هدأت العاصفة التي ضربت لبنان الأسبوع الماضي، لكن آثارها المدمرة لا تزال مستمرة، والخشية الأكبر من أن تكون تركت بصماتها تحت الأرض كما فوقها، حيث يترقب عدد كبير من المزارعين ما حلّ بمحصولهم بسببها، منهم الشيخ خالد خشفة الذي لم تستثن السيول أرضه، وهو الآن ينتظر أن يكتشف مصير موسم البطاطا الذي يعوّل عليه لإعالة عائلته، وسط الخشية من أن يكون رزقه قد ذهب هباء منثوراً مع الرياح.
وكانت مياه الأمطار الغزيرة تحوّلت إلى فيضانات وسيول في بعض المناطق اللبنانية لاسيما الشمالية منها، فاقتحمت أراضي وممتلكات المزارعين وأغرقت الخيم الزراعية ومخيمات اللاجئين السوريين في سهل عكار، حيث فاضت بالمياه ولم تعد صالحة للسكن، الأمر الذي دفع من كانوا يتخذونها مأوى لهم إلى البحث عن مأوى جديد.
لم تستوعب مجاري الأنهار وقنوات تصريف المياه كمية الأمطار التي انهمرت في فترات زمنية قصيرة، والنتيجة خسائر فادحة طالت عددا كبيرا من السكان، ومنهم خشفة، المزارع البسيط الذي لا تزيد مساحة أرضه عن هكتارين، حيث يتخوف كما يقول لموقع “الحرة” من أن يمنى بمزيد من الخسائر والديون بعد كساد موسمه الزراعي السابق نتيجة مزاحمة البطاطا المصرية لمثيلتها اللبنانية.
لم تقتصر خسائر العاصفة على “الشجر والحجر”، بل طالت “البشر”، حيث جرفت السيول عائلة لبنانية من جبل محسن مؤلفة من ثلاثة أفراد، أثناء وجودهم داخل سيارة في بلدة الجويميسة بريف طرطوس، كما سقطت جريحة في مدينة طرابلس اللبنانية جراء انهيار سقف منزلها، ما أدى إلى إصابتها بكسر في ظهرها وآخر في يدها.
والشهر الماضي تسببت الأمطار “الطوفانية” في لبنان بانجراف التربة في بلدة حميص – مزيارة في قضاء زغرتا، وسقوطها على سطح غرفة مصنوع من “الاترنيت” تقطنها عائلة من اللاجئين السوريين ما أدى إلى مقتل 4 أطفال.
تأثيرات تتخطى البيئة
الأحداث المناخية الأخيرة كشفت كيف أن حقوق الإنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بتغير المناخ الذي يتجاوز تأثيره البيئة كما يقول رئيس حزب البيئة العالمي الدكتور ضومط كامل ليطال الحق في الحياة والسكن والمأكل والصحة والتعليم، وأكثر المتضررين من ذلك هم الأطفال بسبب التهجير القسري وندرة المياه، وتراجع كميات الطعام، وتدمير مساكنهم وانتشار الأوبئة وحرمانهم من التعليم”.
ويشدد كامل في حديث لموقع “الحرة” أن الآثار السلبية للتغيرات المناخية لا تقتصر على لبنان، بل تطال كل الدول العربية، وسبق أن أدرج تقرير لمنظمة “غرين بيس” المغرب والجزائر ومصر ولبنان وتونس والإمارات العربية المتحدة، ضمن الدول المهددة بالتأثير المدمر للتغير المناخي.
ويعرّف التغير المناخي كما يشرح العميد السابق لكلية الزراعة في الجامعة اللبنانية، البروفيسور تيسير حميّة بأنه “اختلال في الظروف المناخية المعتادة كالحرارة والرياح وتساقط الأمطار، التي تميز كل منطقة على الأرض”.
وينتج ذلك كما يقول لموقع “الحرة” عن “الزيادات الحاصلة في نسبة تركيز الغازات المتولدة عن عمليات الاحتراق في الغلاف الجوي، وتشير بعض الدراسات الحديثة، إلى أن البلدان الاستوائية والمتوسطية التي تنتمي لها المنطقة العربية، تميل إلى أن تكون الأقل إصدارا للغازات الدفيئة، ومع ذلك تعتبر البلدان العربية الأكثر تأثرا ومعاناة من التقلبات المناخية”.
ولا يوجد أي دولة أو إقليم بمنأى عن التغير المناخي العالمي، كما يقول وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال، عباس الحاج حسن، مضيفا في حديث لموقع “الحرة” أن “الدول العربية ومن ضمنها لبنان تطالها تأثيرات التغير المناخي بشكل مباشر وستطالها سلبياته في المستقبل القريب، والتي تشمل المتساقطات والتصحر والغطاء النباتي الذي فقدناه وتغيير سلوكيات الغذاء وتراجع الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي، لذلك لا بد من التخفيف من استهلاك المياه لأن حدة الأزمة كبيرة جداً”.
خشية من الأسوأ
ما يحصل في لبنان يتماشى بحسب ما يقوله رئيس مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي، مارك وهيبه، لموقع “الحرة” “مع السيناريوهات العالمية لانعكاسات التغير المناخي، ومنها أن تصبح الظروف المناخية المتطرفة أكثر تطرفا، كتساقط الأمطار بغزارة خلال فترات زمنية أقل متسببة بسيول وفيضانات، وهو ما شاهدناه في لبنان خلال الفترة الأخيرة، كما لمسنا ذلك في فصل الصيف من خلال تزايد عدد أيام الحر، والتي وصلت إلى 12 يوما متتاليا”.
كذلك أكد رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع ابراهيم الترشيشي، أن “لبنان كما باقي الدول يتأثر بالتغير المناخي، أي بالتقلبات المناخية السريعة، كانخفاض درجات الحرارة في فصل الصيف وارتفاعها في فصل الشتاء، أو هطول كميات أمطار تفوق معدلاتها الطبيعية كما يحصل الآن حيث تساقط ما بين 100 إلى 200 ملليتر من الأمطار خلال 24 ساعة، وهو ما لم نكن نشهده سابقا ولا تستطيع الأراضي الزراعية والأنهار والمسالك المائية استيعابه، وبالتالي يضر ببعض أنواع المزروعات”.
ومع ذلك لا يمكن القول حسبما يشدد الترشيشي في حديث لموقع “الحرة” أن “الطبيعة تتعدى على الإنسان، فالأمطار التي نشهدها تتساقط في فصل الشتاء وإن كانت بغزارة لم نعهدها، وقد كان بإمكان المزارعين أخذ احتياطاتهم للحد من الأضرار، لكن فترة الجفاف الطويلة التي مرّ بها لبنان أنستهم ذلك ودفعتهم للتعدي على الأنهار كتحويلها مكبا للنفايات”.
وما يخشاه رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع “ازدياد التقلبات المناخية، وضربها للمواسم الزراعية كما حصل السنة الماضية حيث ارتفعت درجة الحرارة لما يزيد عن الـ 40 درجة لمدة تتجاوز الشهر، ما ألحق ضررا كبيرا في المنتوجات الزراعية بالتالي خف الإنتاج وارتفعت الأسعار”.
أصبحت درجات الحرارة الأشد والظواهر المناخية، كالجفاف والسيول، واقعا جديدا مألوفا في العالم العربي، بحسب حميّة “وقد زاد عدد السكان المتضررين من الفيضانات في المدن العربية خلال السنوات العشر الأخيرة ليصل إلى نصف مليون شخص في مختلف أنحاء المنطقة”.
ويضيف أن “التقلبات في درجات الحرارة في الدول العربية تؤثر سلبا على الأنظمة البيولوجية، وتهدد الأمن الغذائي، وتمثل خطورة أكيدة على الزراعة والبشر والاقتصاد، وتهدد الأنواع الحيوانية والنباتية، وتؤدي إلى تجفيف التربة الاستوائية، بسبب زيادة التبخر مع ارتفاع درجات الحرارة”، مشيرا إلى أن “سقوط الأمطار في غير وقتها لا يعتبر مفيدا للبيئة والإنسان خصوصا إذا كانت غزيرة وسريعة”.
وتؤثر الأنماط المستجدة لهطول الأمطار في لبنان والدول العربية “سواء تعلق الأمر بانخفاض كميات الأمطار أو ارتفاعها بشكل كبير أو هطولها بشكل غير منتظم، على حق الإنسان في الحياة والمسكن والمأكل لا سيما الفقراء”، بحسب كامل.
ويشرح: “تراجع كمية الأمطار يؤدي إلى انخفاض مستوى الأنهار والمياه الجوفية المستخدمة لري المزروعات، أما السيول والفيضانات فتتسبب بتدمير المحاصيل وتهدد الثروة الحيوانية، وبما أن تراجع العرض يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن الفقراء سيجدون صعوبة أكثر فأكثر في الحصول على الغذاء”.
أوضاع مأساوية
“خسر المزارعون اللبنانيون في عكار ما استثمروه بسبب العاصفة الأخيرة، وفقدوا مواسمهم التي تشكل عمدة أسواق الاستهلاك، وشكلت الأضرار ما بين 50 و100 في المئة في بعض المناطق”، بحسب تقرير نقابة مزارعي الخضر في عكار والشمال، والنتيجة “خسارة نحو 1500 هكتار من الحمضيات، حيث تقدر كلفة الهكتار الواحد حوالي 3000 دولار”.
وبلغت الأضرار في حوالي 25 ألف خيمة بلاستيكية زراعية لشتى أنواع الخضار والحشائش من 60 إلى 100 في المئة، وتقدر كلفة الخيمة الواحدة بين 1000 و2000 دولار، كما أغرقت المياه حوالي 3000 طن من بذار البطاطا الأجنبية، وتراوحت الخسائر بين 50 و80 في المئة، مع العلم أن كلفة الطن الواحد من بذور وأسمدة وضمان أرض وعمال 3000 دولار.
ويعيش صغار المزارعين في لبنان كما يقول خشفة مرحلة مصيرية نتيجة أسباب عدة منها “الظواهر الطبيعية وتوقف الشركات الزراعية عن اقراضنا لشراء الأدوية والأسمدة والبذور، وارتفاع أسعار المحروقات، في وقت السلطة غائبة عن مساعدتنا، فالتعويضات عن الأضرار التي تلحق بنا لا تصلنا، بل تقتصر على من لديهم وساطة”.
أوضاع صغار المزارعين مأساوية، فما يجنيه خشفة من أرضه لا يؤمن الحد الأدنى من احتياجات أطفاله الستة في ظل ارتفاع كلفة الإنتاج الزراعي وضعف مردوده لا بل خسائره، ويقول أن “الأرباح من هذا القطاع يجنيها كبار المزارعين محتكرو البذور الذين يهربونها إلى سوريا، لذلك رفعوا سعرها حتى وصل الطن منها إلى 1400 دولار”.
دفعت الضائقة المالية ابن عكار إلى تقديم طلب لوزارة الشؤون الاجتماعية للحصول على بطاقة مساعدة، إلا أن طلبه كما يقول رفض “من دون حتى إرسال مندوبين للكشف عن حالتي، مع العلم أنه منذ خمس سنوات لم أحصل على راتب من دار الإفتاء فيما راتبي من عملي كمساعد ناظر مدرسة لا يتجاوز المئة دولار شهريا”.
تهديد “قاتل”
قدّرت وزارة البيئة اللبنانية أن “التغير المناخي سيسبب انخفاضا بنسبة 14 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للبنان بحلول عام 2040، لينخفض بعدها إلى 32 في المئة بحلول عام 2080”.
وشهدت أنظمة الأغذية والتصنيع الزراعي في منطقة الشرق الأوسط اضطرابات عميقة على مدى الخمسين سنة الماضية، كما قال وزير الزراعة اللبناني، في افتتاحية المنتدى للعلوم والابتكار لمنظمة الفاو 2023 لكبار المسؤولين، وأضاف “على الرغم من أن النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط يتميز باستهلاك الفواكه والخضروات والبقوليات وزيت الزيتون ومنتجات الحليب، إلا أن سكان هذه المنطقة يستهلكون اليوم المزيد من اللحوم والمنتجات ذات القيمة المضافة العالية التي تحتاج كميات مياه أكبر وتضغط على الموارد الطبيعية”.
ويساهم أداء وتكاثر النظم الزراعية والغذائية الحالية إلى حد كبير كما أشار وزير الزراعة “في تسريع وتيرة تغير المناخ خصوصا في منطقتنا، حيث بلغت زيادة درجات الحرارة في القرن العشرين 0,74 درجة حول العالم بينما تخطت 1,5 في منطقتنا”.
من ناحية أخرى يؤثر تغير المناخ على حق الإنسان في الصحة، حيث يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول الأمطار بحسب كامل “إلى انتشار الأمراض المعدية”.
وخلال مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ في دبي أكد وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، الدكتور فراس الأبيض أن “تغير المناخ يشكل خطرا ملحا على الصحة العامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولا سيما في لبنان، حيث تبلغ نسبة النازحين ثلث عدد السكان، وقد أدت ندرة المياه العام الماضي إلى تفشي وباء الكوليرا لأول مرة منذ ثلاثة عقود، وذلك في ظل نظامنا الصحي الهش الذي يواجه أزمات متعددة في بيئة محدودة الموارد”.
ولفت الأبيض إلى “إطلاق استراتيجية الطاقة المتجددة لقطاع الصحة بدعم من الشركاء، حيث تم تجهيز 50 في المئة من المستشفيات الحكومية وأكثر من 70 في المئة من مراكز الرعاية الصحية الأولية بالطاقة الشمسية، كما وبدأت وزارة الصحة العامة تنفيذ استراتيجية صحية وبيئية سليمة للتخلص من النفايات الطبية”.
خطوات النجاة
للتخفيف من أثر تغير المناخ على لبنان، يعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع وزارة البيئة اللبنانية، منذ عام 1999. والشهر الماضي، كشف وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال، ناصر ياسين، في حديث للوكالة الوطنية للإعلام، عن منشأة استثمارية خضراء، وضعها في خانة التزام لبنان بتعزيز استراتيجياته البيئية، بالتوافق مع التقرير الوطني الرابع حول تغير المناخ والمساهمة المحددة وطنيا والتي تهدف الى تقليل 20 في المئة من الانبعاثات بحلول عام 2030.
وعن دور هذه المنشأة في تحقيق الأهداف، قال ياسين “يوجه المرفق الأخضر استثماراته بشكل استراتيجي في قطاعات حيوية مثل الطاقة المتجددة، والنقل المستدام، وإدارة النفايات الصلبة والزراعة والري”.
لا بد بحسب كامل من أن تبدأ الحكومات العربية ومن ضمنها لبنان “في إجراءات مواجهة تحديات تغير المناخ من أجل حماية حقوق الإنسان وضمان حياة كريمة له، وذلك من خلال تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري كما تم الاتفاق عليه في مؤتمرات الأمم المتحدة للمناخ، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر للتنبؤ بالظواهر الجوية المتطرفة والاستعداد للتعامل معها من خلال خطط معدة مسبقا”.
وكذلك “وضع استراتيجيات للتكيف مع الآثار التي حدثت، كإنشاء السدود للحد من الفيضانات وتعزيز الزراعة المستدامة ورفع نسبة الوعي لدى المواطنين لتحفيز المشاركة المجتمعية في جهود المواجهة”.
أما حميّة فيرى أن محاربة ظاهرة التغير المناخي تتطلب “اشتراط البعد البيئي في جميع المشروعات التنموية، والتوسع في استخدام الطاقة المتجددة، ووضع نظام ترصد الكتروني للأمراض الناتجة عن التغيرات المناخية، وبناء القدرة على التكيف من خلال توفير الحماية الاجتماعية وغيرها من الإجراءات والتدابير”.
من جانبه يقول وزير الزراعة لموقع “الحرة” أن “المشروع العربي بات واضحا والمشروع اللبناني جزء منه، وهو التكامل مع الدول التي تعنى بهذا الملف في سبيل التخفيف من الاحتباس الحراري حتى يصار للتخفيف من المتغيرات المناخية وبالتالي تحسين إنتاجية القطاع الزراعي وسلوكيات الغذاء والتخفيف من ترهل واهتزاز الأمن الغذائي العالمي”، مشيرا إلى أن “قمة المناخ التي انعقدت في دبي كانت واعدة جدا وكذلك مخرجاتها وتبقى العبرة في التنفيذ، حيث نتمنى أن تلتزم كل الدول بها”.