برز في حرب إسرائيل وحماس الأخيرة سلاح تتخطى فعاليته حدود ميدان القتال الفعلي، لجأ إليه طرفا النزاع عبر وسائل تقليدية، بالإضافة إلى المتعاطفين وداعمي الطرفين عبر منصات التواصل الاجتماعي، للتأثير على الرأي العام وتشويه صورة الطرف الآخر، ألا وهو” البروباغندا”.
وتوازياً مع المعارك والغارات، أغرق “طوفان” الصور والفيديوهات المثيرة للتعاطف والتضامن والغضب، المنصات الإلكترونية، بعضها يتضمن معلومات صحيحة وبعضها الآخر مبالغ بها أو مضللة أو مزيفة.
اللجوء إلى البروباغندا ليس بجديد، وإن اختلفت وسائلها وأساليبها وتأثيرها. وهذا المصطلح أصبح سيئ السمعة، بعد أن استخدمه، كما تقول أستاذة الإعلام في جامعة مريلاند الأميركية، سحر خميس، “جوزف غوبلز، وزير الدعاية في الحزب النازي وفي حكومة هتلر ما بين عامي 1933 و1945..”.
“أعطيني إعلاماً مزيفاً أعطي لك شعباً بلا وعي” هي العبارة الشهيرة لغوبلز، الذي كان يؤمن بحسب خميس، “بأنه من خلال تزييف الحقائق يمكن تضليل الرأي العام ووعي الجماهير، وقد انتهج بالفعل هذه السياسة التي تأثر بها هتلر في الترويج لفكرة إبادة اليهود والمحرقة وكل الأعمال الإجرامية التي حدثت”.
أما المستشار والخبير في التحوّل الرقمي وأمن المعلومات، رولان أبي نجم، فيعرّف البروباغندا بأنها “التسويق لمعلومات من وجهة نظر واحدة، قد تكون مغلوطة أو صحيحة لكنها استخدمت في إطار مختلف عن إطارها الزمني أو المكاني، كنشر مقطع فيديو قديم والترويج بأنه التقط حديثاً أو الترويج لمقطع فيديو التقط في بلد معين على أنه في بلد آخر، باختصار يمكن القول إن البروباغندا هي فن التلاعب بالمشاعر والتحكم بالأفكار وتشكيل العقول لتغيير الآراء والمواقف”.
من جانبه، يعرّف خبير مواقع التواصل الاجتماعي، عمر قصقص، البروباغندا بأنها “استخدام المنصات الإلكترونية لتسويق معلومات صحيحة أو مزيفة، تحمل رسائل سياسية كالترويج للسلطة والمعارضة والأحزاب والشخصيات السياسية أو لتشويه سمعة الخصم، أو رسائل اجتماعية كدعم حقوق معينة ومناهضة أمور محددة، أو اقتصادية كالدعاية التي تهدف إلى تغيير سلوك الجمهور لدفعه إلى شراء منتج معين”.
ساحة التضليل الأساسية
مع التطور التكنولوجي، “أصبح الإعلام الإلكتروني والرقمي مجالاً بديلاً وموازياً للإعلام التقليدي والرسمي (الصحافة والإذاعة والتلفزيون)، تتابعه أجيال كاملة من صغار السن والشباب، حيث يقضون عدداً كبيراً من الساعات يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتبر سلاحاً ذو حدين، كما تقول خميس “فهناك جانب مشرق وآخر سيء لها”.
فيما يتعلق بالجانب المشرق، يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تساهم بحسب خميس “في نشر المعلومات المفيدة ولعب دور كبير في التوعية وملء بعض الفجوات حين ينحاز الإعلام التقليدي إلى أجندة معينة خاصة بهذه الحكومة أو تلك، فتقوم منصات التواصل الاجتماعي بإيصال الحقيقة”.
أما الجانب السيئ، فيتمثل “بمنح منصات التواصل الاجتماعي مجالاً كبيراً للبروباغندا، وهذا أمر خطير كونه يساعد في عمليات التضليل والزيف والخداع، خاصة إذا لم يكن لدى الجمهور أدوات للتحري وإمكانية للتفرقة بين ما هو حقيقي وملفق”.
وبحسب منصة “تيدو” فإن وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر الأول للمعلومات، حيث يعتمد 88 في المئة من الناس عليها، في حين يستقي 68 في المئة معلوماتهم من المجلات الإلكترونية والمنصات الاخبارية، و35 في المئة من المحادثات المباشرة الحيّة مع الأصدقاء والأهل والزملاء، و30 في المئة من التلفاز و27 في المئة من الصحف.
وتفوّق وسائل التواصل الاجتماعي على وسائل الإعلام التقليدية يعود بحسب قصقص إلى أسباب عدة منها “الانتشار الواسع الذي تتمتع به والذي يصل إلى ما يزيد عن ثلاثة مليارات مستخدم من مختلف الفئات العمرية والمستويات الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك التفاعل المباشر على هذه الوسائل، وإمكانية التخصص بأنواع معينة من البروباغندا”.
وتعتمد البروباغندا كما يشرح “على منشورات نصية وصور وفيديوهات وخطابات وهاشتاغ وإعلانات مدفوعة، وهي تؤثر في الرأي العام من خلال مجموعة من الأساليب أهمها اثارة العاطفة، أما شرط نجاحها الأساسي فهو تفاعل الجمهور معها وهذا يفترض محتوى جذاب له صلة بعدد كبير من المستهدفين أو مثير للدهشة”.
مرحلة خطرة
مع الوقت، تطورت البروباغندا، وأصبح لها أشكالاً كثيرة، بعضها كما تشير خميس “واضح وجلي وظاهر مثلما كان الحال في عهد غوبلز، وبعضها الآخر مستتراً يقوم على نشر أخبار مغلوطة مغلفة ببعض الأخبار الصحيحة، ما يعني عملية خلط الحقائق بالأكاذيب، وهو ما ينطبق مع فكرة ترويج الشائعات التي تنتشر عندما يكون هناك بعض الحقائق المنقوصة فيلعب الخيال دوراً هاماً في عملية صياغة هذه الأخبار”.
والأخبار الزائفة نوعان، بحسب خميس، “النوع الأول عبارة عن معلومات خاطئة ( Misinformation) يتم نشرها من دون معرفة أنها خاطئة، والنوع الثاني معلومات مضللة ( Disinformation)، أي أخبار خاطئة يتم نشرها بشكل متعمد بهدف تشويه الحقائق والتضليل كما كان يفعل غوبلز، وكلا النوعين منتشر في هذا الزمان”.
وقد ساهم الذكاء الاصطناعي بتحديد اهتمامات مستهلكي مواقع التواصل الاجتماعي وما يرفضونه من أفكار، من خلال الخوارزميات، بحسب ما يقوله أبي نجم وبالتالي “معرفة كيفية التأثير عليهم”.
كما أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي تعتبر كما يصف غوردون كروفيتز، من “نيوز غارد” المتخصصة في تتبع الأخبار الزائفة، “أقوى أداة لنشر المعلومات الخاطئة التي يتم نشرها على الإنترنت”، حيث قال في حديث لصحيفة نيويورك تايمز “يمكنك الآن صياغة سرد كاذب جديد على نطاق دراماتيكي.. الذكاء الاصطناعي يمتلك عوامل مساهمة في التضليل”.
سبق أن شدد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش على ضرورة ألا يغيّب التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي التوليدي، الضرر الذي سببته التقنيات الرقمية، قائلاً “إن نشر الكراهية والأكاذيب عبر الفضاء الرقمي يسبب خطراً جسيماً الآن، ويؤجج الصراع والموت والدمار الآن، ويهدد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويضر بالصحة العامة والجهود المناخية”.
وقرعت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، ناقوس الخطر بسبب زيادة كثافة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية على شبكة الإنترنت التي تشكّل “تهديداً أساسياً للحياة في المجتمع وللاستقرار”.
تنتشر الأخبار الزائفة بحسب دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 2018، بمعدل ست مرات أسرع من القصص الحقيقية، حيث ترتفع احتمالية إعادة تداولها بنسبة تزيد عن 70 في المئة.
وبحسب منصة “تيدو” حذف موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” 6.5 مليار حساب وهمي عام 2021 وبقي 3.5 مليار حساب نشطاً، أما تويتر فحذف في عام 2018 ، 70 مليون حساب وهمي، وظهر أن معدل عدد المستخدمين الناشطين الشهري على هذه المنصة 3.30 مليوناً.
صعوبات.. ووسائل المواجهة
أسباب عدة تقف خلف نشر الأخبار الكاذبة والمضللة، منها كما يقول قصقص، “الترويج لأجندات سياسية أو اجتماعية، أو تحقيق مكاسب مالية، أو لإثارة البلبلة الفوضى”.
وصلنا إلى مرحلة “اختلط فيها الحابل بالنابل”، بحسب خميس “حيث تنتشر المعلومات الخاطئة والمضللة في شتى المجالات، لذلك يجب على الجمهور تحرّي الدقة والحقيقة، وإن كان من الصعوبة بمكان في كثير من الأحيان أن يستطيع المواطن العادي التفرقة بين الحقائق والأكاذيب، خاصة إذا كان هناك مزجاً بينهما، وهنا تظهر الحاجة إلى الوعي التثقيفي والإعلامي”.
كما صعّبت تطبيقات الذكاء الاصطناعي من تحري الحقيقة، بحسب ما يشير أبي نجم “حيث أصبح بإمكان العاملين في مجال البروباغندا إنتاج محتوى تضليلي احترافي، مكتوب ومسموع ومرئي، ما ساهم في انتشاره بشكل أسهل نتيجة تفاعل الجمهور معه بشكل أكبر واعادة نشره من دون التأكد من المصدر”، لافتاً إلى أن عدداً كبيراً من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لا يعلمون كيفية التحقق من المعلومات التي يتلقونها.
ويشدد “لا بد من وعي مستهلكي وسائل التواصل الاجتماعي على ضرورة عدم الثقة بأي محتوى قبل التثبّت من صحته، وقد بدأت صفحات عدة على مختلف المنصات القيام بهذه المهمة، والمطلوب فقط من المستخدمين متابعتها وإعادة نشر معلوماتها الصحيحة”.
ويمكن تحديد المعلومات المضللة من خلال عدة وسائل عددتها منصة “تيدو”، وهي “تحليل بنية صياغة المعلومات، فالمعلومات المضللة غالبا ما تستخدم عبارات “نموذجية لتعزيز قوة الرسالة التي تنشرها”، مثل عبارة “لا يريدونك أن تعرف الحقيقة”.
وكذلك “البحث عن المعلومات في مصدرها الأساسي، وزيارة ملف التعريف للشخص الذي يشارك المعلومات ويتحدث عنها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فعادة ما يتم نشر الأخبار الزائفة عبر حسابات وهمية أو تم إنشائها حديثاً، واستخدام أدوات إضافية للتحقق، حيث أوجدت عدة مؤسسات أدوات للتأكد من الأخبار ومدى صحتها، والتي تعتمد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي”.