“حكت لي أمي أنها ذات ليلة وهي حامل بي، جاءت إلى بيتنا في بلدة أوماها جماعة “الكوكلوكس كلان” بقلنسواتهم على ظهور الخيول، وطوقوا البيت وهم يهددون ببنادقهم وأمروا أبي بالخروج. قالت أمي إنها فتحت الباب وأخبرتهم أنها وحيدة في البيت مع أطفال صغار، وحذروها من مغبة ما ينتظرنا إن نحن لم نغادر البلدة”.
اختار “مالكوم ليتل” أو “مالكوم إكس” أو الحاج “مالك الشباز”، وهي أسماء اختصرت ثلاثة منعرجات مهمة في حياته؛ أن يبدأ مذكراته بتلك الذكرى الأليمة. كانت تلك الحادثة في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، حين أطل “مالكوم” الصغير على العالم الذي تفنن في العنصرية وفي التنكيل بذوي البشرة السوداء، ورسمت تلك الذكرى وغيرها ملامح ذلك الرجل الأسود بعينين غاضبتين خلف نظارات كبيرة، ضاما شفتيه، وشاهرا سبابته كأنه يتهم من يجلس قبالته.
عاش “مالكوم ليتل” حياة أي طفل أمريكي ذي ملامح أفريقية في تلك الفترة البغيضة من التاريخ، وكان محكوما عليه شأنه شأن أي فتى من جلدته أن يعيش في ظل البيض، فكان المصير الحتمي للأمريكيين الأفارقة في ذلك الوقت، هو إما أن يكونوا ماسحي أحذية، أو أن تحضنهم الجريمة فينتهي بهم المطاف في السجن.
لقد خطّ القدر طريقا مغايرا لمالكوم الذي عاش زعيما في الشارع وفي منظمة “أمة الإسلام”، وفي “منظمة المسجد الإسلامي”، قبل أن يدفع ثمن كل تلك الزعامات.
طفولة السود.. قلوب مليئة ببغض البيض وحلم العودة
ولد “مالكوم” في 19 مايو/أيار عام 1925، وكان كل شيء مهيئا له ليعيش طفولة تعيسة، فوالده “إيريل ليتل” واعظ ديني يثير حنق الأمريكيين البيض بسبب اتباعه منهج “ماركوس غارفي” الذي يرى أن الأمريكيين السود لن ينتزعوا حقوقهم أو يعيشوا بسلام في الأرض التي يعيشون عليها وهي أمريكا، لذلك عليهم أن يتّحدوا ويعودوا إلى أفريقيا أرض أجدادهم.
اتبع “إيريل” مذهب “ماركوس غارفي” بعد أن شاهد البيض يقتلون ثلاثة من إخوته، وأعدموا آخر دون محاكمته، كان لـ”مالكوم” ستة أعمام، قُتل خمسة منهم ونجا واحد فقط حين توفي بسبب المرض، لذلك كان الفتى الصغير يحلم بموت طبيعي رغم أنه جهّز نفسه للموت في أي لحظة، ويقول في مذكراته التي كتبها “أليكس هاليي”: لقد كان عندي دائما شعور غريب بأنني أنا أيضا سأموت مقتولا، فاستعددت لذلك ما وسعني الاستعداد.
تعزز الحقد على العرق الأبيض في قلب “مالكوم” الصغير، وكان يشعر بالعار الشديد بسبب لونه الفاتح نسبيا وشعره المائل للحمرة، وهي ملامح ورثها عن أجداده من أمه، يقول “مالكوم”: أحمل الحقد لكل قطرة تجري في عروقي من دم ذلك المغتصب الأبيض.
تربى “مالكوم” في سنواته المبكرة على فكرتين، هما كره البيض بسبب أذيتهم للسود وحرمانهم من كل حقوقهم الإنسانية، وفكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تكون أرضا للأمريكيين السود يتمتعون فيها بحقوقهم، لذلك يجب عليهم الرجوع إلى أرضهم الأم وهي أفريقيا، لكن قبل ذلك عليهم أن يخرجوا من ظل البيض وأن يبنوا تجارتهم وأحياءهم، وأن ينفصلوا حتى يكونوا ثروة فيكتسبوا القوة. كانت تلك الأفكار هي أساس مذهب “ماركوس غارفي” التي تبناها ودعا إليها “إيريل ليتل” والد “مالكوم”.
“إيريل” الأب.. سياسي يُثير الرعب في قلوب الأمريكيين البيض
واجهت عائلة “مالكوم” عنصرية وصلت إلى حد حرق منزلهم، ويستحضر “مالكوم” فاجعة ألمت بعائلته حين كانت أمه حاملا بأخته الصغرى، وكان عمره أربع سنوات حينها، ففي إحدى ليالي العام 1929 استيقظ “مالكوم” الصغير على صوت طلقات نارية انطلقت من بندقية والده، وفزع حين رأى منزلهم يحترق وتدافع إخوته من الخوف.
سقط المنزل بعد خروج الأم مباشرة، كان ذلك أشبه بفيلم درامي أمريكي، إذ خرج كل أفراد العائلة، وكانوا جميعهم بملابس النوم، شاهدوا جميعا كيف أن أفراد الشرطة ورجال الإطفاء وقفوا يشاهدون المنزل يحترق ثم يسقط دون أن يتدخلوا.
رحلت العائلة وسكنت في منزل شرق لانسينغ في ولاية ميشيغان، وذكر “مالكوم” أن السود كانوا ممنوعين منعا باتا من دخول شرق مدينة لانسينغ بعد غروب الشمس، شأنها شأن مدن كثيرة في ميشيغان، فاضطرت العائلة إلى الخروج مجددا من هناك، ولجأ الأب “إيريل” إلى مكان خال خارج المدينة لبناء منزل، حيث كبر “مالكوم” وأصبح يعي أن الأمريكيين السود في لانسينغ يعيشون في قاع المجتمع، وأن “أعلى درجة النجاح التي يمكن لذوي البشرة السوداء في المدينة أن يصلوا إليها هي أن يكون الواحد منهم نادلا أو ماسح أحذية أو بوابا للمتاجر، وكانت الأغلبية العظمى تعيش إما على المساعدات الاجتماعية أو تموت جوعا”.
وفي منزل الصفصاف، وهو المكان الوحيد الذي أحست فيه العائلة بالأمان بسبب بعده عن المدينة؛ اكتشف “مالكوم” أن أباه يثير الرعب في قلوب الأمريكيين البيض، وشعر بالفخر بنشاط أبيه الذي أصبح يصطحب “مالكوم” في سن مبكرة إلى اجتماعاته السياسية، فسمع مالكوم الطفل خطبا عن “طرد آدم من الجنة فهبط إلى كهوف أوروبا”، و”أن ساعة التحرر الأفريقي آتية”، و”أفريقيا سيحكمها الأفارقة”. وكان “إيريل ليتل” والد “مالكوم” يختتم الاجتماعات بنشيد “إلى الأمام يا أيها الجنس الجبار، بوسعك أن تحقق المعجزات”.
“لقد رحلوا ولم يبق منهم أحد”.. قتيل على السكة ونزيلة بالمستشفى
حين بلغ “مالكوم” ستة أعوام من عمره فقد والده الذي وُجد مهشم الرأس ممددا فوق سكة القطار، وكانت العائلة تعلم أن البيض قتلوا الأب بسبب خُطبه المحفزة للسود بتكوين ثروتهم، وبالوعد الآتي بعودتهم إلى وطنهم أفريقيا.
ساءت حال الأم حين وجدت نفسها تعيل ثمانية أطفال بجراية بسيطة لم تكفها، وساءها أنها تحتاج إلى مساعدة الولاية لتتمكن من إطعام أبنائها، فبدأت تنهار، خاصة أن “مالكوم” لم يتحمل ذلك الفقر، فأصبح يسرق الخضر والغلال من المتاجر كلما سنحت له الفرصة، وبدا كما قالت له إحدى العجائز التي ترتاد الكنيسة “لا يصلح لشيء لكنه صادق”.
قاومت والدة “مالكوم” قرابة خمس سنوات، لكن أجهزت عليها تجربة عاطفية فاشلة أثرت فيها نفسيا، وحُكم على العائلة بأن تفترق بعد قرار قضائي بإدخال الأم إلى مستشفى “كلامازو للأمراض العقلية” الذي يبعد قرابة سبعين ميلا عن مسكن العائلة.
حقد “مالكوم” على المحكمة التي زجّت بأمه في مستشفى للأمراض العقلية قضت فيه 26 عاما، فآمن أنه لولا عنصرية البيض لما وصل بها الحال إلى عدم التعرف على ابنها “مالكوم” حين يزورها، فقد كانت كلماتها الوحيدة التي قالتها له حين سألها عن تاريخ اليوم “لقد رحلوا ولم يبق منهم أحد”. توقف مالكوم عن زيارة أمه وعن الحديث عنها لأن رؤيتها كانت تثير فيه حقدا كبيرا على البيض قد يدفعه لارتكاب جريمة.
“يجب أن تفهم أنك زنجي، وأن المحاماة مهنة غير واقعية بالنسبة لك”
حين بلغ 12 عاما من عمره تقريبا، اقتيد “مالكوم” إلى سجن الأحداث بعد فصله من المدرسة، وذلك بسبب وضع مسمار فوق مقعد معلمه احتجاجا على معاقبته بسبب دخوله الصف وعلى رأسه قبعة. كان سجن الأحداث يشبه المنزل، يشرف عليه زوجان أبيضان، حيث يقضي الأطفال فترة إصلاحيتهم في الأشغال، أما الأطفال الخطرون فيحبسون في غرف ويُمنعون من مغادرتها.
لم تكن الإصلاحية سجنا حقيقيا كبقية السجون المعروفة، ولم يتلق فيها “مالكوم” أو بقية النزلاء معاملة سيئة، فقد كانت المعاملة هناك أفضل بكثير من معاملة التلاميذ والأساتذة له في المدرسة الثانوية التي التحق بها بعد انتهاء عقوبته.
في المدرسة كره “مالكوم” أستاذ التاريخ منذ أول يوم في الفصل بسبب نكته عن الزنوج التي تستفز “مالكوم”، ففي إحدى المرات التي دخل فيها إلى الفصل متأخرا، غنى الأستاذ ساخرا “هناك أسفل الوادي في حقول القطن مَنْ يقول إن الزنجي لن يسرق”.
كره “مالكوم” أستاذ التاريخ رغم حبه لتلك المادة، واقتنع أن البيض حتى لو أظهروا شيئا من الطيبة تجاه سود البشرة فإن نظرتهم العنصرية تظل نفسها، فالسود بالنسبة لهم جنس لا يرتقي إلى عرق البيض.
أدرك “مالكوم” أن تلك النظرة يتشارك فيها كل البيض حتى أستاذ الإنجليزية حين سأل “مالكوم” عن حلمه ورد عليه الأخير أنه يحلم بأن يصبح محاميا، فأجابه الأستاذ باستنكار “يجب أن تفهم أنك زنجي، وأن المحاماة مهنة غير واقعية بالنسبة لك. أنت ممتاز في دروس النجارة والجميع يعرف ذلك، فلم لا تفكر أن تصبح نجارا؟”.
التقت كل الظروف لتجعل “مالكوم” يكره المدرسة، ولم يكن حينها قد تجاوز 15 عاما، فنصيحة أستاذ الإنجليزية أحبطته وجعلته يقرر الاستقرار في بوسطن صحبة شقيقته، لكنه في المقابل كان ممتنا لتلك النصيحة الجارحة التي مهدت له الطريق ليترك المسيحية كما قال.
“مالكوم الشيطان”.. سجين تحوّل إلى ملاك ناصر للمظلومين
غادر “مالكوم” مدينته في العام 1941 نحو بوسطن التي فتحت له ذراعيها فعمل ماسح أحذية وغاسل صحون، وأغرته السرقة فأصبح لصا ووقع في فخ الشرطة مرات كثيرة، وكلّفه آخر سطو قام به في العام 1946 حكما قاسيا بعشر سنوات.
اقتيد “مالكوم” إلى سجن “تشارلز تاون”، وقد ملأ صدره الغضب فشتم أخاه ردا على رسالة قال فيها إن كنيسته ستنظم له قُدّاسا من أجل خلاصه من السجن، وأطلق كل عبارت الهجاء في وجه طبيب نفسي وقسيس حين زاراه في سجنه.
يقول “مالكوم” في مذكراته: لقد قضيت سبع سنوات في السجن، وأتذكر أنني كنت أشتم الحراس وأعطل الصفوف وأسقط طبق الطعام، ولا أرد على مناداتي برقمي بدعوى أنني نسيته. كنت أفعل ذلك بقصد حتى يضعوني في الزنزانة الانفرادية، وغالبا ما كنت أشتم نفسي بصوت عال، وأسب الإنجيل والجلالة، ونظرا لموقفي من الدين فقد أطلق علي السجناء اسم الشيطان.
بعد مضي عام قضاه في سجن “شارلز تاون” بدا أن الشيطان سيتحول إلى ملاك ينصر المظلومين حين وضع القدر “مالكوم” في طريق رجل يدعى “بيمبي”. كان ذلك الرجل يشبهه، له شيء من الحمرة في وجهه وذو بشرة أقرب إلى الفاتحة. كان “بيمبي” يخطب بطلاقة وسط السجناء متحدثا عن العدالة والمساواة، فأسرت شخصيته “مالكوم” وتقرب منه. كان تأثير “بيمبي” شبيها بالسحر، فقد أجج رغبة “مالكوم” في الدراسة من جديد، وأصبح يرتاد مكتبة السجن ويتلقى دروسا في الإنجليزية واللاتينية.
في الواقع لم يكن ذلك المنعرج الوحيد الذي قلب حياة “مالكوم”، ففي العام 1948 تلقى رسالة من أخيه يقول له فيها إنه “اهتدى إلى الدين الطبيعي للرجل الأسود”، بعد أن التحق بتنظيم يسمى “أمة الإسلام”، ونصحه أخوه الآخر أن يمتنع عن أكل لحم الخنزير وعن التدخين وفق تعاليم الإسلام، لكن “مالكوم” شتم أخاه بسبب نصيحته في رده على رسالته.
كان السود في الولايات المتحدة الأمريكية يبحثون عن هوية خاصة بهم، ولم تكن عائلة “مالكوم” بمعزل عن ذلك المسار، فبدأت بانخراط الأب “إيرل” في تنظيم “ماركوس غارفي” وصولا إلى دخول كل أشقاء مالكوم في “تنظيم “أمة الإسلام” واعتناقهم الدين الجديد.
“ريجينالد”.. حديث عن الله مع أقرب الإخوة إلى القلب
في العام 1948 تدخلت “أيلا” شقيقة “مالكوم” لنقل أخيها إلى سجن تربوي، وهو سجن شبيه بفندق مقارنة بالسجون التي تنقل بينها “مالكوم” طيلة عامين تقريبا، فهناك كانت تُنظّم زيارات دورية لأساتذة من جامعتي “هارفارد” و”بوسطن”، وينشط السجناء في حلقات نقاش حماسي داخل زنزاناتهم.
كانت خطط إخوة “مالكوم” هي إنقاذ أخيهم من الأجواء المسمومة داخل السجون العادية، ثم الحديث معه عن اعتناق دين الإسلام، وهو دين السود الطبيعي حسب ظنهم، ونجحت خططهم بعد أن هدأ غضب “مالكوم”، فأصبح أكثر ميلا للنقاش والحوار، حتى إنه قاد مناظرات داخل السجن.
كلّفت العائلة “ريجينالد” أقرب أشقاء “مالكوم” إلى قلبه لينقل له رسالة الدين الجديد. وعلى غير عادته بدا “مالكوم” متلهفا لمعرفة السبب القوي الذي يجر إنسانا نحو التخلي عن أكل لحم الخنزير والتدخين.
تحدث الأخوان في تلك الزيارة عن معنى الله الذي يحمل الخير ويعلم الغيب. وقبل مغادرته زرع “ريجينالد” قنبلة في رأس “مالكوم”، وقال له “إن الشيطان إنسان أيضا”، وأشار إلى سجناء وزوار بيض البشرة. كانت تلك أهم قواعد الدين الجديد الذي دعت له منظمة “أمة الإسلام” التي كان لها قواعدها الخاصة بالدين الذي تسميه الإسلام.
“أمة الإسلام”.. طائفة الإنقاذ من سيطرة الشيطان الأبيض
ظهر تنظيم “أمة الإسلام” في بداية القرن العشرين على يد رجل غامض يدعى “والاس محمد فارد” الذي لم يكن رجلا أسود، وحسب ملفات “إف بي أي” فإن ذلك الرجل وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1913، وقبض عليه في العام 1918 خلال سنوات المنع، وسجن ثلاث سنوات بين العامين 1926-1929.
لقد أسس بعد خروجه من السجن منظمة أطلق عليها اسم “أمة الإسلام”، وكان ذلك في العام 1930. حيث ولدت “أمة الإسلام” على أنقاض تنظيم انتمى له “والاس فارد” يُسمى “المعبد المغربي العلمي بأمريكا”. وتروج تلك المنظمة فكرة أن السود الأمريكيين هم من جذور مغربية، وأن “درو علي” رئيسها هو نبي، وأن شيكاغو قد تصبح مكة الثانية.
أنشأ “والاس فارد” تنظيم “أمة الإسلام” بقواعد مشتركة مع منظمة “المعبد المغربي العلمي بأمريكا”، وهي البحث عن هوية خاصة بالسود، ورفض النعوت العنصرية وبناء مجتمع مستقل، وأن هذا الدين موجه أساسا إلى السود.
ترتكز طائفة “أمة الإسلام” على فكرة أنها دين لذوي البشرة السوداء فحسب، وهي دين مستلهم من الإسلام، وأنه الدين الطبيعي لهم، وهو الوحيد القادر على “إنقاذهم من سيطرة الشيطان الأبيض”، كما تزعم “أمة الإسلام” أن الشيطان أبيض والملاك أسود، وأن المسيحية هي دين ذوي البشرة البيضاء، وهي التي علمت السود أن يكرهوا أنفسهم ولونهم.
“إليجاه محمد”.. نبي السود الذي افتتن به “مالكوم”
اختفى “والاس فارد” في العام 1934، وتقول صحيفة “ديترويت ميترو تايمز” إن اختفاء “فارد” كان بعد قيام أحد أتباعه ويُدعى “روبرت هاريس” يوم عيد الشكر عام 1932 بجريمة قتل، واستشهد “هاريس” باقتباس من كتاب بعنوان “الطقوس السرية للأمة المفقودة في الإسلام” الذي ألّفه “والاس فارد محمد”، ونصه “يجب على كل ابن للإسلام أن ينتصر على إبليس أربعة انتصارات، وينال الابن أجره”.
بعد اختفاء “والاس فارد” في العام 1934 خلفه رجل يدعى “إليجاه محمد”، وأصبح بمثابة نبي للسود وفتن “مالكوم” في سجنه، حتى إنه أصبح داعية لمذهب “أمة الإسلام”، فكان يدعو السجناء إلى دين السود الطبيعي.
قضى “مالكوم” سبع سنوات من محكوميته وأطلق سراحه في العام 1952. لم يكن حينها عضوا بالمنظمة، لكنه حضر نشاطا نظمته، واستمع خلاله إلى خطبة “إليجاه محمد”، فكانت كفيلة باتخاذ قراره للانضمام رسميا إلى المنظمة.
“مالكوم إكس”.. عالم الإمام والخطيب والسياسي المفوّه
لم يكن “مالكوم” قد أصبح قريبا من نبي تلك الطائفة، لكنه في المقابل بدأ دعوته للأمريكيين السود للانضمام إلى ذلك الدين الذي يطلقون عليه اسم الإسلام، وتمكّن بفضل موهبته الخطابية التي صقلتها سنوات السجن من جذب عدد كبير من الأتباع.
كان “مالكوم” يجوب الحانات ويدعو ذوي البشرة السوداء إلى دينهم الذي سينقذهم، ومكّنه حماسه وكرهه الشديد للبيض الذين تسببوا في أذية عائلته وبني عرقه من أن يحصل على حظوة في تلك المنظمة، حتى أصبح إماما في مسجد ديترويت وبوسطن بعد عام واحد من انضمامه لها.
دخل “مالكوم” في مرحلة جديدة بعد أن أطلق على نفسه اسم “مالكوم إكس”. كان التخلي عن لقبه العائلي هو إعلان قطيعة جذرية مع أي تفصيل يذكّره بسيطرة البيض، حتى لقب الأجداد الذي مُنح لهم من قبل مالكيهم. كان حرف “إكس” يحيل إلى أي شيء مجهول، وذلك لصعوبة معرفة اللقب الحقيقي لأجداده قبل استعبادهم وإحضارهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسناد لقب أوروبي لهم.
ذاع صيت “مالكوم إكس” في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وكانت خطبه الحماسية عن العنصرية وشرور الرجل الأبيض قد مكنته من أن يكون سياسيا قادرا على لقاء أهم ساسة العالم، ففي العام 1959 التقى بزعماء عرب، مثل الرئيس المصري جمال عبد الناصر خلال رحلته إلى مصر وسوريا وإيران والمملكة العربية السعودية وغانا، كما أصبح له حارسه الشخصي الخاص به.
شبيه النبي موسى.. حلول إلهية تحاربها الحكومة الأمريكية
في إحدى خطبه أمام طلاب جامعة “كاليفورنيا” في 11 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1963، كان “مالكوم” متقلدا منصب إمام قومي لتنظيم “أمة الإسلام”، وقال متوجها للطلاب: يتحدث العالم كله الآن عن السيد “إليجاه محمد”، والحل الإلهي الذي تلقاه. هو ليس حلا مؤقتا سيستفيد منه فقط الزنوج من الطبقة العليا المختارة بعناية، لكنه حل مصمم بشكل إلاهي لحل محنة الجماهير السوداء في هذا البلد بشكل دائم وإلى الأبد. فنحمد الله على سيادة “إليجاه محمد”. نحن لم نر مخرجا حتى قبلنا دين الإسلام والتوجيه الروحي للسيد “إليجاه محمد”.
سار تنظيم “أمة الإسلام” بتوجيه من “إليجاه محمد” على طريق تنظيم “ماركوس غارفي” الذي دعا السود إلى مغادرة الولايات المتحدة الأمريكية والرجوع إلى الوطن الأم، ودعا “مالكوم إكس” إلى وحدة السود تحت راية الإسلام أو الدين الذي يدعو إليه تنظيم “أمة الإسلام”.
يقول “مالكوم إكس” في خطبته الحماسية: يجب فصل عشرين مليون من العبيد السابقين بشكل دائم عن ربنا السابق، ووضعهم في بعض الأراضي التي يمكننا أن نطلق عليها أرضنا، ثم يمكننا خلق وظائفنا الخاصة والسيطرة على اقتصادنا وحل مشاكلنا بدلا من انتظار الرجل الأبيض الأمريكي ليحل مشاكلنا. يقول المبجل “إليجاه محمد” إنه في أرضنا يمكننا إنشاء نظام زراعي خاص بنا، يمكننا زراعة الغذاء لإطعام شعبنا، ويمكننا الحفر واستخراج الموارد الطبيعية من الأرض بمجرد أن نكون في أرضنا. الأرض ضرورية للحرية والعدالة والمساواة، الأرض ضرورية للاستقلال الحقيقي. ويقول السيد “إليجاه محمد” إنه يجب فصلنا عن الرجل الأبيض الأمريكي، وإعادتنا إلى أرضنا حيث يمكننا العيش بين شعبنا. هذا هو الحل الحقيقي الوحيد.
يشبّه مالكوم إكس” إليجاه محمد” بالنبي موسى الذي أخرج اليهود من أرض مصر هربا من العبودية إلى أرض خاصة بهم، فالتاريخ يعيد نفسه، وأمر الله يقضي بخروج السود من الولايات المتحدة الأمريكية، ويقول في خطبته في جامع كاليفورنيا: بيت العبودية الجديد هو سلطة الحكومة الأمريكية التي تعارض موسى الجديد حين وقفت في وجه جهود “إليجاه محمد” ليقود السود إلى أرض خاصة بهم.
في خمسينيات القرن الماضي اشتد زخم النضال ضد التمييز العنصري، وكان منهج تنظيم “أمة الإسلام” متناقضا مع ما دعا له المناضل “مارتن لوثر كينغ” الذي يؤمن بفكرة قبول اندماج السود مع البيض في مجتمع واحد، في حين كانت دعوة “مالكوم إكس” تحت راية أمة الإسلام وإرشاد زعيمها “إليجاه محمد” قائمة على عنصرية ضد البيض، وقطع كل ارتباط معهم، في انتظار لعنة تبيد البيض جميعا لتصبح الأرض للسود فحسب، أو قيادة الأمريكيين السود إلى أفريقيا وطنهم الأم.
رحلة الحج.. اعتناق الإسلام الحقيقي في منبعه الأصلي
في العام الذي ازداد فيه نفوذ أمة الإسلام وزعيمها “إليجاه محمد” تسربت بعض القصص عن علاقات قائد التنظيم بنساء كثيرات، وكان ذلك من ضمن الأشياء التي أصبحت تثير غضب “مالكوم إكس” من التنظيم وقائده.
تأجج حنق “مالكوم” على “إليجاه محمد” بعد أن تبيّن بعد قرابة عقد من الزمن ضمن نشاطه في أمة الإسلام أن التنظيم لم يتحرك في جنوب الولايات المتحدة الذي كان يرزح تحت ثقل العنصرية، لذلك اختار “مالكوم” الابتعاد، واتخذ قرارا بالحج إلى مكة.
كان ذلك القرار فاصلا في حياة “مالكوم”، فهو لم يكن يعلم عن الإسلام إلا قليلا، فقد كان يتذمر من دعوة بعض المسلمين له للإطلاع على الدين الحقيقي. وفي الأخير اتخذ قرارا بمزيد من التعمق في الإسلام حين انتقده طلاب مسلمون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقالوا له إن ما يدعو له “مالكوم” ليس من الإسلام في شيء، وأن الإسلام الحقيقي ينهى عن التحريض ضد البيض.
يقول “مالكوم إكس” في مذكراته: إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حلا لمشكلة العنصرية فيها. فخلال سفري إلى العالم الإسلامي قابلت وتكلمت، بل وأكلت مع رجال كانوا سيعتبرون بيضا في أمريكا، ورأيت لأول مرة في حياتي أناسا من كل الألوان لا ينظرون إلى ألوانهم ويعيشون في إخاء حقيقي. إن ما شاهدته وعشته في هذه الجنة قلب أفكاري، وجعلني أتخلص بسهولة من بعض استنتاجاتي السابقة.
في العام 1964، كان “مالكوم إكس” قد انفصل عن “إليجاه محمد”، وكان تحت تأثير سحر ما شاهده في مكة خلال موسم الحج، وهو الاختلاط بين السود والبيض عند الكعبة، حينها أشار إلى جمع من الحجيج وهو يروي محنة السود في بلاده “أنت وأنت وأنت لو كنت في أمريكا لسموك زنجيا ورموك بالرصاص ووخزوك بالمناخس، ولوجهوا لك خراطيم النار وضربوك بسبب لونك”.
“فتح الإسلام الصحيح عيني”.. 16 رصاصة في صدر الحاج مالك
حين عاد من رحلة الحج، وقف “مالكوم إكس” أمام جمع من الصحفيين في المطار وكانوا يريدون أن يسمعوا منه عن قطيعته مع منظمة “أمة الإسلام”، لكنه بدأ بالحديث بطريقة لم يعتدها الأمريكيون السود والبيض على حد سواء، وقال: لقد أوسع الحج نطاق تفكري وفتح بصيرتي، نعم كنت أُدين البيض كلهم بشدة، لكنني اكتشفت الآن أن هناك بيضا قادرين على أن يُكنّوا للإنسان الأسود مشاعر أخوية صادقة. لقد فتح الإسلام الصحيح عيني على أن إدانة كل البيض شيء خطأ.
قلبت بضعة أيام في مكة حياة “مالكوم إكس”، فقاد تحت اسمه الجديد “الحاج مالك الشباز” دعوة للسود للتحرر، وخاطب هذه المرة كل السود باختلاف أديانهم.
أصبح “مالكوم إكس” يهدد عرش “إليجاه محمد”، وكان قد طرده بعد أن دعاه “مالكوم” إلى زيارة الكعبة ومعرفة الدين الحقيقي. حينها فُتحت جبهة جديدة للصراع بينهما، وصلت حد حرق منزل “مالكوم” في 14 فبراير/شباط من العام 1965.
وبعد أيام من حرق منزله وقف “مالكوم إكس” يخطب فوق منصة في قاعة مؤتمرات بنيويورك، ونشب شجار مفتعل داخل الحاضرين، وذلك لإلهاء الحُرّاس الشخصيين لـ”مالكوم”، لتنطلق 16 رصاصة استقرت في صدر “مالكوم إكس” وأردته قتيلا. اتُهم ثلاثة أشخاص قيل إنهم من منظمة “أمة الإسلام” باغتيال “مالكوم إكس”، وكان ذلك الاغتيال سببا في إضعاف تلك المنظمة.
في نهاية العام الماضي فتح تحقيق جديد في حقيقة اغتيال “مالكوم إكس” وبرأت المحكمة بعد أكثر من ستة وخمسين عاما، متهمين اثنين زُج بهما باطلا في القضية، رغم انعدام الأدلة على وجودهما داخل القاعة التي اغتيل فيها.