واعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن كييف تهدف لبناء منظومة أسلحتها الخاصة للاستمرار في القتال مع روسيا، لكن الأمر سيستغرق وقتًا قد لا يكون لدى أوكرانيا وسط تصاعد الحرب الراهنة، إذ يأتي تكثيف تلك الجهود في لحظة محورية، حيث تعمل آلة الحرب الروسية بالفعل على مضاعفة إنتاج الأسلحة 4 مرات، كما تخسر القوات الأوكرانية جزءًا من أراضيها ببعض المناطق الرئيسية، كما لا تزال حزمة المساعدات الأمريكية مُعلقة في الكونغرس.
ويرى مراقبون ومحللون عسكريون في حديثهم لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن أوكرانيا باتت تحت وطأة أزمة كبرى منذ نحو العام، فالدعم الدعم الغربي لم يعد يسير بنفس الوتيرة التي بدأ بها الحرب، كما تواجه القوات الأوكرانية بشكل واضح نقصًا في المعدات والأفراد على الجبهات، لكنها مع ذلك تسعى لتطوير أسلحة محلية مثل التوسع في إنتاج “المُسيرات” ومدافع “بوهدانا”؛ في محاولة لتجنب “مساومات الحلفاء” وإثبات قدرتها على إلحاق الضرر بروسيا، ومن ثم تشجيع الغرب على تقديم المزيد من الدعم.
ترسانة محلية الصُنع
كان لدى الجيش الأوكراني مدفع واحد من طراز “بوهدانا” عندما هاجمت روسياالبلاد قبل عامين، ومع ذلك، فإن هذا السلاح الذي تم تطويره محلياً في عام 2018، أثبت فعاليته في الأيام الأولى من الحرب لدرجة أنه تم نقله بالشاحنات إلى ساحات القتال في جميع أنحاء البلاد، من مدينة خاركيف إلى الساحل الجنوبي الغربي على طول البحر الأسود.
الآن، تقوم صناعة الأسلحة الأوكرانية ببناء ثمانية من أنظمة مدفعية “بوهدانا” ذاتية الدفع كل شهر، وعلى الرغم من أن المسؤولين الأوكرانيين لم يحددوا العدد الإجمالي الذي طوروه، فإن زيادة الإنتاج تشير إلى طفرة محتملة في إنتاج الأسلحة المحلية بالبلاد.
وتقول “نيويورك تايمز” إن الداخل الأوكراني بات متفقًا على الحاجة لإعادة بناء صناعة الدفاع المحلية حتى لا يضطر الجيش إلى الاعتماد لسنوات قادمة على الغرب، الذي تردد في بعض الأحيان في إرسال أنظمة أسلحة متطورة، بما في ذلك الدفاعات الجوية والدبابات وصواريخ بعيدة المدى، لكن الأمر يتوقف على مدى القيام بذلك في الوقت المناسب لتغيير مسار الحرب التي ستكون فيها كييف أكثر ضعفًا بدون المزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية.
ونجح المهندسون العسكريون الأوكرانيون في تطوير أنظمة الأسلحة القديمة، بقوة نيران أكثر حداثة، في حين قامت شركات الدفاع الأوكرانية خلال العام الماضي وحده، ببناء 3 أضعاف عدد المركبات المدرعة التي كانت تصنعها قبل الحرب، كما ضاعفت إنتاج الصواريخ المضادة للدبابات 4 مرات، وفقًا لوثائق الحكومة الأوكرانية.
تخطط الحكومة الأوكرانية لإنفاق حوالي 6 مليارات دولار هذا العام على الأسلحة محلية الصنع، بما في ذلك مليون طائرة بدون طيار، كما من المتوقع أن يزداد تمويل البحث والتطوير ثمانية أضعاف هذا العام إلى 1.3 مليار دولار من 162 مليون دولار، وفقًا لتحليل الميزانية العسكرية لأوكرانيا حتى عام 2030.
ومع ذلك، كان قطاع التصنيع العسكري الأوكراني يواجه العديد من التحديات بسبب الافتقار إلى رأس المال والقوى العاملة، بخلاف الكثير من الروتين الحكومي، وفق وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية.
كما باتت هناك صعوبة في إنتاج بعض الأسلحة داخل أوكرانيا مثل قذائف المدفعية عيار 155 ملم، التي هي في أمس الحاجة إليها، لأنها تعتمد على المواد الخام المستوردة وحقوق الترخيص من الشركات المصنعة والحكومات الغربية.
وقال مدير منظمة جمعت أكثر من 260 مليون دولار خلال العقد الماضي لتجهيز القوات الأوكرانية بالرشاشات والمركبات المدرعة: “أنت بحاجة إلى (هاون) ليس في غضون 3 سنوات، فأنت بحاجة إليه الآن، ويفضل أن يكون ذلك بالأمس”.
لعل أبرز مساعي الترسانة الحربية الأوكرانية، استهداف إنتاج نحو مليون طائرة مسيرة صغيرة، والتي لعبت دورا محوريا في الحرب ضد روسيا، عبر تجميعها في ورش محلية بسيطة منتشرة في جميع أنحاء البلاد.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، تنشر حاليا مصانع مؤقتة في جميع أنحاء أوكرانيا تنتج الآلاف من طائرات من طراز “FPV” شهريا، وعادة ما كانت تستخدم هذه الطائرات ذات المراوح الأربع لأغراض ترفيهية ولتنظيم السباقات، لكن الأوكرانيين استخدموها بكثافة في حربهم ضد روسيا سواء لتصوير أماكن تخندق الجنود الروس أو لضرب الدبابات والمدرعات.
بعد الانتهاء من تصنيع هذه الطائرات يجري إرسالها للخطوط الأمامية في الجبهة، حيث يقوم الجنود بربط المتفجرات بها وتوجيهها إلى الخنادق الروسية والمركبات المدرعة، ويتم التحكم بها بواسطة شخص واحد يستخدم وحدة تحكم ويرتدي نظارات واقية تسمح له برؤية ما تراه كاميرا الطائرة المسيرة.
ويعمل منتجو الطائرات المسيرة على صناعة أنواع جديدة يمكنها التحليق لمسافة أبعد، وحمل ذخائر أثقل، والتهرب من أجهزة التشويش الإلكترونية الروسية، التي تقطع الاتصال بين الطائرة المسيرة ووحدة التحكم.
نجاح.. وتعقيدات
من كييف، قال محلل الشؤون الأوكرانية بمجموعة الأزمات الدولية، سيمون شليغل، في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن أوكرانيا حققت نجاحًا ملحوظًا في إنتاج الطائرات بدون طيار وتعديل “المُسيرات” المتاحة تجاريًا إلى أسلحة فتاكة، وقد مكّن ذلك أوكرانيا من سد بعض النقص في الذخيرة وضرب أهداف حاسمة في أعماق روسيا.
وأضاف شليغل أنه “نظرًا لأن هذه أسلحة صغيرة نسبيًا، يمكن لأوكرانيا الاعتماد على شبكة لامركزية من مواقع التصنيع، وهذا ضروري في بلد يمكن لروسيا فيه ضرب أي مكان بطائرات بدون طيار وصواريخ”.
وشدد على أن إنشاء مصانع كبرى للإنتاج الضخم للطائرات بدون طيار أو قذائف المدفعية ليس مستحيلاً، ولكنه معقد للغاية في ظل هذه الظروف، ومع ذلك دخلت كييف في شراكات مع مصنعي الأسلحة الغربيين لإنتاج ذخيرة مدفعية وصيانة مركبات مسلحة، لكنه مع ذلك أضاف أنه “قبل أن تتدحرج القذائف الأولى من خط الإنتاج، فإن الدفاع الجوي الموثوق به يُعد في حالة حرجة”.
ولا يعتبر محلل الشؤون الأوكرانية بمجموعة الأزمات الدولية، أن أوكرانيا بمقدروها الاستغناء عن دعم الحلفاء، حيث قال إن كييف لن تتمكن من استبدال المساعدات العسكرية التي تلقتها من الشركاء الغربيين بالإنتاج المحلي، وبالتأكيد لن تكون بالسرعة الكافية للتغلب على روسيا، إذ يمكن لأوكرانيا محليًا إنتاج القدرات لسد بعض الثغرات، ولكن ليس لاستبدالها.
وضرب مثالا على ذلك بالقول: “يمكن للطائرات بدون طيار بعيدة المدى أن تفي ببعض مهام الصواريخ المدعومة من الغرب، والتي لا يُسمح لأوكرانيا باستخدامها على أهداف داخل روسيا، أو يمكن للطائرات بدون طيار “FPV” أن تصيب بعض الأهداف التي سيضربها جيش مجهز بشكل أفضل بالمدفعية، لكن على المدى الطويل، لا يمكن لهذه القدرات أن تحل محل التدفق المستمر للدعم العسكري الغربي”.
أزمة الدعم.. وأهمية “الدرونز”
واتفق مع ذلك الباحث المتخصص في السياسات الدفاعية، محمد حسن، لموقع “سكاي نيوز عربية”، الذي قال إن الدعم الغربي لأوكرانيا تراجع مؤخرًا بالتزامن مع معاناة الجيش الأوكراني من نقص في المعدات والأفراد على الجبهات، ما يعني أنه ليس بمقدور كييف إجراء عمليات التعبئة بما يناسب احتياجات المعارك في الحرب، في ظل تفوق روسي واضح سواء في التعبئة والمعدات والقدرة النارية.
وأشار حسن إلى أهمية الطائرات بدون طيار كسلاح تكتيكي منخفض التكلفة، سواء للقوات الروسية أو الأوكرانية، لافتًا إلى أنه بالنسبة للقوات الأوكرانية نجد أنها تُركز على نوع محدد من المسيرات وهي “FPV” المطورة محليا، وهي عبارة عن ذخائر جوالة منخفضة التكلفة لكنها تتميز بقدرات سريعة وحادة للمناورة حول الهدف، كما تحمل في العادة قذائف “آر بي جي”، وتُناسب بشكل فعال حروب الخنادق.
وأشار إلى أن أوكرانيا دخلت بالفعل في خط إنتاج لهذه المسيرات، حيث تسعى لأن يصل إنتاجها من هذا النوع خلال العام الجاري إلى مليون مسيرة، في حين تشير تقارير غربية إلى أن كييف أنتجت في الأشهر الأولى من العام الجاري نحو 200 ألف مسيرة من هذا النوع.
هجمات بالعمق
وبيّن الباحث المتخصص في السياسات الدفاعية، إلى أن هذا النوع من المسيرات الأوكرانية بإمكانه مهاجمة أهداف بالعمق الروسي، إذا تم إطلاق هذه المسيرات من داخل الأراضي الروسية وعلى بعد بضعة كيلومترات من الهدف، لكنها لن تؤدي هذا الدور إذا تم إطلاق هذه المسيرات من داخل الأراضي الأوكرانية، حيث لا يتعدى مداها من 5 لـ 20 كيلو مترات.
وأوضح أنه بالنظر إلى الهجمات التي تعرضت لها روسيا مؤخرًا، فغالبيتها عبارة عن مصافٍ للنفط تقع على بعد 600 كم من الحدود الأوكرانية، ما يعني أنه يتم إطلاق هذه الدرونز من داخل الأراضي الروسية، فيما عدا بعض أنواع من الدرونز التى طورتها أوكرانيا من طرازات “TU-140”.
لكن اللافت مؤخرا أن أوكرانيا باتت تستخدم طائرات خفيفة يتم قيادتها عن بُعد في مهاجمة أهداف داخل الأراضي الروسية بعمق ألف كم، مثل مصنع طائرات “شاهد 136” الذي تم مهاجمته في تترستان بطائرة “A-22” يتم التحكم بها بُعد.
وعن تأثير تلك الضربات الأوكرانية بالعمق الروسي على مسار الحرب، يعتقد “حسن” أنها لن تُغير من مجريات الحرب، إذ لا تتعدي كونها “لكمات ضعيفة للاعب مهزوم” بفعل القدرة النارية الضخمة للقوات الروسية وتثبيت موسكو لمعدلات الردع النووي مع الغرب.
واستهدفت أوكرانيا يوم الثلاثاء، مصفاة تكرير في تتارستان، وهي منطقة صناعات عالية جنوب شرقي موسكو، عبر طائرات مسيرة أوكرانية، مما أسفر عن سقوط 13 جريحاً.
وتشن أوكرانيا بانتظام هجمات بمسيرات أو أعمال تخريب ضد مصانع أو سكك حديد أو مصافي تكرير النفط في الأراضي الروسية، لكن من النادر أن تطال ضربة بنى تحتية بعيدة إلى هذا الحد.
كما هاجمت طائرتين مسيرتين، مبنى سكني على أراضي منطقة ألابوغا الصناعية الخاصة، حيث أصيب 7 أشخاص وفق ما ذكرت وسائل إعلام روسية.
وسبق أن اعترضت دفاعات الحرب الإلكترونية الروسية، طائرة مسيرة أوكرانية قرب مصفاة “تانيكو”، وهي واحدة من أكبر المصافي الروسية في “نيجنكامسك”.
تكتيكات الحرب
الخبيرة الأميركية المختصة في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، إيرينا تسوكرمان قالت لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن الإنتاج المشترك لطائرات “بيرقدار” بدون طيار في أوكرانيا مع تركيا، كان أحد أكبر التغييرات الناتجة عن الضغوط على كييف لتطوير صناعة أسلحة مستقلة، ومع ذلك تؤكد أن الأمر الأكبر هو الزيادة السريعة في التصنيع المحلي للطائرات بدون طيار.
وأوضحت “توسكرمان” أنه قبل اندلاع الحرب لم تكن أوكرانيا تنتج أي أسلحة محلية على الإطلاق على الرغم أنها كانت ذات يوم مركزًا لإنتاج الأسلحة السوفيتية وخاصة الدبابات.
وذكرت أنه في الوقت الحالي، وعلى الرغم من التحديات المتعلقة باضطرابات القتال، والهجمات على المرافق، والخسائر في صفوف المدنيين، فإن الإنتاج المحلي للأسلحة في أوكرانيا يزدهر على الرغم من أن الأعداد لا تزال غير كافية للاعتماد على نفسها بالكامل بعيدًا على الترسانات الغربية المتطورة، حيث تنتج أوكرانيا الآن المركبات العسكرية والصواريخ والطائرات بدون طيار وغيرها من العناصر الحاسمة في المجهود الحربي.
وأشارت الخبيرة الأميركية المختصة في الشؤون الأمنية إلى أن أوكرانيا تستخدم بعضًا من دباباتها الخاصة، ولكن في هذه المرحلة من الحرب، فإن تلك الدبابات المحلية تحدث فرقا أقل بكثير من المركبات المدرعة مثل “برادلي” الأميركية.
وتعتقد أن مشكلة التمويل ستمثل عائقًا أمام الإنتاج العسكري المحلي في أوكرانيا، مضيفة: “حتى إنتاج الأسلحة المحلي يتطلب التمويل، لذلك دعت كييف الغرب للمساعدة في تمويل إنتاجها المحلي، في حين تنفق أوكرانيا ما يقرب من نصف ميزانيتها على تصنيع المدافع وتعتمد على المانحين الدوليين لتغطية النصف الآخر”.