافقة لمتلازمة الهرس كانت عنيفة، فالأطفال الذين مكثوا لأيام تحت الأنقاض في ظل درجات حرارة متدنية جداً وصلت ما دون الصفر، معرضون لقصور في القلب والكلى بغض النظر عن اصابتهم بمتلازمة الهرس من عدمه”.
ومن الضروري في حالات الكوارث توفر عدد كاف من أجهزة غسل الكلى كما يشدد طبيب الامراض الداخلية وكذلك “مراقبة المريض بشكل مستمر للتأكد من نسبة شوارد البوتاسيوم”.
أحد العلاجات لحالة متلازم الهرس، هي بتر الطرف أو العضو المصاب الذي يفرز السموم، لكن بحسب قره محمد “يعود إلى الطبيب اتخاذ هذا القرار بناء على موازنة يجريها بين مدى إمكانية بث الحياة من جديد للطرف أو العضو المصاب وبين الحالة العامة للمريض فيما إن كانت تتحمل البتر”.
ويشدد “إن كان وضع المريض سيئاً والسموم تنتشر في جسده لا خيار حينها أمام الطبيب سوى البتر رغم صعوبة الأمر كونه يعني اكمال المريض بقية عمر معوّقا” مضيفاً “بعد مرور نحو أسبوعين على الزلزال المدمر أصبحت فرص بقاء المرضى على قيد الحياة أكبر، من هنا يفضل على الأطباء الصبر والتريث واللجوء إلى المضادات الحيوية والعلاج بالأكسجين والجراحة لاستعادة تدفق الدم وإزالة الأنسجة الميتة بدلاً من البتر”.
أمام طعّان فيقول إن “علاج متلازمة الهرس يتطلب تزويد المريض بكميات كبيرة من المحلول الملحي بنحو عشرة ليترات يومياً، وذلك لتخفيف كثافة السموم في الدم وبالتالي الترسبات في الكلى، ومحاولة إعادة إيصال الدم إلى الطرف المصاب، كما يمكن اللجوء إلى فتح غشاء العضل لتخفيف ضغط الورم على الشرايين والذي يؤدي إلى اغلاقها وعدم وصول الدم اليها وبالتالي جفافها وظهور كدمات باللون الأسود”.
لكن إن لم ينجح العلاج ببث الدورة الدموية للطرف من جديد حينها لا بد كما يقول طعّان “من بتره كي لا يستمر ببث السموم أو الالتهاب ونقلها إلى بقية أعضاء الجسم ومنها القلب الأمر الذي يهدد الحياة”.