منذ عدة عقود، قرر القوميون الصهاينة المتدينون اجتياح الجيش الإسرائيلي، وظهر أن لوجودهم الكبير في صفوف المشاة عواقب على ساحة المعركة، فهم يخوضون بالفعل حربا مقدسة في أنقاض غزة، كما يتضح من آلاف مقاطع الفيديو المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي.
هكذا لخص موقع ميديا بارت تقريرا موسعا بقلم غوينايل لينوار حاولت فيه أن تظهر أن الحرب في أنقاض قطاع غزة غريبة، لأن الجنود يقومون بتصوير ساحة المعركة، ويصورون أنفسهم مع رفاقهم ويبثون مقاطع الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعي، مما يقدم صورة مزعجة ومثيرة للقلق عن جيش إسرائيلي، جنوده من جنس الذكور حصرا، وتسكنهم نزعة مسيحانية.
ويوضح إيال سيفان، الذي كان يجمع هذا النوع من مقاطع الفيديو منذ بدء الهجوم البري في غزة، وهو مخرج ومنتج معروف بالتزامه اليساري -فك رموز بعض مقاطع الفيديو للموقع- أن أحد المقاطع صور “في خان يونس، وهو يظهر كيف تحولت شقة الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون هناك إلى كنيس يهودي، يحتفل فيه جنود كلهم أرثوذكس وصهاينة متدينون”.
والغريب -حسب إيال سيفان- أن هذه الفيديوهات التي تم تصويرها وبثها خارج الإطار العسكري الرسمي، لا تثير أي رد فعل سلبي من جانب هيئة الأركان العامة، “لقد بدأ بثها على شاشة التلفزيون الإسرائيلي كعناصر من الجو السائد بين الجنود في غزة، مما يدل على أننا لا نجد من الصادم ولا من غير المناسب أن يبارك جنود جيش إسرائيل مخطوطات التوراة ويحولون بيوت الفلسطينيين إلى معابد يهودية”.
أدعية ومواعظ في ساحة المعركة
وتساءلت الكاتبة عما حدث في الجيش الإسرائيلي الذي أراد مؤسس الدولة ديفيد بن غوريون أن يكون مخصصا لها، من دون ارتباطات بمرجعيات دينية ولا أحزاب سياسية موالية للحكومة، لترد بأن ذلك كان في العقود الأولى للدولة، قبل أن يتزايد ثقل المتدينين، وخاصة المستوطنين الأيديولوجيين الذين يطلق عليهم الصهاينة المتدينون في المعسكر السياسي الإسرائيلي، ثم في القوات المسلحة.
ومع أن اليهود المتدينين رفضوا الخدمة العسكرية، فإن استحضار الدين ظاهر عند كل منعطف من أنقاض قطاع غزة، وفي مقاطع الفيديو القصيرة التي صورها الجنود، هناك عدد لا يحصى من الخطب الدينية الموجهة إلى الجنود، وإذ لم تكن من عمل الضباط فإنها تتم أمام أعينهم، مثل ظهور جندي يرتدي الطاقية اليهودية الكبيرة التي يرتديها المستوطنون وهو يبارك رفاقه قبل التوجه إلى المعركة قائلا “نحن جميعا جنود مقدسون”.
وفي الليل، ينطلق جندي آخر وسط دائرة كبيرة شكلها رفاقه، في خطبة تكرر فيها الجوقة جملا معينة، يترجمها إيال سيفان بالقول “في هذه الحرب سننتصر لأن الآب في السماء يحمينا. الله ملك يحكم إلى الأبد”، ثم يهتف الجميع “إلى النصر إلى النصر إلى النصر”، موضحا أنها “مزيج بين الصلوات والدعوات للحرب المقدسة، وهي ليست طقوسا معتادة للجيش الإسرائيلي”.
الأكاديميات العسكرية والدينية
وأوضحت الكاتبة أن الدين بدأ يأخذ مكانه في الجيش منذ غزو لبنان عام 1982، كما يقول رينيه باكمان في مقال نشر عام 2021 بعنوان “الجيش الإسرائيلي.. في خدمة الله أم الدولة؟” يقول فيه ياجيل ليفي، وهو عالم اجتماع إسرائيلي متخصص في القضايا العسكرية إن “نقص الأفراد ودخول مجندين من الطبقة الوسطى لديهم أحلام غير القتال، جعل هيئة الأركان العامة تحاول جذب الشباب المتدينين، من خلال مضاعفة الصفقات مع الحاخامات والترتيبات المحددة التي تهدف إلى تسهيل تجنيد المتدينين”.
وهكذا -تقول الكاتبة- ولدت هسدير يشيفا، وهي أكاديميات دينية تسمح للمجندين المستقبليين بالاستمرار لمدة 5 سنوات في الدراسات التلمودية والتدريب العسكري بالتوازي ثم الخدمة الفعلية، ومن أشهرها مدرسة بني داود التي تأسست عام 1988 في مستوطنة إيلي، في قلب الضفة الغربية بين القدس ونابلس، وقد قامت منذ بداياتها بتدريب نحو 2000 شاب، معظمهم يخدمون في وحدات النخبة والوحدات القتالية وفي الاحتياط.
وكانت حادثة إخلاء المستوطنات في قطاع غزة في صيف 2005 بمثابة صدمة للمستوطنين الأيديولوجيين من اليمين واليمين المتطرف، واليوم أصبح شعارهم واضحا لا لبس فيه “نحن عائدون إلى الوطن”.
واليوم، هناك العديد من الصهاينة المتدينين في أعلى المناصب في الجيش، وينقل رينيه باكمان عن ياجيل ليفي أن من بين 29 مدرسة تدريب عسكرية عاملة، هناك 16مدرسة دينية، و8 مدارس مختلطة و5 مدارس علمانية، وقد زادت نسبة الضباط الدينيين من 2.5% في منتصف التسعينيات إلى أكثر من 25% في منتصف العقد الأول من القرن الـ21.
يظهر في أحد المقطع جنود يغنون في دائرة وهم يمسكون بأكتاف بعضهم البعض “سنضرب حزب الله على رأسه، وفي غزة سنمحو نسل العماليق، لأنه لا يوجد أبرياء”
جيش منقسم إلى فريقين
يقول شير هيفر، الاقتصادي ومنسق حملة المقاطعة للحظر العسكري على إسرائيل، إن “الجيش منقسم إلى قسمين، فمن ناحية هناك أجهزة المخابرات والمسيرات والطيران، وهي تستخدم أدوات التكنولوجيا الفائقة أكثر من غيرها، ومن ناحية أخرى، هناك عربات المشاة والمدرعات، حيث يوجد الكثير من الجنود المتدينين من مؤيدي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهم الذين يحافظون على الاحتلال، ويحرسون نقاط التفتيش في الضفة الغربية”.
ويوضح إيال سيفان أن “جنوب أفريقيا استشهدت بفيديو في لاهاي” يظهر أن الجنود الذين يقاتلون ينقلون خطابات السياسيين، كما يظهر مدى تغلغل الخيال الديني في الجيش، ويظهر في المقطع جنود يغنون في دائرة وهم يمسكون بأكتاف بعضهم البعض “سنضرب حزب الله على رأسه، وفي غزة سنمحو نسل العماليق، لأنه لا يوجد أبرياء”.
وتتكون بعض الوحدات بالكامل من الصهاينة المتدينين، كما هي حال لواء كفير، الذي انتشر لأول مرة في قطاع غزة خلال الحرب الحالية، وقد تم دمج كتيبة “نيتساح يهودا” فيه، ولكل منهما تاريخ مثبت ومتكرر من العنف ضد الفلسطينيين، وعادة يمر العنف دون عقاب كما هي الحال اليوم.
ليفي: الجيش الإسرائيلي من الممكن أن يستغل عواطف الجنود وقادتهم لغرس الروح القتالية في نفوسهم، ولكن بعد الحرب، لا بد من بذل جهد لإعادة تأهيل القوات البرية حتى لا يتحول بعضهم أو كلهم إلى عصابات
انقسامات ظاهرة
في الجيش الإسرائيلي اليوم هناك نوعان من الجنود، كبار السن الذين تم استدعاؤهم ولديهم انضباط، والآخرون الذين يفعلون ما يحلو لهم، وهم يعتبرون قطاع غزة ملعبا يفعلون فيه ما يريدون، كالنهب أو قتل المدنيين الذين لا يشكلون أي تهديد، ويرى ياجيل ليفي أن هذا يمثل تحديا للموظفين، لأن هذه الأفعال التي يقوم بها الجنود الصهاينة المتدينون من جميع الرتب، تمثل شكلا من أشكال العصيان والرغبة في فرض قانونهم على أعلى القيادة العسكرية والسياسية.
“والأمر الأكثر إثارة للقلق -كما يرى ياجيل ليفي- هو انهيار التسلسل الهرمي للجيش، بحيث يسمع رئيس الأركان دعوات الانتقام، ويرى خروقات الانضباط، والموقف المهين تجاه قواعد إطلاق النار، لكنه لا يفعل شيئا تقريبا. لأنه يقع تحت إرهاب اليمين”.
وكتب ليفي وهو خبير في علم الاجتماع في مقال بصحيفة هآرتس أن “الجيش الإسرائيلي من الممكن أن يستغل عواطف الجنود وقادتهم لغرس الروح القتالية في نفوسهم، ولكن بعد الحرب، لا بد من بذل جهد لإعادة تأهيل القوات البرية حتى لا يتحول بعضهم أو كلهم إلى عصابات”.