على مدى العامين الماضيين ارتبطت “الفائدة” والمسار المتعلق برفعها داخل أوساط الحكومة التركية بعبارة لطالما رددها الرئيس، رجب طيب إردوغان، عندما كان يصفها في بعض الأحيان بـ”العلاج المر” ويذهب في أخرى إلى ما هو أشد معتبرا أنها “أب وأم كل الشرور”.
تمكن إردوغان مع المصرف المركزي التركي وفريقه الاقتصادي السابق من إيصال أسعار الفائدة إلى حد 8.5 بالمئة، أي فئة الآحاد، لكنهم لم يصمدوا طويلا، وما إن انتهوا من انتخابات الرئاسة والبرلمان حتى عادوا ليسلكوا مسارا تصاعديا.
ومنذ يونيو 2023 وحتى يوم الخميس (21 من مارس الحالي) رفع المصرف المركزي وبدعم من الفريق الاقتصادي الذي عينه إردوغان بعد فوزه بالانتخابات أسعار الفائدة وبالتدريج من 8.5 بالمئة إلى 50 بالمئة.
وكان الرفع الأخير إلى 50 بالمئة مخالفا للتوقعات، وفي حين وضعه خبراء اقتصاديون ضمن خانة الخطوات المشددة للغاية، عبّرت عنه البنوك العالمية بإيجابية، من بينها “بنك أوف أميركا” و”دويتشه بنك الاستثماري” وغولدمان ساكس”.
هذه المفاجأة تأتي قبل 10 أيام من الانتخابات المحلية على مستوى البلاد، وتصب في إطار الإجراءات التي يتخذها فريق إردوغان الاقتصادي الجديد من أجل مكافحة التضخم، الذي وصل في فبراير الماضي إلى مستويات قياسية.
ويضع خبراء اقتصاد نتائجها “ضمن مسارين”، ويقولون لموقع “الحرة” إنها تعطي إشارة في المقابل على أن المصرف المركزي يريد إيصال فكرة عن “استقلاليته من أي قيود سياسية”، وأنه “عازم على معالجة التضخم ومساره الذي يمضي نحو 70 بالمئة”.
“الانكماش قادم”
وكان التضخم في تركيا قد ارتفع معدله على أساس شهري بنسبة 4.53 بالمئة في فبراير الماضي مقارنة بشهر يناير 2023.
وبلغ 67.07 بالمئة على أساس سنوي مقارنة بشهر فبراير من العام 2023.
وشكلت هذه الأرقام قبل شهر صدمة، كونها خالفت توقعات وزير المالية والاقتصاد، محمد شيمشك والإدارة التي أمسكت بزمام المصرف المركزي مؤخرا، والمتمثلة بمحافظة فاتح كاراهان.
تقول الحكومة إنها تسير بسياسة تشديد نقدي ترتكز على رفع معدلات الفائدة من أجل مكافحة نسب التضخم العالية، على خلاف ما كانت تسير بموجبه قبل مايو 2023.
ورغم الرفع التدريجي للفائدة خلال الأشهر الماضية وما رافقه من تصريحات أعطت نوعا من الطمأنة للأسواق لم يلتمس المواطنون أثرا فعليا في الأسواق والمحال التجارية وحتى على صعيد إيجارات المنازل وأبسط الأشياء التي يحتاجونها يوميا.
يوضح الدكتور في الاقتصاد، مخلص الناظر أن “المصرف المركزي التركي لن يتمكن من تخفيض الفائدة في المرحلة المقبلة قبل أن تنخفض معدلات التضخم دونه بـ5 نقاط على الأقل. وهي قاعدة علمية”.
وتقول القاعدة إنه يجب أن يكون سعر الفائدة أعلى من التضخم بخمس نقاط في الدول الناشئة و2 بالمئة بالدول المتقدمة.
وكون تركيا تحسب على الدول الناشئة، “لا مفر من الالتزام بالرقم المحدد بـ5 بالمئة”، وفق ما يقول الناظر لموقع “الحرة”.
الباحث يرى أن سياسة الفريق الاقتصادي تسير باتجاه الوصول إلى نقطة “الانكماش” الاقتصادي.
ويوضح حديثه أن رفع أسعار الفائدة لها أثر سلبي، كونها تقتل الطلب الفعال الخاص بالناس، وتصعب الحياة لكي ينخفض الإنقاق والطلب على السلع.
وعلى أساس ذلك ستنخفض الأسعار وبعدها تنخفض معدلات التضخم، حسب الناظر.
وبينما يقول إن رفع الفائدة يساهم في هبوط أسعار المنازل والسيارات ويجعل الإنفاق الاستهلاكي أقل يشير إلى أن الإجراء له تأثيرات سلبية من قبيل: ارتفاع معدلات البطالة واتجاه الشركات لتسريح الموظفين.
و”قد تعلن بعض الشركات في مرحلة لاحقة إفلاسها، وخاصة تلك التي كانت تعتمد على القروض التجارية”، حسبما يشرح ذات الباحث.
“خيار وحيد”
وكان الارتفاع الأخير في أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس (إلى 50 بالمئة) مدفوعا في المقام الأول “بالضغوط التضخمية المتزايدة”، كما يوضح الباحث الاقتصادي في مركز “سيتا”، دينيز استقبال.
ويقول لموقع “الحرة”: “على وجه التحديد اختار البنك المركزي الحد من التضخم، الذي كان يتصاعد بشكل مطرد”.
الباحث استقبال يرى أن اتخاذ هذا القرار قبيل الانتخابات المحلية “يهدف إلى تأكيد استقلالية المصرف المركزي”.
وفي حين أن ارتفاع أسعار الفائدة يمكن أن يكون له آثار سلبية على التوظيف والشركات يشير إلى أنه “من الضروري كبح جماح التضخم” وأنه لا خيار آخر.
وتوقع بنك “جولدمان ساكس” انخفاض التضخم في تركيا إلى 33 بالمئة وانخفاض أسعار الفائدة إلى 32.5 بالمئة بحلول نهاية عام 2024، حسب دينيز استقبال.
ويتوقع الباحث من جهته أن ينخفض التضخم إلى 10 بالمائة في عام 2025.
وقد يلجأ المركزي التركي إلى تخفيض الفائدة من جديد إلى 45 بالمئة في نهاية العام الحالي أو الربع الأول من العام القادم، حسب الناظر.
لكن في المقابل يرجح الباحث أن يتم رفع المعدل 1000 نقطة أساس أي إلى 60 بالمئة، في خطوة للحاق بمؤشر التضخم.
ويضيف: “نرجح أن تتجاوز نسبته (التضخم) في الأيام المقبلة عن شهر مارس حاجز 70 بالمئة”.
“لا عودة للوراء”
وشيمشك وجودت يلماز إلى جانب محافظ البنك المركزي الجديد فاتح كاراهان هم القادة الأساسيون الذين يمضون في عملية الإصلاح الاقتصادي، والقائمة على خفض معدلات التضخم العالية.
ومنذ تعيينهم من جانب إردوغان اتخذ هؤلاء العديد من الخطوات، مخالفين جميع القواعد والسياسات التي كان الرئيس التركي يؤكد عليها قبل مرحلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
سياستهم ما تزال قائمة حتى الآن ويؤكدون الالتزام بها، ويرى الدكتور في الاقتصاد أنه لا يمكنهم العودة إلى الوراء.
ويوضح الناظر أنه “لا حل لمواجهة الحالة الاقتصادية التركية إلا بدخول البلاد بانكماش حتى ينخفض التضخم”.
ورغم أن “الانكماش” المتوقع سيسفر عن حالة سخط شعبي وخاصة لدى الفئة التي تعتمد على القروض الاستهلاكية وبطاقات الائتمان والتقسيط يقول الباحث الاقتصادي إن “الفريق الاقتصادي لإردوغان الجديد أمامه الصبر فقط، لأن التراجع سيولد كارثة لا يمكن إصلاحها”.
ويضيف: “الآن يقتنصون الفرصة الأخيرة. إما أن يستمروا وحتى لو ترتب على الأمر نتائج سياسية أو يعود الوضع إلى الوراء”.