حبيب مايابى
مع نهاية القرن الـ16 وبداية القرن الـ17 قدِم يهود الغرانا إلى تونس بعد أن طُردوا من الأراضي الأوروبية فلبثوا فيها قرونا عديدة
قبل أكثر من ألفي عام استوطنت أقليات يهودية أرض تونس الخضراء وتعايشت مع أهلها بانسجام وأمان، فقبِلهم المجتمع واندمجوا فيه رغم احتفاظهم بخصوصياتهم الدينية.
وعندما وصل اليهود لمدينة جربة بنوا معبد الغريبة وهو أول معابدهم في أفريقيا. وحتى اليوم يؤمه سنويا آلاف الزوار والسياح اليهود لأداء مناسك الحج والمشاركة في تابوت العهد.
ومع نهاية القرن الـ16 وبداية القرن الـ17 قدِم يهود الغرانا إلى تونس بعد أن طُردوا من الأراضي الأوروبية فلبثوا فيها قرونا عديدة قبل أن تأخذهم الحمية للمعتقد فتدفعهم لترك الوطن والهجرة نحو تل أبيب.
وفي فيلم من جزأين بعنوان “من الغرانا إلى تل أبيب” تروي الجزيرة الوثائقية قصص يهود تونس عبر القرون إلى أن كتبوا على أنفسهم الجلاء نحو إسرائيل، وكيف غرر بهم التيار الصهيوني وأقنعهم بالهجرة ليعانوا بؤس الحياة وشقاء الغربة وألم الكدح.
يقول الباحث في التراث اليهودي برنارد علالي إن تاريخ وُجود اليهود في تونس يعود للقرن الثاني بعد الميلاد، بينما تؤكد الباحثة المختصة في التاريخ اليهودي كلير روبنشاتين أن حضور اليهود بدأ مع نشأة تونس.
ويعتبر معبد الغريبة شاهدا حيا على وجودهم، وذلك لأنه أحد أهم المواقع الأثرية اليهودية. ويقصده الزوار من مختلف العالم وبه نسخة عتيقة من التوراة.
وبعد الفتح الإسلامي لقرطاج تعايش اليهود مع المسلمين وتكلموا العربية مع احتفاظهم بحرية المعتقد وممارسة الشعائر.
وفي القرن الـ17 شهدت تونس موجات من المهاجرين اليهود القادمين من مدينة ليفورنو الإيطالية، ويطلق عليهم “الغرانا”؛ أي يهود غرناطة لأنهم قبل إيطاليا كانوا في مدينة غرناطة بالأندلس.
الغرانا ويهود الحارة.. شرخ اجتماعي
تميز يهود الغرانا عن اليهود التونسيين بموجب اتفاق مع الحاكم العثماني في تونس، وكانت لهم حماية فرنسية ولديهم ثروة مالية معتبرة، فأحدث ذلك شرخا اجتماعيا بينهم وبين يهود الحارة الذين كانوا يعانون من الفقر ويعملون في المهن الشاقة.
وفي سنة 1897 نجح ثيودور هرتزل في تنظيم أول مؤتمر لليهود في سويسرا ونتج عنه قيام المنظمة الصهيونية العالمية التي تهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
كان يهود الغرانا في تونس يعيشون ثورة ثقافية، ففتحوا مدارس خاصة تُعلم العبرية وتسير في نهج التعليم الأوروبي. وأول من قام بهذه التجربة الدبلوماسي ورجل الأعمال اليهودي الغراني جياكومو دي كاستلنيو فو.
أقبل أهل الغرانا على هذه المدارس وانخرطوا فيها، لكن يهود جربة لم يستجيبوا لندائها لأنها لا تحترم الخصوصية الثقافية.
الترويج للهجرة
بعد مجيء الحماية الفرنسية لتونس سنة 1881 شعر غالبية اليهود بالأمان وخصوصا “الغرانا” لأن أصولهم أوروبية ويحنّون إلى مد الجسور الثقافية مع المجتمعات الغربية.
ومع مطلع القرن العشرين ظهرت الصحافة اليهودية في تونس مروجة للعبرية وبدأت البرجوازية تتجلى في صفوف تلك الأقلية بفضل ما تملكه من ثقافة ومال.
وحينها أبدى الكثير من أبناء هذه الطبقة رغبتهم في الحصول على الجنسية الفرنسية، لكن شروط التجنيس التي طرحتها فرنسا كانت صعبة المنال.
مارست الصحافة اليهودية في تونس الدعاية للهجرة وعملت على إقامة علاقات مع المنظمات الصهيونية في العالم.
كان اليهود تونس عبارة عن تيارين أحدهما اندماجي يسعى للانصهار والاندماج في فرنسا، والآخر تيار صهيوني يسعى لجمع المال والتبرع من أجل إقامة دولة إسرائيل في فلسطين.
بعد مجيء الحماية الفرنسية لتونس سنة 1881 شعر غالبية اليهود بالأمان وخصوصا “الغرانا” لأن أصولهم أوروبية
المؤتمر الصهيوني
وفي 1920 شارك نخبة من اليهود التونسيين في المؤتمر الصهيوني في لندن. وقد كان التيار الصهيوني من اليهود يتمركز أساسا في مدينة سوسه، وقد بدأ في جمع الأموال ومراسلة المنظمات من أجل شراء الأرض في فلسطين.
وعبر هذه الأفكار الأيدولوجية بدأت الحركة الصهيونية تسيطر على اليهود على حساب الحركة الاندماجية ذات الإمكانات المحدودة، كما يقول للجزيرة الوثائقية الباحث في التاريخ اليهودي عبد الكريم العلاقي.
وفي 1938 تحالف الفاشيون مع النازيين وأصدروا قوانين معادية لليهود وطبقوها في إيطاليا فزادت مخاوف يهود تونس، وبدأ الطموح للهجرة يتجدد عند الحركة الصهيونية.
وفي حديثه لوثائقي الجزيرة، يقول رئيس جمعية تاريخ اليهود التونسيين في باريس السيد كلود ناتاف “إن الغالبية من الصهيونيين التونسيين لم تكن تريد الهجرة وإنما كانوا يريدون مواطنة يهودية”.
في 1936 ظهرت حركة الكشافة وانتشر الأطفال في الشوارع يجمعون التبرعات لدولة اليهود
اختراق الشباب
نجحت الحركة الصهيونية في اختراق الشباب وأدلجتهم، لكن الهجرة ظلت محدودة قبل سنة 1948، وما تم منها كان بهدف ديني فقط لأن الأوضاع في تونس كانت هادئة والناس تعيش في أمان.
وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1942 جرت الرياح بما لا تشتهيه نفوس الطبقة البرجوازية من الصهيونيين، وذلك لأن القوات الألمانية فرضت سيطرتها على تونس ودخلت عموم البلاد.
يومها أُجبر اليهود على ارتداء نجمة داود الصفراء وتمت مصادرة أموالهم، وبدأ تجميعهم في المعتقلات لإرسالهم إلى ألمانيا لإبادتهم، وتحول مقر الرابطة العالمية لليهود في تونس إلى سجن سيئ يمارَس فيه التعذيب على المنتسبين لها.
وقد وقفت العائلات المسلمة في تونس بإنسانية كبيرة مع المواطنين اليهود ووفروا لهم الحماية وساعدوهم في الاختفاء عن الألمان.
لكن الاحتلال الألماني لتونس لم يستمر طويلا، فقد كانت مدته سبعة أشهر فقط، لذلك لم تستمر معاناة اليهود وإجراءات ترحيلهم للإبادة.
في 1920 شارك نخبة من اليهود التونسيين في المؤتمر الصهيوني في لندن
قيام إسرائيل
وفي 14 مايو/أيار 1948 قامت إسرائيل على أرض عربية مغتصبة وقبلت بها الأمم المتحدة عضوا في المجتمع الدولي، فانسحب العرب من قاعة الاجتماعات احتجاجا على القرار، لكنهم رجعوا للقاعة في اليوم التالي.
وعلى إثر ذلك القرار نشطت الوكالة اليهودية في تهجير اليهود وخصوصا الأطفال عبر البحر والرحلات السرية.
وفي عام 1950 أقام اليهود في تونس احتفالا كبيرا بمناسبة قيام دولة إسرائيل، فولّد ذلك غضبا عند العامة، وأصبحت نظرة الشارع تجاه اليهود نظرة سيئة.
لاحقا عادت المياه إلى مجاريها وكانت الغالبية العظمى من اليهود في تونس تدعو للتحرر والاستقلال عن فرنسا، وقد شاركوا في استقبال بورقيبة من منفاه، لكنهم كانوا يخشون أن تقوم الحكومة بمنع الهجرة نحو إسرائيل كما سبق وفعلت الحكومة المغربية.
بعد قدوم بورقيبة وضع حدا لما كان يسميه “سرقة المواطنين”، فأغلق مكاتب الوكالة اليهودية في عموم التراب التونسي، وعين ألبير بسيس اليهودي في أول حكومة له.
وفي 1957 تم إعلان الجمهورية وإقرار دستور 1957 الذي نص على أن الإسلام دين الجمهورية والعربية لغتها، لكن ذلك لم يغير شيئا في حرية المعتقد لليهود، وتم إسناد حقيبة وزارية ليهودي آخر من جديد.
ورغم أن التيار الصهيوني كان مناصرا للفرنسيين ولغتهم، فإن باريس خانتهم ولم تجنس منهم سوى عشرات الأشخاص على عكس ما فعلت في الجزائر.
في 1967 قامت الحرب بين إسرائيل والدول العربية، فلحقت الهزيمة والنكسة بالعرب واحتلت الدولة اليهودية مناطق جديدة كالضفة الغربية والجولان
وحدة الدم
وفي 1961 خاض التونسيون معركة دموية مع القاعدة الفرنسية في بنزرت وسقط فيها أكثر من ألف قتيل تونسي، وكان اليهود من ضمن المواطنين الذين تطوعوا بالقتال دفاعا عن الأرض التونسية .
وبعد أن وضعت حرب الجزائر أوزارها رحل خليط من اليهود الجزائريين والتونسيين والطوائف غير المسلمة في هجرة جماعية نحو أوروبا والأراضي المحتلة.
وحسب بعض الإحصائيات فإن عدد اليهود التونسيين الذين هاجروا نحو إسرائيل بين عامي 1948 و1950 يقدر بتسعة آلاف بينما وصل في عام 1960 نحو 25 ألفا.
ولم يمنع بورقيبة اليهود من المغادرة بل منحهم جوازات سفر، لكنه وقف في وجه الهجرة السرية وتهريب الأطفال.
بدورها لم تكن إسرائيل ترغب فيمن تقدم بهم العمر، بل كانت ترد المسنين، إذ كانت تريد جيلا ناشئا لتزرع فيه القيم الصهيونية وله قدرة بدنية على المشاركة في بناء الدولة الوليدة.
انخدع كثير من الشباب الذين تركوا وطنهم تونس وهاجروا نحو إسرائيل حالمين بعيش أفضل، فقد واجهوا ظروفا صعبة من الفقر والعمل المضني في زراعة الأرض.
ويتضمن الفيلم لقطات توثق عمل المهاجرين في إسرائيل في خمسينيات القرن الماضي حيث يعتمدون على عضلاتهم في ظل انعدام الوسائل.
كان اليهود في تونس 27 ألفا فقرروا الرحيل نحو إسرائيل ولم يبق منهم في البلاد التونسية إلا ألفين أو أقل
تداعيات النكسة
وفي 1967 قامت الحرب بين إسرائيل والدول العربية، فلحقت الهزيمة والنكسة بالعرب واحتلت الدولة اليهودية مناطق جديدة كالضفة الغربية والجولان.
كان التونسيون كغيرهم من العرب يعلقون آمالا كبيرة على تلك المعركة، وبعد نتائجها ومشاهدتهم لدحر الجيوش العربية تظاهروا وقاموا برد فعل على اليهود، فنهبوا متاجرهم وأموالهم.
لكن الهجرة كانت قد بدأت قبل هذه الأسباب. ويقول غاد شاهمار مسؤول عمليات الهجرة السرية في الموساد “لقد قمنا بالكثير من عمليات ترحيل الشباب نحو وطنهم إسرائيل، وكان الناس يرغبون في الهجرة بسبب الدين”.
ولا تزال البقية الموجودة منهم تعيش بأمن وأمان كما كانت في السابق وتحظى بحقها في التوظيف وخوض الانتخابات السياسية والمشاركة في توجيه الرأي العام.
وتتمتع بكامل الحقوق في إقامة الشعائر الدينية دون تضييق، ولايزال بعض من هاجر يجد في صدره حاجة من الرجوع والعودة لأرضه حيث فقد الانتماء والثقافة والوطن.
وكل عام يزور تونس آلاف اليهود من مختلف الجنسيات للمشاركة في طقوس كنيس الغريبة ويحظون بالأمان والاحترام من قبل الجميع.