بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التراجع عن قراراته المثيرة للجدل بفرض رسوم جمركية على معظم بلدان العالم، وذلك بتعليقها لمدة 90 يومًا، وخفضها خلال تلك الفترة إلى 10% بأثر فوري على الدول التي لم تتخذ إجراءات مضادة انتقامية. ومع ذلك فقد حدث الشرخ، وأمست عملية جبره طويلة ومعقدة؛ فالضرر طويل الأمد الذي لحق بالقيادة المالية الأمريكية لن يُعوَّض بين عشية وضحاها.
وعلى الرغم من أن الرسوم الجمركية والحروب التجارية استراتيجية سياسية في المقام الأول، إلا أن انعكاساتها الاقتصادية قد تكون مروعة، وثمنها فادح؛ فهي قادرة على إشعال التضخم، وضرب سلاسل التوريد، وإثقال كاهل المستهلكين بارتفاع الأسعار، كما أنها دفعت الشركات إلى كبح استثماراتها، وأبطأت التوظيف، وخلقت حالة من عدم اليقين العميق في الاقتصاد العالمي.
فمَن يدفع ثمن المغامرات السياسية في الاقتصاد العالمي هم المستهلكون في المقام الأول؛ فعندما ترتفع أسعار السلع اليومية لا تدفع الحكومات الثمن، بل المستهلكون، وعندما تتعطل سلاسل التوريد فإن الشركات المحلية هي التي تعاني أولاً، وعندما تعاني الشركات فالاقتصاد العالمي كله يصير كالجسد المريض.
رؤية استراتيجية أم حيلة سياسية؟
ويبدو أن الإدارة الأمريكية بتراجعها التكتيكي قد رأت – ولو متأخرًا – عواقب تلك المغامرات السياسية. وبالطبع فقد رأت أيضًا ما قد يُحدثه هذا التراجع في إنعاش الأسواق المالية، والاقتصاد العالمي برمته؛ فقد أدت عملية تعليق الرسوم إلى ارتفاع البورصة والأسواق المالية العالمية؛ إذ قفز مؤشر ستاندرد آند بورز 500 في وول ستريت بنسبة 7.5%، بينما ارتفع مؤشر ناسداك المركب بنسبة 9.4% تقريبًا، كما ارتفع مؤشر داو جونز بنسبة 6%.
وفي سوق السندات لم يختلف الأمر كثيرًا، وكان التأثير الفوري لتعليق الرسوم حاضرًا؛ فقد ارتفع عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشر سنوات بنسبة 0.1 نقطة مئوية؛ ليصل إلى 4.37%، في ظل ترقُّب وحذر لما بعد مهلة الـ90 يومًا.
وعلى الرغم من التراجع الذي أصاب البورصة فور إعلان الرسوم الجمركية، ثم الارتفاع فور علمهم بتعليقها، إلا أن وزير الخزانة سكوت بيسنت نفى أن يكون أداء الأسواق خلال الأيام الأخيرة قد أثر على قرار “ترامب” بشأن تعليق الرسوم، وقال: “لقد اتصلت بنا أكثر من 75 دولة، وأتصور أنه بعد اليوم سيكون هناك المزيد”.
وقال إن الأمر مجرد مشكلة في طور المعالجة.
ارتياح مشوب بالحذر
وأظهرت الأسواق المالية ارتياحًا مشوبًا بالحذر للقرارات الجديدة.. لكن بحسب مراقبين فإن الأمر سيستغرق وقتًا طويلاً لاستعادة الثقة، ولاسيما الثقة في القيادة الأمريكية للتجارة الدولية.
ويقول في هذا الصدد نايجل جرين، الرئيس التنفيذي لمجموعة ديفير، إحدى كبرى شركات الاستشارات المالية وإدارة الأصول المستقلة في العالم: “لم يكن التخريب الاقتصادي الناجم عن الرسوم الجمركية مستدامًا قط. لم يكن التراجع مرجحًا فحسب، بل كان دائمًا حتميًّا، لكن الضرر طويل الأمد الذي لحق بالقيادة المالية الأمريكية لن يُعوّض بين عشية وضحاها”.
وأضاف: “يثبت الارتفاع القوي اليوم هذه النقطة، وهي أن الأسواق مستعدة لمكافأة العقلانية فورًا وبشدة، لكنها ستعاقب بالسرعة نفسها أي بادرة على أن هذا التوقف ليس سوى حيلة سياسية مؤقتة، وليس بداية لإعادة تفكير استراتيجي شاملة”.
وتابع: “إنهم يريدون الوضوح، إنهم يريدون الاستقرار، ويطالبون بقيادة تدعم النمو فعليًّا بدلاً من أن تخربه”.
وأكد “جرين” حقيقة تقلبات السوق السريعة بقوله: “أطلقت الأسواق تحذيرًا. الاستقرار والوضوح ليسا اختياريَّيْن، بل هما مطلوبان، وإذا لم توفِ واشنطن بوعودها بالكامل فقد يتلاشى هذا التفاؤل المؤقت بالسرعة نفسها التي اشتعل بها”.
ولعل توقعات منظمة التجارة العالمية بانخفاض تجارة السلع بين واشنطن وبكين تعضد من أهمية تحذيرات الرئيس التنفيذي لمجموعة ديفير؛ فقد توقعت المنظمة العالمية أن تنخفض تجارة السلع بين البلدين بنسبة تصل إلى 80% بعد تبادلهما القرارات الانتقامية.
وحذرت جوزي أوكونجو إيويالا، مديرة منظمة التجارة العالمية، من أن الدول الأخرى ستتضرر من النزاع بين الولايات المتحدة والصين، وستكون الدول الأقل ثراء هي الأكثر تضررًا.
وقالت “إيويالا”: “إن انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتلتين يمكن أن يؤدي إلى انخفاض طويل الأجل في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي، بنسبة 7%”.