في السادس عشر من يناير/كانون الثاني من العام 1258 حمل نهر دجلة الشاهد منذ آلاف السنين على عظمة بغداد ونكباتها الأزلية أيضا على ظهره سفن جيش المغول الزاحف نحو بغداد عازما على تدميرها، حينها كانت بغداد آخر قلاع الخلافة العباسية تتخبط بين متناقضين اثنين هما الضعف والقوة. ضعف عبد الله المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وقوة القائد المغولي هولاكو خان حفيد إمبراطور المغول جنكيز خان، وما بين هذين المتناقضين نزفت بغداد نهر دماء.
جنكيز خان.. مؤسس الإمبراطورية الذي وحد القبائل الخمس
لم ينتصف القرن الثالث عشر إلا وقد حمل معه تنينا أسود قادما من الشرق، ليدمر عاصمة الخلافة العباسية التي أشعّت لمدة تقارب خمسة قرون. كان اسم ذلك التنين هولاكو خان الوحش صاحب الجيش المتوحش المدجج كما يظهر في منمنمات كتاب “جامع التواريخ” للمؤرخ رشيد الدين الهمذاني (1430-1434)، المكنى بمؤرخ المغول.
تُجمِع أغلب المراجع والمصادر على شيئين، هما نسب هولاكو خان الذي يرجع إلى جده الإمبراطور المغولي جنكيز خان، والعنف الذي كان زاده خلال حملاته العسكرية، حيث ورث وحشية جده وزاد عليها، فكان سليل القتل والدم.
قبل نصف قرن من سقوط بغداد مهّد تيموجين الذي سيلقب بجنكيز خان الطريق لحفيده هولاكو ليقود جيشه نحو جنوب غرب آسيا، وفي بداية القرن الثالث عشر، برزت قوة الإمبراطورية المغولية حين استطاع تيموجين توحيد أكبر قبيلتين سكنتا الهضبة المنغولية في شمال شرق آسيا، وهما قبيلتا المغول والتتار الرحل، فقد استطاع أن يدفن الخلاف بين القبيلتين المتنافستين بذكاء بالغ، فنهى جنوده عن النهب دون إذنه، وأعطاهم نصيبهم من الغنائم، فأسس بذلك جيشا قويا نظاميا رغم أن القبائل تحكمها تقاليد بدوية.
كان المغول منذ ظهورهم مجرد قبائل صغيرة تتجمع حول نهر أونون بين روسيا ومنغوليا، ثم أصبحوا بعد قرنين من الزمان قوة ترعب الشرق والغرب، واستطاع تيموجين الحصول على لقب “خان” أي السيد، وهو ما أثار غضب أعمامه الذين حاولوا الانقلاب عليه وإضعاف جيشه لولا تحالف بعض القبائل معه.
وفي العام 1206 توّج تيموجين إمبراطورا على المغول، بعد أن قضى جيشه على القبائل المارقة بين العامين (1203-1205)، ويعدّ ذلك التاريخ بداية الإمبراطورية المغولية.
كان رهان جنكيز خان هو إخضاع قبيلة النايمان التي تفوق المغول عددا حتى يتمكن من بناء جيشه والقيام بحملاته العسكرية، وبعد توحيد القبائل الخمس، وهي المغول والتتار والنايمان وميركت وكيرات؛ اتجه جنكيز خان نحو شمال الصين وأخضع معظمه، ثم قصد الغرب وأطاح بالإمبراطورية الخوارزمية، فاتحا الطريق نحو حفيده “هولاكو” للتوسع في الشرق الإسلامي.
معركة الحشاشين.. انتصارات هولاكو الساحقة في بلاد فارس
بدأت صورة هولاكو تلوح من أفق الشرق الأقصى حين عبر نهر جيحون مثل وحش مخيف وهو يقود جيشا كبيرا نحو بلاد فارس للقضاء على الحشاشين الذين دمّر قلاعهم ومراكزهم في إيران في العام 1256.
قبل ذلك التاريخ بخمسة أعوام لم يكن اسم هولاكو خان يعني الكثير بالنسبة للممالك والدول في المشرق والمغرب، لكن تاريخ العام 1251 كان حاسما بالنسبة لإمبراطوريات قارب عمرها 500 عام مثل الإمبراطورية العباسية، فحين اعتلى مونكو خان (أخو هولاكو) عرش الإمبراطورية المغولية، عقد مجلس الكورولتاي (مجلس أمراء المغول) واتخذ قرار القضاء على الطائفة الإسماعيلية التي تحصنت بقلعة آلموت الواقعة في إيران فأصبحت معقلا لها، ورفض قرارا بغزو بغداد، لكنه كان مرتبطا بتعاون الخليفة عبد الله المستعصم بالله خلال حملة هولاكو خان على الحشاشين.
في خريف العام 1253 قاد “هولاكو خان” جيشه الكبير نحو بلاد فارس مجتازا نهر جيحون، وكان الطريق مهيّئا لتسهيل مهمته، وسار وفق خطة محكمة، خاصة بعد سقوط الدولة الخوارزمية وسيطرة المغول على أراضيها.
وفي نهاية العام 1256 تمكن هولاكو من القضاء على الحشاشين، وفتح أغلب قلاعهم المتحصنين بها، وقبض على إمامهم ركن الدين خورشاه بن علاء الدين، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الطريق ممهدا لهولاكو خان من أجل العبور نحو مركز الإمبراطورية العباسية في العراق.
“أيها الشاب المتمني قصر العمر”.. رسالة الخليفة التي أسقطت بغداد
قبل أن يشق طريقه نحو بلاد فارس وبغداد مركز الإمبراطورية العباسية، حمل هولاكو خان وصية من أخيه الإمبراطور مونكو قال فيها: حافظ على قوانين جنكيز خان وقوانينه في الكليات والجزئيات، وخص من يطيع أوامرك ويجتنب نواهيك -في الرقعة الممتدة من جيحون حتى أقاصي بلاد مصر- بلطفك وبأنواع عطفك وإنعامك، أما من يعصيك فأغرقه في الذلة والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكل ما يتعلق به.
وقد التزم هولاكو خان بتنفيذ الجزء الأخير من وصيته، فقضى على الحشاشين وحرق قلاعهم، ووضع نُصب عينيه كلمات الإمبراطور حين قال له أيضا: إذا بادر خليفة بغداد بتقديم فروض الطاعة فلا تتعرض له مطلقا، أما إذا تكبر وعصى فألحقه بالآخرين من الهالكين.
قادت وصايا الإمبراطور مونكو أخاه هولاكو المتقدم نحو بغداد عبر نهر دجلة بجيش يقارب 800 ألف مقاتل، وحسم شيئان قرار القائد المغولي القضاء على مركز الإمبراطورية العباسية:
- الأول تخاذل الخليفة العباسي عبد الله المستعصم بالله عن تقديم العون للجيش المغولي عند حصاره لقلاع الحشاشين في إيران، وهو ما اعتبره هولاكو عصيانا.
- الثاني رسائل الخليفة المستعصم بالله إلى هولاكو قبل تقدم جيوشه نحو بغداد، وهي تظهر أن الخليفة العباسي لم يكن يقدّر فعلا قوة الجيش المغولي وما يمكنه الإتيان به، وقد ذكر بعض ذلك المؤرخ رشيد الدين فضل الله الهمذاني حين قال المستعصم بالله في إحدى هذه الرسائل مخاطبا هولاكو خان: أيها الشاب المتمني قصر العمر، ومن ظن نفسه محيطا ومتغلبا على جميع العالم، مغترا بيومين من الإِقبال.
لقد جنت هذه الكلمات الواثقة على مركز الخلافة العباسية وعلى الخليفة نفسه الذي ظن أنه سيرد هولاكو عن غزو بغداد بتلك الكلمات التي لم تحرك ساكنا في القائد المغولي، بل دخل إلى بغداد بسببها، وبسبب ضعف الخليفة المستعصم بالله في تقدير ضعف جيش الإمبراطورية العباسية من جهة، وقوة جيوش هولاكو التي ترابط على حدود بغداد من جهة أخرى، فسقطت بغداد عاصمة العباسيين، وأُعدم الخليفة.
دوقوز خاتون.. قصة حُب تنقذ الطائفة نصارى بغداد
حين قاد هولاكو جيوشه من قراقوم عاصمة الإمبراطورية المغولية في العام 1253، لم يكن يتجاوز عمره حينها 36 عاما، فقد كان شابا متحمسا يقوده حب عميق يكنّه لزوجته المفضلة دوقوز خاتون، وهي نصرانية من قبيلة كريت التركية، وكانت في السابق زوجة والده الإمبراطور تولوي.
كانت دوقوز خاتون امرأة قوية دافعت باستماتة عن النصارى، فوقع حبهم في قلب هولاكو إكراما لها، رغم أنه لم يكن يدين بالنصرانية. وقبل أن يخرج بجيشه لغزو الشق الغربي لآسيا، كان من وصايا الإمبراطور موناكو لأخيه هولاكو أن يستشير زوجته قائلا: استشر دوقوز خاتون في جميع القضايا والشؤون.
لم تظهر دوقوز خاتون في واجهة قرارات هولاكو خلال حملاته العسكرية التي قادها في إيران للإطاحة بالحشاشين أتباع المذهب الإسماعيلي، أو خلال تدمير بغداد عاصمة العباسيين وبقية الولايات، لكن حب هولاكو لها أنجى الطائفة النصرانية في بغداد من الإبادة.
حب الفنون والحضارة الفارسية.. وجه هولاكو الآخر
رغم أن بعض المصادر والمراجع التاريخية تصوّره وحشا كاسرا يقود جيشا من السفاحين، فإن مصادر تاريخية تُظهر هولاكو محبا للعلم والعلماء، فقد وصف مؤرخون مثل رشيد الدين الهمذاني وعطاء ملك الجويني هولاكو بأنه محب للعمارة وللعلم، وقال عنه الجويني في كتابه “تاريخ فاتح العالم” أن “لديه شغفا وميلا في تعمير الخرائب”، فكان يدمّر ويعمّر.
ويذكر أن هولاكو أمر بإعادة بناء مدينة خبوشان، وتمكن أهلها من العودة إليها بعد سنوات من الخراب. كما ذكر رشيد الدين الهمذاني في كتابه “جامع التواريخ” أنه كان محبا للعلم والعلماء، فكان يقربهم إليه ويدعوهم إلى مجلسه، وكان شديد الحب للحضارة الفارسية، ويميل إلى الكيمياء والفلسفة، رغم أن التاريخ كان قد نقل روايات عن دمار بغداد، وعن قتل علمائها بعد دخوله إلى عاصمة العباسيين.
“سأجعل مدينتك وإقليمك وأراضيك طُعمة للنار”.. وعيد الإمبراطور لبغداد
في العام 1258 نفّذ هولاكو خان وعيده الذي تضمنته إحدى مراسلاته إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله، إذ قال فيها: حينما أقود الجيش إلى بغداد مندفعا بالغضب، فإنك لو كنت مختفيا في السماء أو في الأرض، فسوف أنزلك من الفلك الدوار، وسأُلقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع حيا في مملكتك، وسأجعل مدينتك وإقليمك وأراضيك طُعمة للنار.
بدأ قصف المغول بعد عبور الجيش المغولي نهر دجلة، واستهدفت مجانيقه المدينة المحاطة بالسور من جهة البرج العجمي -وهو أحد أبراج سور بغداد- إلى أن أحدثت ثقبا فيه، حينها فقط أحس الخليفة المستعصم بالله بالخطر الكبير، وطلب من هولاكو تنفيذ وصية أخيه بالحلم والرحمة بهم، لكن أنّى له أن يطلب ذلك وهو الذي استهزأ بقوة هولاكو، ولم ينفذ طلبه حين أرسل إليه يطلب مساندته للقضاء على الحشاشين.
وتذكر المصادر التاريخية أن الخليفة المستعصم بالله لم يكن حكيما، ولم يكن حاكما قويا، حتى أن ابن كثير في الجزء الثالث عشر من كتابه “البداية والنهاية” نقل عنه استهتاره الذي قد يكون سببا مركزيا في تدمير بغداد، إذ قال: أحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، فقد جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.
صفقات الأتراك والنصارى والتجار.. أنفاس بغداد الأخيرة
في بداية شهر فبراير/شباط من العام 1258 نصب هولاكو المجانيق في مجرى نهر دجلة، وبينما كانت تفصله بضعة أيام عن دخول أسوار المدينة؛ حاول الخليفة المستعصم بالله أن يستعطفه بالهدايا والأموال، فكان في كل مرة يرسل فيها الهدايا مع رسله أو أحد أبنائه يزيد هولاكو تعنتا وإصرارا على تدمير بغداد.
يذكر ابن كثير أنه كان من المستحيل هزيمة جيش المغول الذي يتجاوز المائتي ألف، في حين يقدر عدد الجنود في جيش المستعصم بالله بعشرة آلاف جندي. كان الخليفة العباسي يعلم حدود قوة جيشه، لكنه قد يكون أساء تقدير قوة جيش المغول، وحين أدرك أن عاصمة دولته ستدمر كان الأوان قد فات بعد أن بدأ برج العجمي يتهاوى أمام مجانيق المغول.
اقتربت لحظة سقوط المدينة، وكان هولاكو يريد بها شرا، وكان الناس يعلمون حال قائدهم وضعفهم، فلجؤوا إلى الحيلة للنجاة بحياتهم، فاتصل الأتراك في بغداد سرا بالجنود الأتراك في الجيش المغولي كي لا يصيبوهم بأذى، وضَمِنَ نصارى بغداد نجاتهم بسبب مكانتهم لدى هولاكو الذي يكرمهم لأجل زوجته دوقوز خاتون، في حين بذل بعض التجار المال حتى يأمنوا من سيوف المغول وسهامهم.
“كأن لم نغن بالأمس”.. رثاء الخليفة لنفسه ولدولته يوم سقوطها
في العاشر من فبراير/شباط من العام ذاته دخل المغول إلى بغداد، وبدؤوا بحصد رؤوس كل من يعترضهم. وصوّر ابن كثير المشهد الدموي قائلا: ودخل كثير من الناسِ في الآبار وأماكن الحشوش وقُنِيِّ الوسخ، وكمنوا كذلِك أياما لا يظهرون، وكان من الناس من يجتمعون في الحانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي المكان، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة.
تفنن جيش هولاكو في قتل السكان، وبعد قرابة عشرة أيام من دخول جيوشه إلى بغداد أرسل في طلب الخليفة المستعصم بالله الذي أدرك نهايته، فأنشد:
فأصبحنا لنا دار .. كجنات وفردوس
وأمسينا بلا دار .. كأن لم نغن بالأمس
ووضع الخليفة العباسي على سجاد حتى لا تراق دماؤه على الأرض وقتل.
صدم كل المسلمين في ذلك الوقت ما حلّ ببغداد، حتى أن بعض المؤرخين قد أعرضوا عن الحديث عنها، وقد وصف المؤرخ ابن الأثير وقع ما حل بأهل بغداد عليه بالقول “لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لا كارها لذكرها. فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا”.
ولو رسم فنان ما وصفه المؤرخون لكانت أقبح اللوحات وأشدها رعبا، فقد تحدثت المصادر التاريخية عن تكدس الجثث في الطرقات كأنها التلال، وانتشرت روائح الموت في كل المدينة، حتى أن هولاكو قد خرج بعيدا عن المدينة لشدة الرائحة.
ويروي المؤرخون أنه بعد إعطاء المدينة الأمان خرج من نجوا من مخابئهم كأنهم موتى، فهالهم ما وقع بمدينتهم وأهلهم. وأحصت المصادر التاريخية وكتب المستشرقين ما بين تسعين ألفا ومليون قتيل في بغداد خلال تلك العملية، لكن اللعنة الكبيرة التي ظلت تلاحق بغداد والعالم العربي والإسلامي لم تكن في عدد القتلى الذين أبادهم جيش هولاكو فحسب، بل كذلك نكبة المسلمين في علمائهم وكتبهم ومخطوطاتهم.
إطفاء نار الخلافة.. النار الأزلية تحرق مكتبات بغداد
في كركوك الكائنة في شمال شرق العراق، تخرج نار من بطن الأرض في حقل بابا كركر، وهو من أكبر حقول النفط هناك، وتسمى بالنار الأزلية بسبب اشتعالها الدائم منذ ما يقارب أربعة آلاف سنة، لكن بمرور مئات السنين، أصبحت تلك النار الأزلية مصدر شيء من الرفاه للعراقيين، وسببا لبؤسهم أيضا بعد اكتشاف النفط، لكن يدرك العراقيون أن نارا أزلية أخرى اشتعلت منذ قرابة ثمانية قرون لا تزال تحرقهم وتحرق أجيالا، حين أشعل المغول النار في مكتبات بغداد فأتت على أندر الكتب والمخطوطات.
يصف المؤرخ الرحالة ابن بطوطة حال بغداد حين زارها في العام 1327 بأنها وجه غريب عن بغداد التي عرفت بجمالها وبمعالمها، ويقول “ذهب رسمها، ولم يبق إلا إسمها، فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز (جلسة ينتصب صاحبها كأنه يريد أن يقوم) الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها”.
حين دخل المغول إلى أسوار بغداد، قتلوا العلماء والشعراء، وهو ما يتفق عليه أغلب المؤرخين العرب والغرب، وقد وصف المستشرق “ستيفن همسلي لونكريك” في كتابه “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” ما حل ببغداد بسبب الغزو المغولي بالقول: سرعان ما عصفت بها ريح الخراب، فداهمها في سنة 1258 هولاكو حفيد جنكيز خان فثل عرشها، وأطفأ نار الخلافة فيها حتى الأبد، واستباح غنائمها التي لا تُحصى وكنوزها العظيمة، وذبح شعراءها وتجارها، وفرق طلابها وعلماءها وفقهاءها، فاستحالت في يوم واحد من مركز السلطة الإسلامية الذي لا ند له، إلى مركز حقير من مراكز الإمبراطورية الإيلخانية.
إعدام كنوز الحضارة العباسية.. إبادة تاريخ بأكمله
يخلص المستشرق “ستيفن همسلي لونكريك” في كتابه “أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث” إلى أن ما حل بعلماء بغداد وطلابها وفقهائها قد أثر في الفكر الإسلامي، فقد ازداد الصراع بين الدين والفكر، ورجحت الكفة إلى الدين الذي أصبح أكثر تحفظا، وتحوّلت بغداد من أفضل المراكز الفكرية في تلك العصور إلى مدينة أشباح هرب منها سكانها وما بقي من علمائها وطلابها نحو الشام ومصر.
وقد أحصى ابن بطوطة أربعة وعشرين ألف عالم قُتلوا على يد المغول، وحصر الباحث عبد المنعم حامد عبد علي في دراسة نشرت في مجلة “مداد الآداب” أسماء 62 عالما قتلهم المغول عند غزو بغداد.
لم يستهدف جيش “هولاكو” العلماء والفقهاء فحسب، بل أعدموا كتبا ومخطوطات أصلية كانت بمثابة كنوز احتفظ بها الخلفاء العباسيون طيلة قرون، وكان جليا أن المغول قد خططوا لما هو أكثر من تخريب المدينة وقتل السكان، إذ كان هدفهم تدمير حضارة كاملة وإبادة تاريخها.
وقد ساهمت خزائن الكتب ببغداد في حركة التعليم والثقافة، ووفرت المراجع والمصادر للباحثين وطلبة العلم، لكن تدميرها بعد غزو المغول أدى إلى توقف حركة التأليف عند علماء المسلمين في المناطق التي احتلها “هولاكو”، فقد انشغلوا بالبحث عن ملاذ آمن قبل التفكير في التأليف.
ومنذ سنوات الموت تلك، بقي العراق يعاني من تغطرس الحاكم، أو خساسة السارق، أو بطش الغازي، ومع ذلك سيحيا العراق.