منذ إعلان “حزب الله” انخراطه في الحرب التي بدأتها حماس في 7 أكتوبر الماضي، تاريخ هجومها المفاجئ على إسرائيل، من خلال فتحه جبهة “مساندة ودعم” على الحدود اللبنانية، لا يكاد يمر يوم من دون أن يخسر عددا من عناصره وقادته، سواء من خلال القصف الإسرائيلي أو عمليات الاغتيال التي تنفذها على كافة الأراضي اللبنانية وحتى السورية.
وسّعت إسرائيل ميدان مواجهتها مع حزب الله، متخطية ما يُعرف بـ “قواعد الاشتباك”، في المساحة والأهداف ونوعية السلاح، ولم تقتصر ضرباتها على مراكزه وبنيته التحتية، بل تجاوزتها إلى عمليات اغتيال قادته أينما وجدوا.
ومنذ بدء المعركة على الحدود الشمالية يبدو أن الجيش الإسرائيلي يسعى إلى ما يطلق عليه “جباية الثمن” من “حزب الله”، حسبما يقول خبراء ومراقبون لموقع “الحرة”.
ورغم تضارب الأرقام حول خسائر الحزب البشرية، تشير وكالة رويترز إلى مقتل نحو 270 من عناصره في الأشهر الستة الأولى من الحرب بالإضافة إلى نحو 50 مدنيا، في حين تؤكد وكالة فرانس برس أن عدد قتلاه وصل إلى 359 على الأقل بينهم 236 عنصرا من الحزب و70 مدنيا.
وبالنظر إلى الإحصائيات المذكورة يبدو أن رقم القتلى كبير مقارنة بخسائر الحزب خلال “حرب تموز” عام 2006، التي طالت كافة الأراضي اللبنانية.
قائمة استهدافات
في الشهر الأول من المعارك الدائرة حالياً، تكبّد “حزب الله” خسائر بشرية كبيرة جداً، نتيجة إطلاق عناصره، بحسب ما يرى رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات في لبنان، العميد الركن هشام جابر، وقال: “الصواريخ المباشرة، والبقاء في مكانها، وبعد دقائق قليلة كانت تتعرض لقصف من الطائرات المسيرة الإسرائيلية، ولكن الآن، أصبحت تنتقل بسرعة من مواقعها”.
كما أن إسرائيل تستهدف، بحسب ما يقول جابر لموقع “الحرة”، “الصف الثالث من حزب الله، حيث تمتلك قائمة بالأشخاص الذين ترغب في اغتيالهم، وتستخدم وسائل متطورة تسمح لها بالتجسس على هواتفهم، وتتبع مواقعهم عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، إضافة إلى تجنيد العملاء، وبينما يعلن الحزب أسماء قتلاه..”.
ويقول جابر: “استمرت حرب يوليو مدة أربعة أسابيع وكانت مختلفة تماماً عن المعارك الدائرة الآن، حيث سقط خلالها 4000 لبناني بينهم 500 عنصر من حزب الله، أما اليوم، فقد تم تسجيل سقوط 280 عنصراً من حزب الله فقط”.
من جانبه، يرى الخبير الإستراتيجي والعسكري العميد المتقاعد، ناجي ملاعب، أنه “في ظل وجود قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان وانتشار الجيش اللبناني هناك، وبدون وجود مواقع معتمدة لحزب الله في القرى المحيطة، فإنه حين يخرج عناصر الحزب إلى الغابات ويضعون منصات إطلاق الصواريخ لقصف الثكنات الإسرائيلية، يعرّضون أنفسهم للرصد الجوي والاستهداف، بالإضافة إلى تعرض قادة الحزب للاستهداف أثناء تنقلهم بالسيارات أو خلال تواجدهم في منازلهم، مما يتسبب في زيادة كبيرة في خسائره”.
ويضيف ملاعب، في حديث مع موقع “الحرة”، “نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي والحروب السيبرانية، حيث تستخدم تقنيات متطورة للرصد خلف الخطوط، فالاستهداف اليوم يتطلب مراقبة دقيقة ورصداً متقدماً باستخدام التكنولوجيا، بالإضافة إلى دور العملاء الذين قد يلعب الوضع الاقتصادي الصعب في لبنان دوراً في انضمام بعضهم لشبكات التجسس الاسرائيلية، مما يؤدي إلى زيادة الاستهداف وبالتالي زيادة عدد الضحايا”.
اختلاف جوهري
ويشدد رئيس المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات، العميد الركن المتقاعد، خالد حمادة، على أنه “لا يمكن مقارنة التراشق الحالي الذي يحدث في جنوب لبنان بين حزب الله وإسرائيل مع ما حدث في عام 2006، فهناك اختلاف جوهري في نظام المعركة المتبع سواء من قبل إسرائيل أو من قبل حزب الله”.
ويشرح حمادة في حديث مع موقع “الحرة” أنه “في عام 2006، اعتمدت إسرائيل على القصف العنيف لجميع البنى التحتية الرسمية في لبنان، بما في ذلك الجسور ومحطات الكهرباء وغيرها من المرافق الحيوية، ولم تستهدف بشكل مباشر نقاط انتشار حزب الله أو مقاتليه، وكانت تبرر هذه الهجمات التدميرية بالقول إن الدولة اللبنانية مسؤولة عن وجود حزب الله على أراضيها وينبغي عليها تحمل العواقب، بالمقابل، كان حزب الله يتموضع في مواقع دفاعية تحت الأرض، مما ساهم في حمايته وعدم تعرضه لخسائر مباشرة”.
أما المواجهة الحقيقية التي وقعت حينها فكانت بحسب حمادة “في الأيام الأخيرة للحرب، عندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي اللبنانية، وكانت تلك نقطة ضعف له حيث تمت مواجهته عن طريق استخدام الكمائن وضرب مجنباته وانساقه الخلفية ومدرعاته في أماكن يستحيل المناورة فيها. وفعلياً، لم يكن هناك مواجهة مباشرة بين وحدات مكشوفة مع الجيش الإسرائيلي، بل كانت مجموعات حزب الله تحتمي، تتخذ مراكز للرمي، تنتظر الجيش الاسرائيلي وتوقع به الخسائر، مما جعلها تقلل الخسائر وتحقق ميزة تفاضلية”.
أما الآن، فليس هناك توغل بري، يقول حمادة، “وتركز إسرائيل جهدها الاستعلامي على ملاحقة عناصر الحزب وما تعتبره بنية تحتية له ودون أن يكون هناك أي تعرض عشوائي لبنى تحتية أو لعناصر لا علاقة لها بالحزب، وهذا الأسلوب المتبع يختصر على إسرائيل الكثير من الجهد، وهو يعتمد على الاستعلام وجمع المعلومات وتقصيها وملاحقة الأهداف والتعامل معها بشكل دقيق”.
وعن الفرق بين “حرب تموز” والمعارك الدائرة يرى ملاعب “في عام 2006، شهدنا توغلاً إسرائيلياً، حيث كان الهدف احتلال وتدمير بلدات لبنانية بشكل ممنهج بواسطة الطيران الإسرائيلي دون اللجوء إلى اشتباكات مباشرة أو استهداف قادة حزب الله، كما أنه لم يكن لدى الحزب وجوداً منظماً كما اليوم، ولم يكن لديه الخبرات التي اكتسبها من حربه في سوريا، حيث كان ينتشر في المنطقة المقابلة لإسرائيل”.
كذلك يقول جابر : “في حرب تموز، شهدنا اجتياحاً للجيش الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، بينما الآن نشهد تراشقاً يومياً دون أن يدخل الجيش الإسرائيلي شبراً واحداً في الأراضي اللبنانية”.
تطور تقني
كما يوجد فارق تقني كبير يتمثل، بحسب حمادة، “في التطور التكنولوجي بين الفترة من عام 2006 وحتى عامي 2023 و2024، أي لمدة تقارب 17 عاما ونصف، فقد شهدت التقنيات المتعلقة بالاتصالات والتشويش وجمع المعلومات والملاحقة تقدما كبيراً، ومن بين أبرز التطورات توسع استخدام المسيرات وتحسين إمكانية رصد ومتابعة الأهداف على مدار الساعة”.
إضافة إلى ذلك، “أصبحت القدرة على الرماية في ظروف مناخية سيئة أو من ارتفاعات شاهقة متاحة بشكل أكبر. هذا المستوى المتقدم من التكنولوجيا قدّم للجيش الإسرائيلي فرصاً كبيرة لتحقيق إصابات في صفوف حزب الله وملاحقة الأهداف الدقيقة مثل العناصر والمواقع التي تستخدم لإطلاق الصواريخ”.
كلام حمادة يؤكده ملاعب بالقول إن “الاختلاف البارز عن حرب 2006 يكمن في وجود تقنيات متطورة للغاية، حيث لا تقتصر قدرة إسرائيل على استيراد هذه التقنيات، بل تصنعها وتوردها أيضاً، على سبيل المثال، عندما شاركت ألمانيا في حلف الناتو في أفغانستان، استأجرت أربع مسيرات إسرائيلية، وحالياً، تستورد بريطانيا تلك المسيرات الإسرائيلية”.
ومن جهة أخرى، تمتلك إسرائيل بحسب ملاعب “شركة “إن إس أو” للاستخبارات الإلكترونية المتخصصة بالتجسس على الهواتف، وهي جزء من وحدة الاستخبارات والاستعلام الاسرائيلية، رغم الزعم أنها شركة خاصة، ولهذا السبب، يحظر حزب الله على أعضائه حمل أجهزة الهواتف المحمولة أثناء تنقلاتهم ويمنع استخدام الكاميرات المتصلة بالإنترنت في المنازل في القرى الحدودية”.
استراتيجية خاصة
وينظر المحلل العسكري الإسرائيلي، إيال عليما، إلى الأرقام الخاصة بقتلى “حزب الله” بعين يشوبها التباين والاختلاف. ويقول إن الحزب “دائما ما يحاول إعطاء أرقام غير صحيحة، في محاولة منه لتقليص الخسائر”.
وينطلق بذلك حسب ما يوضح عليما لموقع “الحرة” بالقصف وإصابة المواقع أو شل قدرات “حزب الله” لكي تصبح عملية بنائها صعبة.
ويعتقد كوبي لافي، وهو خبير عسكري وعميد إسرائيلي متقاعد، أن عدد قتلى الطرف الآخر ليس مهماً بالنسبة لإسرائيل، “نظراً للأضرار الجسيمة الحاصلة وإخلاء الناس من بيوتها”.
ولذلك تواصل الحرب “لكي تتوقف كل محاولات تهجير مواطنيها من بلادهم”، مشيراً إلى أن إسرائيل تسير بموجب استراتيجية خاصة في عمليات استهداف “حزب الله” وقادته.
ويضيف لموقع “الحرة” أن الضربات الإسرائيلية الدقيقة يراد منها أن تجعل “حزب الله” يفكر من جديد حول ما إذا كان سيوسع الحرب أم لا.
بين حربين
ولا يرى عليما أي قواسم مشتركة بين المعركة الحالية التي تخوضها إسرائيل مع “حزب الله” وتلك التي جرت في يوليو 2006.
ويقول: “كل شيء يختلف”، شارحاً “إسرائيل وخلال حرب 2006 استهدفت عمق الأراضي اللبنانية والمنشآت التحتية، ورغم أنها تستهدف الآن ووصلت إلى نقاط في عمق لبنان يبدو أنها تلتزم بقواعد”.
ويضيف “نرى تدهوراً على مستوى المنطقة الجغرافية واستهداف مناطق في عمق لبنان لكن العمليات تطال أهداف عسكرية لا بنى تحتية مدنية، وفي المقابل لا نرى أن حزب الله يلجأ أيضا من جانبه إلى إطلاق الصواريخ للمركز والعمق الإسرائيلي”.
أما العميد المتقاعد كوبي لافي فيعتبر أن إسرائيل “لها قدرات جنونية”، لكنها “لا تفتح المجال أمام العدو ليفهم تماماً كيف تفكر وما الذي تريده بالتحديد الآن. سنرى لاحقاً قدرات كبيرة بالتدريج وليس من الحكمة من إسرائيل أن تقول ما لديها للعالم الآن”.
ويضيف لافي “يجب أن تكون قدرات إسرائيل مخفية على أن تستخدمها وتظهرها في حالات الحرب فقط. وهو ما نشاهده الآن”.
الوضع متجه نحو التصعيد بين حزب الله وإسرائيل كما يرى جابر “لكن ليس من مصلحة حزب الله أن يفتح جبهة واسعة، لاسيما أن هناك جدلاً وانقساماً داخل لبنان حول سلاحه، كما أن لا أحد في لبنان يريد تدمير البلد، فحزب الله في موقع الدفاع، لكن إذا فتحت إسرائيل الجبهة، سيقوم بالرد بالصواريخ الدقيقة، وسيجد الدعم الواسع حينها من اللبنانيين لأنه يدافع عن بلدهم”.
بالمثل، يفضل الإسرائيليون وفقاً لجابر “أن يكونوا في موقع المدافع، وفي حالة وقوع هجوم، سيستنجدون بالولايات المتحدة بحجة أن حزب الله هو المعتدي. وبينما يتوسع نطاق الضربات الإسرائيلية في لبنان يقوم حزب الله بالرد بتوسيع الضربات في الجولان، فهناك خطوط حمراء لا يتجاوزها الحزب، حيث يقوم بوزن ضرباته بميزان الذهب”.