“أيام مثالية”.. عزلة عامل نظافة هادئ تلامس روحه السماء

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

في عصر يميل نحو الأفلام الملحمية هائلة الميزانية وسينما الأبطال الخارقين، يكون من المدهش مشاهدة فيلم كهذا، صُنع بميزانية ضئيلة، وصُور في ستة عشرة يوما، وله هذا القدر من الجاذبية والتأثير.

يحكي فيلم “أيام مثالية” (Perfect Days) بتنويعات بسيطة دأب العمل اليومي لرجل يدعى “هيراياما”، يعيش حياة عزلة هادئة، ومهنته تنظيف وصيانة حمامات شيبويا العامة، وقد لمس الفيلم حنين جمهوره لحياة أكثر بساطة وسكينة.

وقد أخرج الفيلم المُخرج الألماني “فيم فيندرز”، وكتبه بالتعاون مع “تاكوما تاكاساكي”، فكان نصه قليل الحوار، يتجسد معظمه في تلميحات محيرة حول أسباب حصر البطل “هيراياما” نفسه في هذه الحياة، وأدى دور البطولة الممثل “كوجي ياكوشو” أداء بارعا منحه جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان الماضي، وقد عُرض الفيلم عام 2023.

“نعلم أنك تحب اليابان والهندسة المعمارية”.. دعوة إلى الشرق

بدأ الأمر بدعوة المخرج “فيم فيندرز” لزيارة طوكيو وإلقاء نظرة على بعض الحمامات العامة، وقد جاء ذلك من مشروع طوكيو الفني الذي كلف عددا من المهندسين المعماريين والمصممين البارزين بإنشاء 17 حماما عامًا، تحمل لمسات جمالية خاصة في مواقع مختلفة في منطقة شيبويا بالمدينة.

“لقد اتصلوا بفيندرز وقالوا له: نحن نعلم أنك تحب اليابان والهندسة المعمارية، لذلك نود أن تأتي وتشاهد تصميماتنا، وإذا أعجبتك فربما يمكنك إنتاج سلسلة من الأفلام الوثائقية القصيرة عنها.” (1)

حين ذهب “فيندرز” إلى طوكيو وشاهد ما دُعي من أجله، شعر أن جمال وهدوء هذه الأماكن الصغيرة سيُستحضر بشكل أفضل في فيلم روائي طويل بدلاً من سلسلة وثائقية، لذا قال لمضيفيه إنه قادر على صناعة الفيلم بميزانية صغيرة، وفي جدول تصوير لن يستغرق أكثر 16 يومًا.

ما فعله معماريو طوكيو كان شيئا بسيطا وملهما، ومن روح هذه البساطة جاء هذا الفيلم، ومن روح “فيندرز” أيضا وُلد هذا الفيلم، وحده “فيم فيندرز” يستطيع أن يصنع فيلما شاعريا عن جمال الحمامات العامة في متنزهات يابانية.

“كي نشعر أننا نعيش”.. هوس إنسان المدينة المعاصر

هذا فيلم مصنوع بروح شرقية ولمسات شديدة الشاعرية، إنه أقرب في روحه لفلسفة “الزِّن”، وهي تتمحور حول الانسجام مع الحياة والطبيعة والذوبان في اللحظة الحاضرة.

يأتي فيلم “أيام مثالية” مضادا لهوس الحياة الحديثة بالتطلع الدائم إلى كل ما هو جديد، بدلا من تقدير ما هو موجود، وقد كتب الفرنسي “تريستان غارسيا” في كتابه “الحياة المكثفة.. هوس الإنسان الحديث” قائلا: إننا نولد الآن ونكبر في غمرة البحث عن الإثارة التي من شأنها أن تخبرنا بأننا عشنا، نقضي أيامنا في بحث محموم عنها، مهوسين بالإشباع المتنامي لرغباتنا، حتى لو كان لدينا كل ما نحتاج إليه، علينا أن نجرب كل شيء بكثافة كافية، كي نشعر أننا نعيش.

المخرج فيم فيندرز رفقة طاقم الفيلم

وكأن الفيلم يخبرنا أن اللحظات الأليفة الخالية من الإثارة، أو الإيماءة المكررة ألف مرة، يمكن أن تزخر بالحياة على نحو عجيب. فنرى الفيلم يتتبع “هيراياما” وهو يستيقظ فجرا، فيرعى نباتاته بمحبة، ويتناول قهوته المثلجة، ثم يمضي في طرقاته اليومية مستمتعا بموسيقاه المفضلة ذهابا وإيابا، ثم يستغرق تماما في عمله المتواضع.

يتناول “هيراياما” نفس الأطعمة في نفس الأماكن، لا يحدث الكثير في أيامه، ومع ذلك هناك جمال كثير في عالمه. في الليل يقرأ بطلنا، وعندما يحلم في نومه يرى الأبيض والأسود في تسلسلات خيالية صممها فيندرز بالتعاون مع زوجته المصورة “دوناتا فيندرز”. أحلام بسيطة وهادئة لرجل بسيط.

“الآن هو الآن، والمرة القادمة هي المرة القادمة”

يجرد الفيلم وجود “هيراياما” إلى ما هو جوهري لدى روحه، مثل رعاية النباتات والموسيقى والكتب والصور الفوتوغرافية والجمال الذي يتلقاه بامتنان من العالم، لكن لا تذهب به محبة هذه الأشياء إلى الهوس، أو تدفع به نحو دائرة الاستهلاك، فهو يستمع الى أشرطة كاسيت قديمة من أيام شبابه في الغالب، ويقرأ الكتب المستعملة، فلا يشتري كتابا جديدا قبل أن ينهي ما يقرأه، ويلتقط الصور بكاميرا أوليمبوس قديمة الطراز، وحتى النباتات التي يعتني بها في مسكنه هي شتلات صغيرة تنمو في ظلال الشجر في المتنزهات.

وبما أن الفيلم قائم على التكرار، فإن المخرج “فيندرز” يجتهد لإيجاد زوايا ووجهات نظر مختلفة، يمكن أن نشاهد من خلالها الأحداث المتكررة، ويصور أفعال “هيراياما” بتوازن وسكون يطابق موضوعه، ويمنحنا أداء الممثل “كوجي ياكوشو” شعورا بأن هذا الرجل في وئام مع الطبيعة، وفي سلام مع نفسه.

لا يبدو التكرار ثقيلا لديه، فكل ما يفعله يبدو وكأنه يفعله المرةَ الأولى، إنه رجل يعيش مستغرقا في اللحظة الآنية. تخبره ابنة أخته -وقد أتت لتقيم معه عدة أيام- أنها ترغب في رؤية المحيط، فيعدها أن يفعل ذلك في المرة القادمة. فتسأله: متى تكون المرة القادمة؟ فيجيبها: الآن هو الآن، والمرة القادمة هي المرة القادمة. تبدأ الأخت ترديد هذه الكلمات، فتبدو أغنيةً مثل جوهر للحكمة التي يعيش بها “هيراياما”.

وجود “هيرامايا” اليقظ يمنحه القدرة على رؤية ما لا يلاحظه الآخرون، مثل الرجل المتشرد الذي يقف دائمًا تحت نفس الشجرة، إنه يرى الجميع، ونظرته تمنح ما يراه معنى، وهو معنى مستمد من الوجود المحض لما يراه.

سلام الشخصية المركزية.. صراع خارج الشاشة في أعماق المُشاهد

شخصية “هيراياما” هي روح الفيلم، لكن المخرج “فيندرز” لا يكشف كثيرا عن بطله، ولا يحاول تقديم صورة واضحة عن ماضيه، أو ربط تفاصيل حياته كلها بدقة شديدة، كما أنه لا توجد حبكة في الفيلم، بل إن شخصية “هيراياما” بحضورها البسيط وعينيها التي تحتضنان الوجود تبدو مثل مرساة للسرد.

بطل الفيلم “هيراياما” منهمك في تنظيف مراحيض طوكيو

لا يتحدث “هيراياما” إلا نادرا معتمدا على الإيماءة والإيحاء وعلى نظرات عينيه، فكل نظرة تحمل معنى، وجهه هادئ لكن تزوره ومضات من الحزن في مواقف بعينها، تدل على ماض غير سعيد. يوحي ظهور الأخت بأناقتها، بسيارتها وسائقها، بشكل الحياة التي تركها الأخ وراءه، مثلما يوحي اللقاء بينهما بالألم الذي ودعه مع هذه الحياة.

إن هذا الشعور بالسلام والاتزان أمر نادر في الشخصية المركزية للفيلم، فالسينما في نهاية المطاف تزدهر على الصراع، ويبدو الفيلم كأنه يخلق دراما خاصة به، بعيدا عن الشاشة في عقول مشاهديه.

لا شك أن الفيلم يثير صراعا حقيقيا داخل مشاهديه، فيثيرهم على الطريقة التي يرون بها العالم، أو يعيشون بها حياتهم، وهي تناقض رؤية “هيراياما”. للوهلة الأولى، تبدو شخصية البطل غريبة عن سينما المخرج “فيندرز”، لكن بقليل من الفحص والتدقيق تبدو متسقة مع البُعد الروحي الحاضر دائما في سينمائه.

“هيرامايا”.. قديس يجد ما تبحث عنه أفلام “فيندرز”

أبطال المخرج “فيم فيندرز” دائما شخصيات قلقة، جوالون في فيلم طريق لا ينتهي، ففي أفلام الطريق التي تسم مسيرته يركض أبطاله هربا من شيء ما أو بحثا عن شيء غامض، وتبحث شخصياته عن نفسها، أو عن تواصل أعمق مع الحياة.

ففي فيلم “باريس تكساس” (Paris, Texas) مثلا، يهيم البطل “ترافيس” (الممثل “هاري دين ستانتون”) على وجهه في صحارى تكساس، ورأسه مسكون بالغربة، بحثا عن مكان لا وجود له إلا في أحلامه، مكان مثل رحم يحلم أن تهدأ فيه أشباح روحه.

يأتي ” هيراياما” من منطقة عميقة في روح “فيندرز”، فيكون جوابا لسؤال مفتوح وممتد في قلب أفلامه، وهو يمثل تناقضًا واضحا مع الشخصيات المضطربة التي تزخر بها أفلامه، حتى يبدو أن “هيراياما” قد وجد ما بحثت عنه شخصيات “فيندرز”.

يخبروننا دائما أن الشيطان يكمن في التفاصيل، لكن في التفاصيل أيضا تسكن النعمة، فبطلنا “هيراياما” يعيش حياته قديسا، فيثبت لنا أن تفاصيل حياة عادية منتقاة بعناية تُعاش بانتباه كامل هي شيء كالجنة. هذا الجانب الروحاني ليس غريبا على سينما “فيندرز”.

في تحفته “أجنحة الرغبة” (Wings of Desire)، يصل الممثل “بيتر فالك” إلى برلين الغربية، وهو يؤدي هنا دوره الحقيقي لإنجاز فيلم عن الماضي النازي للمدينة، وقد كان “فالك” ذات يوم ملاكًا، لكنه سئم من المراقبة الدائمة وانعدام التجربة، فتخلى عن خلوده ليصبح إنسانا.

يخبر “فالك” أحد ملائكة برلين -التي تراقبنا- بملذات الحياة البشرية البسيطة، مثل تدخين سيجارة أو احتساء القهوة، والشعور بالبرد والدفء. يخبره “كم هو جميل أن تكون هنا، أن تلمس شيئًا ما”. يجد “فالك” لذة في الوجود البسيط في العالم. هذه هي أقرب شخصيات “فيندرز” من “هيراياما”، وهو قد لا يكون ملاكا، ولكن لا شك أن هناك شيئا ملائكيا في فرحه الهادئ بالعالم من حوله.

“ياسوجيرو أوزو”.. مخرج ياباني رائد تخيّم روحه على الفيلم

يقول مخرج الفيلم “فيم فيندرز”: لم أشاهد قط فيلما هز عالمي كما هزه فيلم “قصة طوكيو” (Tokyo Story) للمخرج “ياسوجيرو أوزو”.

مشهد من فيلم tokyo story

ينهي “فيندرز” فيلمه “أجنحة الرغبة” بإهداء لثلاثة مخرجين يراهم ملائكةً، وهم “ياسوجيرو أوزو” و”فرنسوا تروفو” و”أندريه تاركوفسكي”. وأما فيلم “أيام مثالية” فيَدين بالكثير لمعلّم السينما اليابانية الكبير “ياسوجيرو أوزو” وروحه السينمائية.

يمنح “فيندرز” بطله اسم “هيراياما”، وهو نفس اسم بطل فيلم “قصة طوكيو” (1953)، ويعيش العجوزان في الفيلمين بنفس روح القبول والتسامح. يستطيع “أوزو” أن يغير منظورك للعالم، حتى حين يحكى عن أناس عاديين، ولعل هذا أيضا هو ما يطمح له “فيندرز” في أحدث أفلامه، فهناك شيء من روح “أوزو” في روح وجسد هذا الفيلم.

استخدم “فيندرز” في تصوير فيلمه النسبة الأكاديمية، وهي نسبة العرض إلى الارتفاع 1.37:1، وقد كانت كثيرة الاستخدام في ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين، وهي النسبة التي صور بها “أوزو” أفلامه، وتوحي هذه الطريقة بزمن آخر ومنظور آخر غير السائد في سينما اليوم، وتناسب حياة رجل مثل “هيراياما”، يبدو كمن ينتمي بروحه لزمن آخر.

تبدو اللقطات القريبة ضمن هذا الإطار أكثر حميمية وحيوية من الشاشة العريضة، وهو ما يتوافق مع أداء يعتمد على الوجه والعينين بشكل كبير، وهنا أيضا يستعين “فيندرز” بلقطات التاتامي الشهيرة لدى “أوزو”، حيث توضع الكاميرا في مستوى أقرب للأرض، ثم تجلس الشخصيات على حصير التاتامي اليابانية.

أخيرا، يحمل فيلم “أيام مثالية” شيئا من اختزالية السرد لدى “أوزو”، وروح البساطة والرقة التي تغلف أفلامه.

“كوموريبي”.. اسم يختزل قصة الفيلم في كلمة

كان الاسم المبدئي للفيلم هو ” كوموريبي”، ثم تحول إلى “أيام مثالية”، على اسم أغنية “لو ريد” التي يستمع لها “هيراياما” أثناء الفيلم. وتعني كلمة “كوموريبي” في اللغة اليابانية نور الشمس الذي يتخلل غصون الأشجار، وتعكس في جوهرها تواصلا عميقا مع الطبيعة، كما تضيء يقظة “هيراياما” وقدرته على الانغماس في الآن، وتقدير جمال التفاصيل الصغيرة والوجود البسيط.

تزخر صورة الفيلم بكثير من لقطات الكوموريبي، يتطلع نحوها البطل في امتنان، وفي واحد من حوارات “فيم فيندرز” عن الفيلم، يقول إنه كانت هناك حكاية عن خلفية حياة البطل شاركها مع ممثله، لكنه أصر أن يبقيها خارج الفيلم.

تقول هذه الحكاية: كان “هيراياما” رجل أعمال ثريا، لكنه لم يكن سعيدا، كان مدمنا على الخمر، وحياته على حافة الانهيار، في صباح أحد الأيام يستيقظ في غرفة فندق رديئة، لا يعرف كيف وصل إليها، ولا هوية من تشاركه إياها.

يظن “هيراياما” حياته تعيسة، بل ربما فكر بإنهائها، لكن في الصباح الباكر، ظهر بأعجوبة شعاع ضوء الشمس على الجدار أمامه، بعد أن مر عبر أغصان الشجرة الصغيرة أمام النافذة، فظل ينظر إليها ويحدق بها، ثم بدأ في البكاء، لأنه لم ير شيئا جميلا كهذا من قبل. ربما رآه لكنه بلا شك لم يلاحظه، وفي هذه اللحظة بالذات وجد معنى حياته.

خلال الفيلم نشاهد “هيراياما” يحاول تصوير هذه اللحظة مرارا بعدسته الصغيرة، فينجح مرات ويفشل أخرى في التقاط اللحظة، وهو يحتفظ بصور كثيرة لهذه اللحظة في صناديق صغيره بمسكنه، لكن يا تُرى ما الذي يحاول “هيراياما” أن يفعله. يُخيّل لي أنه يحاول استعادة اللحظة الأولى، لحظة ميلاده الجديد التي منحته حياة أخرى أكثر خفة، تبدو حياة “هيراياما” مثل وجود شاعري، إنه حر إلى حد بعيد، و”فيندرز” يعلم جيدا أن الحرية هي جوهر الشعر.

ينهي المخرج “فيندرز” فيلمه بلقطة قريبة ممتدة نابضة بالحياة لوجه البطل، في حين تتأرجح مشاعره ما بين السعادة والحزن، لكن الأهم هو حالة الرضا والقبول التي تحمل تأرجح مشاعره، وتجعله ممتنا لكل يوم جديد، “إنه فجر جديد، إنه يوم جديد، إنها حياة جديدة لدي” كما تغني “نينا سيمون” في خلفية هذه اللقطة.

 

المراجع:

 

المراجع:

https://www.theguardian.com/film/2024/feb/11/wim-wenders-perfect-days-tokyo-toilet-cleaner-paris-texas-werner-herzog

https://progressive.org/latest/perfect-days-interview-with-wim-wenders-rampell-20240201/

 

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *