أمرزوازت- “سنواصل تحفيظ أبنائنا كتاب الله ولو في العراء” هذا ما أكده لنا سكان دوار أمرزوازت الذين لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم التي هدمها الزلزال، ويقضون الليالي داخل خيام في انتظار إعادة بناء بيوت جديدة لهم.
شأنهم في ذلك شأن كل دواوير وقرى الأطلس التي تشتهر بكثرة دور القرآن التي تستقبل الصغار والكبار لحفظ كتاب الله العزيز، ويؤكد سكانها أن هذا الأمر سيستمر رغم آثار الزلزال المدمر.
ويقع دوار أمرزوازت بمنطقة أوكايمدن الشهيرة بقممها الجبلية الشاهقة، على بعد نحو 70 كيلومترا جنوبي مراكش، وتبدو الطريق إليه أكثر رحمة من الطريق المؤدية إلى القرى والدواوير التي هدمها زلزال الحوز المرعب.
عادة ما يكون السياح أكثر زوار هذه المنطقة الجبلية الساحرة التي تتميز بمناظر طبيعية خلابة، لكن الزلزال غيّر كل شيء، حيث أصبحت قوافل الأطباء والممرضين والإعلاميين وسيارات تقديم الإغاثة أكثر من يمر عبر هذه الطريق في هذه الأيام.
قطعنا جل المسافة عبر طريق ضيقة لكنها معبدة، وتمر من قرى صغيرة لعل أهمها أوريكا التي تبدو أقرب إلى مدينة صغيرة تحيط بها دواوير جبلية في كل مكان.
ولكن على بعد نحو 7 كيلومترات من الدوار، استعدنا مشاعر المرور عبر الطريق الجبلية الضيقة وغير الممهدة، والتي تختلط فيها الرغبة في الوصول إلى هؤلاء القرويين الذين نجوا من زلزال مدمر، والخوف من أن تنهار الحجارة علينا من أعلى الجبل، أو تنحرف بنا السيارة فلا نتوقف إلا في قعر ذلك الوادي السحيق.
فهذه القرية الوديعة الهادئة تعد من المناطق القليلة التي لم يحدث فيها الزلزال وفيات، رغم أن عددا من منازلها انهار، بينما تشقق البعض الآخر مما منح وقتا كافيا لقاطنيها للهروب. والجميع يبيت هذه الأيام داخل خيام بسيطة في ساحة القرية، لأنه لا أحد يستطيع العودة إلى منزله خوفا من انهياره في أي لحظة.
أصوات ملائكية
عند وصولنا إلى أمرزوازت بعد مسلسل صعود ونزول والتفاف على الأحجار التي تكاد تقطع الطريق، فوجئنا بوجود جماعة من الأطفال -ذكورا وإناثا- يتلون ما تيسر من كتاب الله بأصواتهم الملائكية التي أضافت خشوعا وجلالا إلى هذا المشهد الجبلي المهيب رونقا زاد هذا المكان الذي مر به الزلزال.
“جل أطفالنا يحفظون كتاب الله كاملا” يؤكد لنا الحسين (الحوساين باللهجة المحلية) مضيفا أن الفضل أولا وأخيرا يرجع للفقيه “سي إدريس” الذي قدم قبل سنوات من منطقة ورزازات واستقر في هذا المكان مؤديا هذه الخدمة الجليلة للسكان.
وما لبث الحسين ومعه إبراهيم أن جاءانا بكل من سامية وعبد الإله ليبرهنا على أن ما قالاه صحيحا.
وبدت الطفلة سامية (نحو 6 سنوات) خجولة وهي تقبل أن ترتل أمامنا بعضا من الآيات التي تحفظها، وانطلقت تشدو بصوت عذب ببضع آيات كريمة.
وكذلك قبل الطفل عبد الإله -على استحياء- أن يرتل بعضا مما يحفظ، واختار سورة البقرة التي يعشقها ولا يكاد ينسى حرفا منها.
إمكانيات بسيطة
“إنها معجزة حقيقية أن يحفظ هؤلاء الأطفال القرآن بهذا اليسر وهذه السرعة، فهم هنا يتحدثون فقط باللهجة الأمازيغية منذ نعومة أظفارهم، وأجتهد في تعليمهم حروف العربية وهم يستوعبونها مع بعض المجهود المستمر” يشرح لنا “سي إدريس” إمام القرية الصغيرة ومحفظ أطفالها القرآن، مؤكدا أن سور القرآن تكاد تحفر حفرا بذاكرة هؤلاء فلا يكادون ينسونها، خاصة إذا داوموا على الحفظ دون انقطاع.
وعايننا كيف يرتل الأطفال في هذا المكان الجبلي الجميل آيات من القرآن تثبت القلوب التي مرت قبل أيام قليلة بامتحان صعب.
ويضيف الفقيه “إدريس” أنه حرص منذ مجيئه إلى هذا المكان على تشجيع الأسر والعائلات على توجيه أطفالها لحفظ القرآن، ونجح -بإمكانيات بسيطة- في إيجاد الظروف المناسبة لاستقبال الأطفال وتحفيظهم كتاب الله تعالى.
ورغم أن عددا كبيرا منهم لم يدخل المدرسة إلا بعض أن حفظ أجزاء كثيرة من الذكر الحكيم، حيث يفاجأ المعلمون بالأطفال يتقنون الحروف الأبجدية، ويحفظون سورا كثيرة عجزوا هم في مدنهم عن حفظها، وخاصة سورة البقرة.
ويخبرنا “سي إدريس” بأن الزلزال جعل كل البيوت غير صالحة للعيش، كما أن مسجد الدوار أصابته شقوق خطيرة، وبخاصة صومعته العالية، وحتى مدرسة القرية تهدمت، لذا فسكان الدوار يأملون أن تبادر السلطات بتجهيز مكان لتدريس الأطفال، على أمل أن تبنى المدرسة بسرعة، وتضم هذه المرة المستوى الإعدادي.
آمال
وأكد لنا سكان هذا الدوار البسيط أن التعليم يتوقف بالنسبة لأطفال الدوار عند المستوى الابتدائي، لأنه لا يوجد لديهم المستوى الإعدادي والثانوي، وهو ما يأملون أن يتحقق خلال عملية إعادة إعمار القرى المهدمة التي تبرمجها الحكومة.
ويبقى أملهم كبيرا في أن ينتبه المحسنون لهذا الأمر، ويبادروا إلى بناء مقر مناسب يصلح لأن يحفظ فيه أطفال هذا الدوار الجبلي المعزول كتاب الله العزيز دون انقطاع.
ويوضح “سي إدريس” أن مهمته تتلخص في ألا ينسى الأطفال ما يحفظونه من أجزاء القرآن الكريم، حيث يتبقى لبعضهم 5 أجزاء فقط لإتمام حفظ القرآن، وبعضهم يحفظ 26 جزءا، وآخرون أكثر.
ويؤكد أنه سيواصل مهمته في تحفيظ القرآن للأطفال سواء تحت خيمة أو حتى في العراء، وبما توفر من ألواح وأقلام القصب التي استخدمت مع الصمغ لقرون في كتابة آيات الذكر الحكيم على الألواح بهذه القرية الوديعة، وما تزال تستخدم، وسيستمر استخدامها حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.