“تعكس قصة منزلنا تجارب أهل الجنوب، إذ بنى جدي منزلاً صغيراً على قطعة أرض في عيترون بعد زلزال عام 1956. ثم شيد أبناؤه منزلا ملاصقا للبيت العتيق في ثمانينيات القرن الماضي، ليصبح هذا المنزل شاهداً على أفراحنا وأحزاننا، انتصاراتنا وانكساراتنا، قبل أن يتم تحويله إلى أنقاض في لحظات”. بهذه الكلمات، عبّر الباحث القانوني والناشط السياسي الدكتور علي مراد عن صدمته العميقة لفقدان منزل عائلته، الذي دُمّر خلال الحرب القائمة بين حزب الله وإسرائيل.
يقول مراد في حديث لموقع “الحرة” إن “الجيش الإسرائيلي فجّر حارتنا في عيترون، مدمراً حي الخانوق بأكمله في ثوان معدودة، ومزيلاً كل معالمه. كنا نتوقع حدوث ذلك نظراً لموقع المنزل الجغرافي على الحدود، لكن مشاهدة مقطع الفيديو للحظات تدميره مؤلمة جداً”، ويضيف “أعاود مشاهدة التسجيل مرات ومرات حتى لا أنسى التفاصيل، قد لا يكون أجمل المنازل، لكنه كان بالتأكيد أغلاها على قلوبنا”.
وتحدث مراد عن العلاقة العميقة التي تربطه وعائلته بالمنزل وتاريخه، قائلاً “إنه ليس مجرد مبنى من حجر وجدران، بل هو جزء من هويتنا وذاكرتنا العائلية التي تبعثرت بين الأنقاض. يحتضن هذا المنزل ذكرياتي وذكريات العائلة، من شهاداتنا وكتبنا المدرسية إلى مكتبة والدي المليئة بآلاف الكتب والملفات الطبية، وألبومات الصور، والأثاث، والملابس، والتحف التي حملناها معنا عند انتقالنا من عيترون إلى صيدا في ثمانينيات القرن الماضي، وأعدناها عند عودتنا. والآن، تلاشت جميعها”.
وكان تحليل أجرته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية كشف أن نحو 25% من المباني في 25 بلدة لبنانية على الحدود الإسرائيلية دمرت كلياً أو جزئياً.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي نشرته في 31 أكتوبر، إن ما لا يقل عن 5868 مبنى على طول المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل، دمر أو لحقت به أضرار، مشيرة إلى أن بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا، المنطقتان الأكثر تضرراً من الهجمات الإسرائيلية، حيث دمر نحو نصف المباني فيهما.
جاء ذلك وفق معطيات الصحيفة التي أعدت من خلال تحليل بيانات الأقمار الصناعية، المقدمة من مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون، والتحقق من مقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
من جانبه، لم يعلّق الجيش الإسرائيلي على هذه النتائج، لكنه أوضح في بيان لـ “واشنطن بوست” أن عملياته تقتصر على “غارات محلية محدودة” تستهدف مواقع بناءً على “معلومات استخباراتية دقيقة” تهدف إلى تأمين عودة نحو 60 ألف نازح إسرائيلي إلى منازلهم في الشمال وتحييد خطر حزب الله.
وشدد الجيش الإسرائيلي على أنه يواصل عملياته “وفقاً لقواعد القانون الدولي وتحت إشراف وتوجيهات المستوى السياسي”.
فقدان يتخطى الجدران
“مؤلم جداً أن تكون معرفتك عن مسقط رأسك ومكان حياتك بتوقيت غير مباشر، وأن تنتظر صدفاً لمعرفة القليل عنها”، كما يقول الصحفي حسن عباس، مضيفاً “شاهدنا فيديوهات وصور لدبابات إسرائيلية تجول في شوارع بلدتنا عيترون، ولجرافات تهدم منازلنا، ولعمليات تفخيخ وتفجير بيوت وأحياء.. بين 14 أكتوبر 2024 وبين الثلاثين منه، تضاعف عدد المنازل المدمّرة بشكل كامل عدة مرات، أحياء عدّة أزيلت من الوجود، وهذا عرفناه من الصور الجوية”.
بعد توسّع الحرب، وبشكل خاص بعد بدء إسرائيل عمليتها البرية في جنوب لبنان، بدأت مرحلة جديدة، “أقسى، من مأساة أهل بلدتي”، يقول عباس لموقع “الحرة”، شارحاً “انقطعت الأخبار التي تصلنا عنها تماماً. لم يعد أحد يعرف ما حلّ بمنزله وبأملاكه، أي بحياته التي بناها هنالك، وصرنا ننتظر فتات معلومات عنها، من مصدرين: الأول مما ينشره إسرائيليون من فيديوهات وصور على وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل رسمي أو على حسابات جنود أفراد، والثاني من الخرائط الجوية التي يقوم أحدهم بشرائها بين وقت وآخر، وتنتشر بين الناس”.
ومثل العديد من أهالي المناطق الحدودية الذين فقدوا منازلهم خلال الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، تعرض منزل عائلة الصحفي علي عواضة للقصف والتدمير. ويقول عواضة “هذه المرة الثانية التي يتحول فيها جزء كبير من المنزل إلى ركام. فقد تضرر في حرب عام 2006، وقصف مجدداً في الحرب الأخيرة، لكن حجم الدمار هذه المرة أكبر بكثير”.
ويتحدث عواضة عن مرارة هذا الواقع في حديث لموقع “الحرة”، قائلاً “هذا المنزل بناه والدي بعرق جبينه، وانتقل إفراد عائلتي للعيش فيه خلال جائحة كورونا، حين قرروا ترك الضاحية الجنوبية والاستقرار في بلدة عيترون. تابعوا حياتهم هناك، واستكملت شقيقتي دراستها في جامعة بالنبطية”.
عواضة الذي كان يعيش في الضاحية الجنوبية، اعتاد زيارة عائلته في عيترون مرة واحدة شهرياً، حيث يقيم معظم أصدقائه هناك. إلا أن الحرب “لم تترك أحداً من دون أثر، إذ هجّرت أهالي البلدة ودمرت منازلهم، وبدّلت حياتهم إلى الأبد” كما يقول لموقع “الحرة”، مضيفاً “الحرب صعبة على الجميع، لقد فقدنا أقارب وأصدقاء، وهناك من أصيبوا، وإلى الآن لم أستطع استيعاب ما حدث”.
عاد عواضة إلى بلدته عيترون بعد نحو شهرين من تدمير منزله، وذلك خلال مهمة عمل قادته إلى هناك. قصد بيته على أمل استعادة بعض الحاجيات، لكنه وجد ذكرياته مبعثرة على الطريق، ولم يبقَ من المنزل سوى أشلاء. يصف المشهد بتأثر قائلاً “حاولت جمع أبسط الأشياء كذكرى من منزل احتضننا لعشرات السنوات، حتى أصبح بالنسبة لنا أكثر من مجرد جدران”.
كما عبّر العديد من اللبنانيين عن مشاعر الحزن والأسى لفقدان منازلهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومن بين هؤلاء الدكتورة جوليا علي، التي شاركت مقطع فيديو يوثّق لحظة عزفها على البيانو في منزلها ببلدة الخيام الحدودية، قبل أن يتعرض للدمار. وتضمّن الفيديو أيضاً لقطات وثّقها الجيش الإسرائيلي، تظهر حجم الدمار الذي لحق بالمنزل، حيث بدا عدد من الجنود الإسرائيليين يجلسون حول البيانو الخاص بها، بينما ظهر أحدهم ممداً عليه.
وعلّقت جوليا على الفيديو قائلة “مشاهدة المكان الذي كنت اسميه منزلاً، يتحول إلى ركام ألم لا يمكن وصفه بالكلمات. لم يكن مجرد جدران وسقف، بل كان سنوات من أحلام عائلتي وتضحياتها ومحبتها مبنية في ملاذ آمن. والآن، أن أرى الغزاة يتجولون فيه، يسخرون منه، يلمسون البيانو الذي صببتُ فيه قلبي في كل نوتة… أشعر وكأنهم يدوسون على أجزاء من روحي”.
وشرحت جوليا أن الفيديو الذي شاركته تم تصويره قبل عام، حين كانت تعزف مقطوعة موسيقية من فيلم “عازف البيانو”، مشيرة إلى أنها في تلك اللحظة لم تتوقع أن يعيش لبنان مأساة مشابهة لما يحدث اليوم.
وعبّرت جوليا عن أملها أن ينهض لبنان من جديد، قائلة “لدي أمل بأننا سننهض، نعيد بناء ليس فقط المنزل، بل فصلاً جديداً مليئاً بالصمود والقوة وذكريات كل ما فقدناه”.
“مقامرة” خاسرة
معاناة معظم قرى الشريط الحدودي وأبنائها، “أي مجموع القرى والبلدات الواقعة مباشرة على الحدود مع إسرائيل لم تبدأ في الشهر الأخير، مع توسّع الحرب، بل بدأت منذ الثامن من أكتوبر 2023، عندما قرر حزب الله إطلاق ما سماه بـ”مشاغلة” إسرائيل للتخفيف من الحرب عن غزة”، وفق ما يقوله عباس.
ويعتبر عباس أن هذه “المشاغلة” لم تكن فعّالة، ويشير إلى أن “غزة تدمّرت، وقُتل حتى الآن أكثر من 43 ألفاً من أبنائها، ولكن وقع الحرب على أبناء بلدتي كان فعالاً وأدى إلى تشردهم في مناطق لبنانية مختلفة، ودون أن يتحمّل أحد عبء التكفّل بالأعباء التي ألقيت عليهم بسبب الحرب، من مسكن ومأكل ومدارس، إلخ”.
نظرة أبناء بلدة عيترون للحرب الحالية تختلف بين شخص وآخر، كما يقول عباس، ويوضح “الامتعاض من أثرها علينا عام، أستطيع الجزم بذلك، ولكن لا أستطيع مصادرة آرائهم التفصيلية وادّعاء قدرتي على التعبير عنها. أعرف أنها متنوّعة وكثيرة ومتباينة. أستطيع التعبير عن رأيي. ما جرى برأيي مغامرة قام بها حزب الله، لا بل مقامرة أفضت إلى خسارتنا الكثير الكثير الذي لن يتعوّض. انتقدتُ، أنا وكثيرون، جدوى هذه الحرب، ولكن هنالك مَن يتفرّد في أخذ القرارات عن الناس ويتركهم فقط لتحمّل عواقبها”.
من جانبه يشير مراد، في حديثه عن الحرب الأخيرة التي يشهدها لبنان، إلى تقديرات خاطئة لحزب الله وإيران بشأن الصراع مع إسرائيل، ويقول “خاضت إسرائيل حرب 2006 بعقلية حرب 1982 المطورة قليلاً، مما أدى إلى خسارتها، وفي المقابل، خاض حزب الله حرب 2024 بعقلية مبنية على تجربة 2006 مطورة قليلاً، مما أسفر عن تعرضه لعدة نكسات كبيرة”.
ويشرح مراد أن “المنظومة والعقيدة الردعية التي أرسى حزب الله قواعدها من خلال الترهيب والترغيب فشلت في منع إسرائيل من تدمير لبنان”، مستشهداً بمعادلة “جيش شعب مقاومة. حيث لم يُعطَ الجيش اللبناني الدور المناسب في هذه المعادلة، بينما الشعب اللبناني اليوم بين نازح ومضيف للنازحين، فيما يتعرض حزب الله لضربات قوية من إسرائيل”.
ويشدد على أن حماية لبنان تتطلب “التفكير بطرق جديدة ومسؤولة، بعيداً عن الإنكار والمكابرة، وقراءة الواقع بموضوعية، وفهم التوازنات السياسية والعسكرية القائمة، وفتح نقاشات جديدة حول كيفية حماية لبنان من الأخطار الإسرائيلية”.
ترقب المجهول
فرضت الحرب على أفراد عائلة عواضة الانتقال من بلدتهم عيترون إلى منزل أقاربهم في الجنوب، ومن ثم إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، قبل أن يستقروا أخيراً في جبل لبنان.
ويقول عواضة “أجبرنا على هذه الحرب، ويبدو أن العودة إلى البلدة ليست قريبة، في ظل استراتيجية الأرض المحروقة التي تتبعها إسرائيل، وما يقلقني أن يتكرر سيناريو قطاع غزة في لبنان، حيث يصبح الانتقال من منطقة لأخرى أمراً قسرياً ومستمراً، أما أكبر مخاوفي فهي أن نواجه تجربة آبائنا تحت الاحتلال، ونجبر على العيش بلا استقرار”.
كذلك يقول عباس “أقسى ما في الأمر، أننا لا نعلم ما يخبئه لنا المستقبل القريب. هل سنعود أم ستتحول بلدتنا إلى جزء من منطقة عازلة أعلنت إسرائيل أنها ستفرضها بقوة الأمر الواقع عدة مرات، وإذا عدنا هل ستكون عملية إعادة الإعمار جزءاً من الحل الذي سيتم التوصل إليه؟ كل هذه متغيّرات لا إجابات لدينا عنها، وهذا قاسٍ ومؤلم جداً”.
من جانبه يعتبر مراد أن موضوع العودة إلى القرى الحدودية ” موقف سياسي وإنساني وشخصي، ليس مجرد حق، بل واجب. على الرغم من أن العودة قد تستغرق وقتاً طويلاً بالنظر إلى التجارب السابقة لأهالي الجنوب خلال الحروب والنزاعات المتكررة في المنطقة”.
ويشير مراد إلى أن العديد من الجماعات خرجت من قراها في المنعطفات التاريخية التي مر بها لبنان والمنطقة ولم تعد، “كما حدث مع الفلسطينيين والسوريين وبعض العراقيين”، ويقول “هناك جماعات في العراق اختفت تماماً”، محذراً من أن تكرار هذا السيناريو غير مستبعد، “خاصة في ظل تقارير إسرائيلية تشير إلى رغبة في إبقاء المناطق الحدودية خالية من السكان”.
ويرى مراد أن عودة اللبنانيين “تتطلب قراراً سياسياً يضع هذه المسألة في صدارة الأولويات”، معتبراً أن “هذه الخطوة تصب في مصلحة جميع اللبنانيين، خصوصاً أبناء الجنوب، في ظل هشاشة التركيبة الديموغرافية اللبنانية”، ولكنه يثير تساؤلات بشأن مصادر التمويل اللازم لإعادة الإعمار وما إذا كان لبنان لا يزال يحتفظ بأصدقاء دوليين مستعدين للمساعدة في ذلك، مشدداً على أن “العودة لن تتحقق إلا إذا ضمن السكان استقراراً دائماً وأماناً بلا قلق على مستقبلهم”.
وتبقى الحقيقة الأكيدة كما يقول عباس أن “لا شيء سيعود إلى ما كان عليه. قد نعود، وقد يكون منزل العائد لا يزال قائماً بعد الحرب، ولكنه سيعيش مع جيرانه أسى موت كثيرين يشكّلون جزءاً أساسياً من حياتنا ومن ذاكرتنا المرتبطة بالمكان، وسيعيش أسى دمار منازل وأحياء وتغيّر معالم… نحن كأفراد لن نعود قبل الحرب إلى ما كنّا عليه قبلها، فالحرب تغيّرنا وستغيّرنا أكثر في كل يوم تستمر فيه… أفضل السيناريوهات التي تنتظرنا مرعبة ونعيش منذ الآن أثر رعبها”.