شهدت السوق العقارية في مدينة الرياض خلال الأعوام الأخيرة تحولًا كبيرًا، تجاوز كونه تصاعدًا في الأسعار إلى كونه تحديًا بنيويًا في قدرة المواطنين على تملّك المسكن. وفي خضم هذه التحديات، جاءت توجيهات رئيس مجلس الوزراء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – في 29 مارس 2025 لتخلق قفزة لدعم السوق، وتنقل القطاع في واحدة من أهم تحدياته وهو ارتفاع الأسعار.
ووفقاً لخبراء العقار فما صدر عن القيادة حزمة من الإجراءات تُعيد تعريف السوق العقاري بوصفه مكوّنًا حيويًا في التنمية الاجتماعية، وجودة الحياة، واستدامة النمو الاقتصادي، كما أن صدور التوجيهات في ليلة عيد الفطر كان رسالة زمنية تحمل دلالة. القيادة كانت تتابع بدقة أثر تضخم الأسعار في العاصمة، وتدرك أن تأجيل المعالجة سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً أنه في السنوات الأخيرة، ووفقًا لتقرير نُشر في فايننشال تايمز بتاريخ 6 يناير 2025، ارتفعت أسعار المنازل في الرياض بنسبة 81% منذ عام 2020، وارتفعت أسعار الشقق بنحو 56%.
قرارات نوعية
جاءت توجيهات سمو ولي العهد لتفتح الباب على تغييرات جوهرية في هيكلة السوق العقاري، أبرزها: رفع الإيقاف عن أراضٍ شاسعة شمال العاصمة (81.48 كلم²)، توجيه الهيئة الملكية بتوفير ما بين 10,000 إلى 40,000 قطعة أرض سكنية سنويًا، تحديد سقف لسعر المتر عند 1500 ريال، إصدار تعديلات على نظام رسوم الأراضي البيضاء خلال 60 يومًا، تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر خلال 90 يومًا، وتفعيل أدوات مراقبة الأسعار وربطها بمؤشرات دقيقة. هذه الخطوات لا تعالج فقط تضخم الأسعار، بل تضع أُسس سوق أكثر عدالة ووضوحًا واستقرارًا.
وما يلفت الانتباه في التوجيهات ليس حجمها فقط، بل عمقها المفاهيمي. إذ لم تعد الدولة تنظر للعقار كمنتج استثماري بحت، بل كعنصر استراتيجي له تبعات اجتماعية واقتصادية وثقافية. تمثلت هذه الرؤية في تحديد المستفيدين من الأراضي السكنية وفق اشتراطات تضمن عدالة التوزيع ومنع المضاربات، ومنع التصرف في الأراضي لمدة عشر سنوات، ما يعني أن السوق لم يعد مفتوحًا للمضاربين، بل موجهًا للمواطن الذي يبحث عن استقرار حقيقي. إنها فلسفة تنموية حديثة تجعل من العقار حقًا عادلًا، لا فرصة مؤقتة.
تفعيل سريع
القرار لاقى إشادة واسعة من المسؤولين والمختصين. المهندس عبدالله الحماد، الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للعقار، كتب عبر حسابه في منصة “إكس” أن هذه التوجيهات تعكس التزامًا بتحقيق توازن عادل في السوق، وأن الهيئة بصدد إطلاق أدوات تقنية لمراقبة السوق، وضمان عدالة تعاقدية، وتحفيز المطورين على تقديم منتجات تتناسب مع احتياجات المواطن.
من جانبه، أكد وزير المالية محمد الجدعان أن الدولة تملك الأدوات الكفيلة بإعادة الاستقرار، فيما أشار وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم إلى أن هذه التوجيهات ستسهم في رفع جودة الحياة، وفتح الطريق أمام فئات واسعة للتملّك. الجميع يتحدث بلغة واحدة: هذه مرحلة بناء وليست مجرد تنظيم.
أسس واقعية
وفي ظل ارتفاع الأسعار الذي وثقته فايننشال تايمز في قراءة عميقة لها لم تكن القيادة بعيدة عن مؤشرات السوق. بل جاءت التوجيهات الأخيرة في صميم الواقع، وتعاملت معه بمهنية تنظيمية رفيعة.
وفي هذا السياق، أوضح المهندس عبدالله بن سعود الحمّاد، أن الهيئة العامة للعقار تعمل على تطوير مؤشرات سعرية دقيقة تُظهر حركة السوق بشفافية، بما يُمكّن الجميع — من الجهات التنظيمية إلى المواطن — من اتخاذ قرارات مبنية على أسس واقعية.
وأكد الحمّاد أن التوجيهات تهدف إلى تحقيق توازن عادل بين أطراف القطاع، وخصوصًا في السوق الإيجارية، من خلال أدوات مرنة تعزز العدالة دون الإضرار بجاذبية الاستثمار. هذا التصريح يعكس بوضوح أن ما يجري اليوم ليس مجرّد ضبط للسوق، بل بناء بيئة عقارية ذكية، عادلة، ومستدامة.
تخوفات الانهيار العقاري.. غير حقيقية
في أوساط المتابعين، برزت بعض الانطباعات التي تُبدي تخوّفًا من أن تؤدي التوجيهات الملكية الأخيرة إلى ما يُسمى بـ”انهيار العقار” نتيجة زيادة المعروض وخفض الأسعار. غير أن قراءة أكثر توازنًا لما صدر من قرارات، وما تبعه من تصريحات رسمية، تشير إلى أن ما يجري ليس تحريكًا عشوائيًا للسوق، بل تصميم على تحقيق التوازن الهيكلي العادل.
القرارات الملكية لم تُلغِ قواعد السوق، بل تصحيح تشوهات الأسعار. فالتوسع في المعروض، -وفقاً للخبراء- سيكون محكومًا بضوابط تضمن جودة الأراضي وتوزيعها على مستحقين حقيقيين، كما أن الأسعار ستكون منضبطة وفق شروط تعاقدية وتخطيط عمراني مدروس. وهذا لا يؤدي إلى انهيار، بل إلى تصحيح طبيعي ومستدام للأسعار، يتماشى مع رؤية المملكة 2030 في تعزيز جودة الحياة ومكافحة الاحتكار العقاري.
حفظ المصالح
وهذا تؤكده تجارب دولية – مثل ما حدث في سنغافورة وكندا – إلى أن التدخلات الحكومية الذكية لحماية المشترين وضبط الأسعار لا تُنتج انهيارات سعرية، بل تخلق استقرارًا طويل الأمد وتزيد من ثقة المواطن في سوق العقار. من هنا، فإن التوجيهات الأخيرة، بما فيها ضبط العلاقة الإيجارية ومراجعة الرسوم، لا تعني تراجع السوق، بل إعادة بنائه على أسس منطقية، تضمن استمرارية النمو وتحفظ مصالح المواطن والمستثمر على حد سواء.
عهد جديد في الحوكمة العقارية
وفي تأكيد واضح على دخول التوجيهات الملكية حيز التنفيذ، جاءت تصريحات م. عبدالله الحمّاد الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للعقار والتي نشرت على حساب الهيئة على منصة X لتعكس المرحلة القادمة من التطبيق العملي حيث يمثل ما ورد في حديثه خارطة طريق تنفيذية لمضامين التوجيه الملكي، بدءًا من ضبط العلاقة التعاقدية، مرورًا بإصدار المؤشرات السعرية العقارية، ووصولًا إلى معالجة التشوهات التي تعيق التوازن.
هذه الرسائل لا تحمل فقط وعدًا تنظيميًا، بل تُشكّل بداية فعلية لمرحلة مختلفة من الحوكمة العقارية التي تضع المواطن والمستثمر والمطور على طاولة واحدة، ضمن منظومة تتكامل فيها الشفافية مع المصالح، والسياسة مع التنمية.
الأكيد أيضاً أن تدخل سمو ولي العهد حفظه الله يمثل أعلى درجات الاستجابة لحل أزمة مستمرة في وقت يقف فيه القطاع العقاري السعودي على أعتاب مرحلة جديدة من النضج التنظيمي. وإذا كُتب لهذه التوجيهات أن تُنفذ كما هو مخطط لها، فإن الرياض لن تكون فقط مدينة النمو العمراني؛ بل مدينة التمكّن السكني والاستقرار المجتمعي. ما يُبنى اليوم ليس مجرد توفير عرض مقارب للطلب أو نحو ذلك، بل يمثل عقدًا جديدًا بين المواطن والسوق وبين التنمية والتمكين.