خاص- الوثائقية
سريعا ما نتصور أراض جرداء وحياة قاسية إذا ذُكرت كلمة صحراء، فكيف إذا كانت في أفريقيا؟ لكن ما رأيك إذا كانت هذه الصحراء تحتضن واحة لا يتوقعها أحد، تشكل مسرحا غريبا ومذهلا لبعض أروع مشاهد الحياة البرية.
في الطرف الجنوبي الغربي من القارة الأفريقية، تقع أقدم صحاري العالم؛ “صحراء ناميب” البهية مُتقلبة المزاج وغير المستقرة على حال بحجمها الذي يعادل مساحة النمسا.
فعلى “ساحل الهياكل العظمية” في ناميبيا يصطدم المحيط الأطلسي العظيم بلهيب الصحراء، وتضرب الرياح الباردة الجافة من القارة القطبية الجنوبية كيلومترات من الرمال الخاوية، مُشكّلة واحدة من أجرد المناطق القاحلة في أفريقيا، ورغم ذلك فهناك واحة غنّاء غير متوقعة.
ويتتبع فيلم “صحراء ناميب” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة بعنوان “أفريقيا المدهشة” قدرة بعض الكائنات على النجاة من بعض أقسى العوامل والظروف على سطح الكوكب، وتفادي الموت في كل لحظة ببراعة وعزيمة وحظ خالص وإعياء شديد.
الصمت الأبيض.. أجساد عارية وجذور غارقة في الماء
ينبع نهر “هوانيب” من تحت الأرض ممهدا الطريق لتشكل مياه بحيرة عذبة، لكن سرعان ما تخنقها الأمواج المالحة الهائجة، وبدوره يعمل الملح على تكاثر براعم الطحالب، مما يخلق فرصة لم تكن لتوجد في ظروف أخرى.
فبعد أن حلّقت طوال الليل، تأوي طيور النحّام المرهقة بسرور إلى هدوء مياه البحيرة، ويُسافر بعضها لمسافة 800 كيلومتر نحو مناطق تكاثرها في حوض إيتوشا الملحي، ومع أنها لم تبلغ بعد منتصف رحلتها، فإن هذه البحيرة هي استراحتها الأخيرة، حيث تضع مناقيرها في الماء وتلتقط النباتات المجهرية واللافقاريات من هذا الماء اللزج، وتتخلص من الملح من خلال غدد في فتحات أنوفها، ثم تُقلع بعد شحن طاقتها مواصلة رحلتها الشاقة.
الصمت الأبيض.. أجساد عارية وجذور غارقة في الماء
ينبع نهر “هوانيب” من تحت الأرض ممهدا الطريق لتشكل مياه بحيرة عذبة، لكن سرعان ما تخنقها الأمواج المالحة الهائجة، وبدوره يعمل الملح على تكاثر براعم الطحالب، مما يخلق فرصة لم تكن لتوجد في ظروف أخرى.
فبعد أن حلّقت طوال الليل، تأوي طيور النحّام المرهقة بسرور إلى هدوء مياه البحيرة، ويُسافر بعضها لمسافة 800 كيلومتر نحو مناطق تكاثرها في حوض إيتوشا الملحي، ومع أنها لم تبلغ بعد منتصف رحلتها، فإن هذه البحيرة هي استراحتها الأخيرة، حيث تضع مناقيرها في الماء وتلتقط النباتات المجهرية واللافقاريات من هذا الماء اللزج، وتتخلص من الملح من خلال غدد في فتحات أنوفها، ثم تُقلع بعد شحن طاقتها مواصلة رحلتها الشاقة.
وفيما وراء البحيرة، تبتلع الصحراء نهر “هوانيب”. ويترك مجرى النهر المحترق ندبة طولها 270 كيلومترا عبر صحراء كاكوفيلد الساحلية، فالرطوبة فيها بعيدة المنال حيث ترقد تحت الرمال، ومع ذلك تُصر الحياة البرية على البقاء قرب النهر الخفي، حيث توجد الأشجار على ضفافه لتوفر الغذاء والرطوبة.
هناك شجرة واحدة غريبة تلعب دورا حاسما في استمرار الحياة في المكان، فخلال موسم الأمطار تقف أشجار الصمت الأبيض شامخة عارية، بينما تغرق جذورها في الماء، ومع اشتداد سطوة موسم الجفاف وسقوط آخر أوراق الأشجار الأخرى، فإنها تُزهر لتغذي كل من يحتفظ بالقوة الكافية لقطف هدايا الغطاء النباتي.
وتعد بذور شجر الصمت الأبيض غنية بالبروتين والسعرات الحرارية العالية، مما يجعلها الغذاء الأفضل في الشتاء، حيث يتزامن نضجها مع الوقت الذي تكون فيه القطعان المارة في أمس الحاجة إليها؛ إنها وجبة قوية بالفعل وستمنح فيلا يبلغ وزنه 6 أطنان القوة الكافية لبضعة أيام أخرى على الأقل.
يعتري القلق أفيال الصحراء -التي يمكنها أن تصوم عن الماء لثلاثة أيام- فقد باتت في حاجة ماسة للعثور على الماء بعد يومين عبر قحط أراضي كاكوفيلد، وتنحصر مهمة قائد القطيع في إيصاله إلى السهول الفيضية عند مصب نهر هوانيب مع هطول أمطار الصيف.
عطش الزرافة المستهدفة.. ملحمة البقاء في وسط الصحراء
ليست الفيلة وحدها التي تتقاسم ملحمة العطش، فهل هناك أسوأ من زرافة جف ريقها؟ وبوزنها البالغ طنّين اثنين وطولها الذي يعادل ارتفاع طابقين نادرا ما تشرب الزرافة، إلا أنها تحصل على معظم ما تحتاجه من سوائل من أوراق الأشجار، وتقضي ثلاثة أرباع عمرها في البحث عما يكفي منها.
وكما أن طولها الفارع يُتيح لها رصد أي مشكلة على بعد كيلومترات، فإن حجمها يجعلها فريسة مستعصية على لبؤة وحيدة لم تذق طعم اللحم منذ أسبوعين، وتقبع في حرارة تبلغ 50 درجة مئوية.
وبعد أسبوعين من التجوال في منطقة تمتد لستة آلف متر مربع، تلجأ اللبؤة التي تتضور جوعا إلى تدابير يائسة، لا يسير أي شيء كما تُريد؛ فمجرى النهر العاري لا يمنحها أي غطاء، حتى صغير الزرافة بإمكانه أن يطيح بها بركلة قاتلة، هذا إذا افتراضنا أنها استطاعت الاقتراب بما يكفي. وبفضل ميزة الرؤية الجوية، يبقى قطيع الزرافات دائما متقدما بخطوة، وسيكون على اللبؤة أن تقاوم جوعها وتأمل بمصادفة هدف أسهل.
ثعبان الصخور الأفريقي.. وحوش من حقبة ما قبل التاريخ
أما في جنوب “ناميبيا”، فيتعرج وادي نهر الأسماك على امتداد 180 كيلومترا، رغم أنه يتحول إلى مجرد قطرات في موسم الجفاف، وعلى مدى آلاف السنين حفر النهر الهادر صدوعا عميقة في قاعه القديم، وتهوي هذه المنحدرات الجافة غير الثابتة لمسافة نصف كيلومتر، وهي موطن لوحوش من حقبة ما قبل التاريخ.
فـثعبان الصخور الأفريقي، تُقلّص الأنثى منه 15 ألف عضلة في جسمها كي تختبئ بين أصغر الصخور، وبطول يفوق طول سيارة عائلية، فإن هذا الثعبان الأكبر في أفريقيا يزن أكثر من 50 كيلوجراما، ورغم أنها ملتصقة بالأرض، فإنها من الحيوانات شديدة الافتراس، ويقوم لسانها بفحص عينات من الهواء بحثا عن الآثار الكيميائية للفرائس، بينما تقوم فتحتا أنفها الحساسة للحرارة بمسح الصخور بالأشعة تحت الحمراء.
وللصبر ثمرته في الصحراء، فبينما تزحف أنثى “ثعبان الصخور” نحو هدفها، فإنها تنصب كمينها مولدة ضغطا قدره ثلاثة كيلوجرامات لكل ستة سنتيمترات مربعة، وبذلك فإنها تسحق فريستها وتنتزع الحياة من أوصالها.
لكن عدائية الوادي الحقيقية تتجلى في الصخور التي تلفحها أشعة الشمس، إذ لا تتمكن إلا أقدر الشجيرات على التحمل من الحصول على موطئ قدم، باستثناء شجرة واحدة تفوق مثيلاتها؛ أشجار “الجيعاب”، وهي نوع من الصبار يبلغ طولها تسعة أمتار، وتعرف كيف تبقى حية، فأغصانها الممتلئة وأوراقها المرتوية تُخزن الماء على مدار السنة، بينما تعمل طبقة من مسحوق أبيض كواقي من الشمس يحميها من الجفاف.
شواطئ الصحراء.. جيش من الدهون يغزو اليابسة للتزاوج
حين تتوجه إلى الغرب تتحول المنحدرات إلى شواطئ، لكن التهديد يبقى قائما، حيث تهب الرياح القوية بسياطها على امتداد الكثبان الرملية، وتتكسر الأمواج عند حراس روديريدس القدامى؛ أقدم التشكلات الصخرية في ناميبيا.
هذه الصخور التي بقيت راسخة منذ انفصال صفيحة أفريقيا عن أمريكا الجنوبية قبل 180 مليون سنة، تقف الآن لتحمى عرين الخليج، وتُكوّن ملاذا بحريا، إنه موطن لإحدى كبرى مستعمرات تربية “فقمة الفراء” البنية في أفريقيا.
فمع اقتراب الصيف، تجول الأفواج الأولى من الفقمات على الرمال، لتلد قبل أن تتزاوج مرة أخرى، ثم سرعان ما تقتحم الشاطئ عشرات الآلاف من الأجساد الممتلئة بالدهون. وبعد أن يكون قضى معظم العام في بناء دهونه عند البحر، يصل أحد الذكور مبكرا ليفرض هيمنته، حيث سيتعيّن عليه الدفاع عن منطقته لثلاثة أشهر، بينما سيحاول المنافسون إثبات وجودهم.
صحراء سوسوفلي.. كائنات تتغذى على الضباب في بحر الرمال
على بعد 200 كيلومتر في صحراء سوسوفلي الساحلية، توجد سلسلة من أعلى الكثبان الرملية في العالم، ويفوق ارتفاعها 100 طابق، حيث تحث الخطى بثبات نحو الشمال، مُشكّلة بحرا من الرمال المتحركة الملتوية.
وفي ظل عدم وجود أي مصادر غذاء، وبأقل من 5 مليمترات من الأمطار السنوية، قد نتوهم أنه لا يمكن لشيء أن يعيش هنا، لكننا سنكون مخطئين، فكل بضعة أيام يداعب الضباب الكثبان الرملية، لتوقظ قبلته الصحراء الناعسة.
ولأنه لا يُعرف موعد لحلول الضباب، يغتنم ذكر خنفساء الضباب فرصته، حيث يقف في مواجهة الريح، متخذا من قشرته جهاز تكثيف يحوّل قطرات الماء إلى ظهره لتصب في فمه، إنه يشرب كمية تعادل 40% من وزنه، وبينما تنتظر الخنفساء في الضباب، يرابط ذكر حرباء متربصا بها، بعد أن تكون امتلأت بالعصارة.
الضباب هو شريان الحياة بالنسبة للكثبان الرملية، فهناك تملك أنثى “برص بالماتو” -التي يبلغ حجمها حجم القلم- أغرب طريقة للاستفادة من الضباب؛ إنها تلعق الندى الذي يتجمع على مقلتيها، وبالطبع من الأفضل لها أن تُبقي عيونها يقظة دائما.
وبينما يتلاشى الضباب تغادر أنثى البرص سطح الصحراء، وتجرف بقدميها المكثفة من الرمال ما يعادل وزنها مئات المرات في ثوانٍ، وفي حذر شديد تقرر أن تختبئ تحت الأرض في برد وسلام، فالأعداء كُثر في المنطقة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن ذكر حرباء نماكوا يتخذ لونا شاحبا ليعكس حرارة الشمس عنه، مما يمكنه من مواصلة الصيد مع ازدياد لهيب الحر، وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة له، إذ يكون مضطرا لمطاردة 200 حشرة يوميا، إلا أن قوته الخارقة الحقيقية تكمن في لسانه الذي يعمل بآلية النابض حيث ينطلق في أقل من 16 جزءا من الثانية، الأمر الذي لا يترك للخنفساء أي وقت للاختباء.
الأفعى جانبية المسير.. مفترس خفي فوق الرمال المتحركة
عندما تصبح الحياة على الكثبان الرملية أقسى وأشد حرارة، يحين وقت الرقص؛ ويتغلب ذكر السحلية مجرفية الخطو على الحرارة بحركات رائعة، ولأنه لا راحة بلا تعب، فإنه يقتحم الرمال الملتهبة للعثور على وجبة تسد رمقه، قبل أن يُغادر سريعا حفاظا على حياته.
ولا تتوقف عجائب أحياء صحراء ناميب عند ذلك الحد؛ فهناك أيضا أفعى جانبية المسير يبلغ طولها 20 سم، وتعيش على اصطياد السحالي، ويساعدها نمط حركتها الالتفافي على صعود الكثبان الرملية الحارقة في الصحراء؛ حيث يدفعها فوق الرمال المتحركة شديدة الانحدار بسرعة تصل إلى 25 كيلو مترا في الساعة، وعندما تشتم رائحة فريستها، فإنها تنصب فخها باستخدام الرمال.
وبعينين مثبتتين في قمة رأسها، تشاهد الأفعى جانبية المسير وجبتها وهي تدنو منها، إنها مفترس مثالي؛ فهي خفية وصبورة وسامة، لكنها ليست الصيّاد الوحيد في الكثبان الرملية، لقد سرقت الحرباء غدائها، وسيكون عليها الاستمرار في الانتظار.
قطيع الفيلة.. حفلة مائية مع العشيرة في لحظة حاسمة
بالعودة إلى هوانيب، يواجه قطيع الفيلة الظمآن أخطر مراحل رحلته. لكي تبلغ “السهول الفيضية” مع أوان سقوط الأمطار، فإن عليها أن تتخلى عن الأمان الذي يوفره قاع النهر، وتتخذ طريقا مختصرة عبر الجبال القاحلة، غير أن عاصفة شديدة تحول دون تقدمها، وبينما تصنع الرياح الشديدة جدارا من الرمال يعوق البصر، تحاول الأمهات -عبثا- حماية صغارها العطاش الضعاف.
وبعد ساعات، وبعد أن خفت حدة العاصفة، تعثر الفيلة أخيرا على المياه العذبة، بعد ثلاثة أيام من الظمأ، فكل فيل بالغ يستهلك 200 لتر من الماء. ولأول مرة منذ شهور ينخرط القطيع في حفلة اجتماعية مع أعضاء آخرين من عشيرته، وتحظى كل العائلات بالقوة والاطمئنان أثناء محاولاتها تجاوز المرحلة الأخيرة الأكثر فتكا في هجرتها.
عائلة ابن آوى.. رحلة الصيد في منطقة خاضعة لسيد آخر
وبينما تستطيع الفيلة الاعتماد على القطيع للمساعدة في تربية ورعاية صغارها، فإن على بنات آوى سوداء الظهر (أو الشغبر، وهو اسم يُطلق على أي من الفصائل الأربع الصغيرة أو المتوسطة الحجم التي تنتمي لعائلة الكلبيّات) الاعتماد على أنفسها في هذه المهمة.
يتقاسم الوالدان مسؤوليات الجراء، بما في ذلك تنظيفها من القوارض والطفيليات، لكن حنان الأم لم يقدم لها شيئا يملأ بطونها الخاوية، وعلى الأب الخروج بحثا عن طعام لعائلته، وربما يغيب لأسبوع أو أكثر بينما يجوب أرجاء منطقته الشاسعة، عله يعثر على وجبة كبيرة تكفي لسد رمق الأفواه الجائعة.
وفي مستعمرة فقمة الفراء البنية استقرت الأمور بعد طفرة المواليد، وبينما يبحث جرو يبلغ من العمر أسبوعا عن أمه التي ذهبت للصيد قبل يومين، يتخطى حدود المستعمرة إلى نطاق الموت، ليجد ابن آوى عاش ليلة عصيبة باردة أملا في العثور على طعام، وسيكون جرو الفقمة الضال وجبة سهلة لعائلته التي تتضور جوعا.
يقترب ابن آوى ويهاجم جروا آخر على بعد أمتار قليلة من الصغير التائه، لكن رغم إغراء رائحة هذه الوجبة الغنية بالدهون، فسيتعين عليه أن ينتظر دوره، فقد دخل منطقة خاصة بابن آوى آخر، وعليه أن يخضع للذكر المُهيمن.
ورل الصخور.. أكبر سحلية في أفريقيا تحت تهديد النسور
في قلب ناميب، تتخلل قمم صخرية عملاقة السهول الملتهبة، فعلى بعد 700 متر فقط من أرض الصحراء، تقف قمم جبلية تُعرف باسم سبيتزكوب، وهي بقايا براكين خمدت منذ ملايين السنين، وهي المعالم الوحيدة الباقية في هذه الأرض التي جردتها الرياح الجافة والحرارة الحارقة من أي ملمح.
ففي ظلالها تستعد ثاني أكبر سحلية في أفريقيا للانطلاق في الصيد، وهي بطول يبلغ مترين ووزن يصل إلى 15 كيلوجراما، إنه ورل الصخور الذي لا يكاد يجد ما يقتات عليه، له حاسة شم ثلاثية الأبعاد، وأطراف لسانه تجس آثار رائحة الفريسة وتنقلها إلى عضو في سقف فمه، وهو الذي يحدد له المسافة والاتجاه.
وفي الأعلى زوج من النسور السوداء يبحث عن وجبة ببصر أكثر حدة بخمس مرات من إبصار البشر، فيتسمر الورل في مكانه، مُسخّرا قدرته على التمويه، قبل أن يعود أدراجه إلى الصخور بمساعدة من حلفاء غير متوقعين، حين تهب الغربان البقعاء بشراسة للدفاع عن أعشاشها من النُسور المُغيرة، فينتهز الورل فرصته للنجاة.
مخططات التزاوج والبقاء وإطعام العائلة.. ملامح نهاية الموسم
مع اقتراب نهاية موسم التكاثر، يستمر ذكر فقمة الفراء البنية في فرض حكمه، فلقد تزاوج مع عشرات الإناث، وضمن مستقبل سلالته، وسيعود قريبا إلى مناطق التغذية التي حددها لنفسه ليبدأ التحضير لمعركة الذكور العام المقبل.
أما بالنسبة للجرو الضال، فإن اليوم الجديد يزداد بنداء محبب لسمعه؛ لقد عادت أمه من رحلة الصيد، ورائحتها المريحة تجدد أواصر الارتباط بينهما، فهو سيعيش على الرضاعة خلال الأشهر العشرة القادمة، بينما يتعلم كيفية الدفاع عن نفسه.
وبذكائه المعهود يتعلم ابن آوى كيف يستفيد من موسم الإنجاب بأفضل ما يمكن، خاصة أنه يقتات على بقايا الجيف التي يُخلّفها المفترسون ورائهم أو التي يتمكن من سرقتها، فبعد أن ملأ معدته عاد لإطعام صغاره الذين يكبرون بسرعة. وهكذا يمكنه الاسترخاء أخيرا حتى يحين موعد الوجبة التالية.
عبير السماء.. بهجة الأرض وصناعة الموسم الجديد
مع دخول الصيف، تلوح بوارق الأمل في الأفق، فلأول مرة منذ أكثر من عام يُعطّر عبير المطر ذرات الهواء، وتستنشقه الصحراء بأسرها، قبل أن يتجه إلى أرض أكثر ارتفاعا، ولبضعة أيام فقط يشتد هطول الأمطار ليروض الصحراء الغاضبة، فتتشرب الرمال الجافة المياه لتدب الحيوية فيها احتفاء بالحياة. لقد انتعشت صحراء ناميب وكذلك انتعشت فيلتها.
وهنا يُبطئ قطيع الفيلة وتيرة سيره، ويأخذ وقته لشم عبق الزهور، بينما يتجه نحو السهول الفيضية حيث ينتظره الخير الوفير، بعد شهور طويلة من المشقة والعناء. وتتردد أصداء هتافات القطيع المبتهج في أرجاء الصحراء، حيث يستمتع بانتصاره بشق الأنفس على موسم الجفاف، مستمتعا بهذا الخير العميم الذي لن يدوم طويلا.