بعد محطة الانتخابات التمهيدية في نيوهامشير، تتجه التوقعات إلى أن الولايات المتحدة على موعد مع منافسة تضع من جديد الرئيس، جو بايدن، في مواجهة مع، دونالد ترامب، ولن يكون السباق تقليديا، بل سيمثل “صراعا” بين رؤيتين متضادتين لفكرة أميركا ومستقبلها.
ورغم أن بايدن يتمتع بإرث طويل من الخبرة السياسة كرجل مخضرم، له بصماته في السياسة الأميركية على مدى أكثر من 40 عاما، إلا أنه يشترك مع ترامب في أنهما عاشا تجربة الرئاسة الأميركية، ويعرفان جيدا ما يعني أن تكون رئيس أقوى بلد في العالم.
ويقول تحليل نشرته صحيفة نيويورك تايمز، إن المنافسة على الرئاسة الأميركية في انتخابات نوفمبر المقبل، لن تكون تقليدية، بل هي “صراع بين رئيسين مختلفين تماما”، رئيس أميركا الزرقاء، وما يمثله ذلك من اتجاه نحو الانفتاح والليبرالية، مقابل رئيس أميركا الحمراء، الذي يدعم التيار المحافظ في رؤية أميركا داخليا وخارجيا.
ويتوقع محللون ومراقبون ألا تتمكن، نيكي هايلي، من هزيمة ترامب في الانتخابات التمهيدية لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لدخول السباق الرئاسي 2024، وهو ما يعني أن بايدن وترامب سيتواجهان من جديد.
وبناء على هذا الافتراض، فإن الأمة الأميركية ستكون على موعد من هذا “الصراع” الذي يستمِد جذوره من انتخابات 2020، والتي تمكن فيها بايدن من إخراج خصمه ترامب من البيت الأبيض، رغم أن الأخير لا يزال حتى اللحظة لا يعترف بالهزيمة، ورفض تسليم السلطة لخلفه بايدن وفق الأصول المعمول بها في البلاد.
ويقول تحليل نيويورك تايمز إن بايدن وترامب “يمارسان السلطة” بشكل مختلف، فبايدن هو الرئيس الحالي، وصاحب السلطة الشرعية في البيت الأبيض، ما يجعله يتمتع بكل مزايا وعيوب الجلوس في المكتب البيضاوي. أما ترامب فلا يزال، وفق التقرير، يتصرف كـ “رئيس حالي”، وقد وضع أجندة الجمهوريين في واشنطن وعواصم الولايات الأميركية.
كما شجع ترامب “الانقلاب الداخلي” الذي أطاح برئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، العام الماضي، بعد أن أبرم صفقة مع بايدن بشأن الموازنة وتمويل الحكومة، وهذا يعني أن لترامب تأثيرا يحاول استخدامه كسلطة.
ويقول التحليل إن ترامب يقدم المشورة لرئيس البرلمان الحالي، مايك جونسون، حول كيفية التعامل مع ملف سياسة الحدود والمساعدات الأمنية لأوكرانيا، أي أن له سلطة في المفاوضات التي تجري بين البيت الأبيض ومجلس النواب.
رؤيتان مختلفتان
إن التنافس بين بايدن وترامب يدور حول “رؤيتين متباينتين” إلى حد كبير لأميركا، حيث يرى بايدن أميركا تحتضن التنوع والمؤسسات الديمقراطية والأعراف التقليدية، والتي تعتبر الحكومة في أفضل حالاتها قوة من أجل الخير في المجتمع. فيما يقود ترامب ثورة على ما يعتبره “النظام الفاسد بسبب المؤامرات المظلمة، وتفضيل من لا يستحقون على الأشخاص العاديين الذين يعملون بجد”، وفق تحليل نيويورك تايمز.
لكن في الشارع الأميركي، لدى أكثر من نصف المواطنين آراء سلبية تجاه ترامب (77 عاما)، وبايدن (81 عاما) في استطلاعات الرأي العامة.
ويقول أكثر من نصفهم إنهم “غير راضين” عن الاختيار بينهما، بل إن أغلبية أكبر تعارض أن يترشح كل منهما لرئاسة أميركا في انتخابات 2024.
وفي استطلاع للرأي أجرته جامعة مونموث في ديسمبر، قال ما يقرب من نصف المشاركين إنهم “بالتأكيد لن يصوتوا” لأي من الرجلين، كما أن 7 بالمئة آخرين “ربما لن يصوتوا” لبايدن، في حين أن 8 بالمئة آخرين “ربما لن يصوتوا” لترامب.
ويقول تقرير لصحيفة واشنطن بوست إن حملتي ترامب وبايدن تدركان هذه الديناميكية في مزاج الشارع الأميركي.
وإلى حد ما، تعوَّد الأميركيون على استراتيجية ترامب التي تركز على مهاجمة معسكر خصمه بايدن، وكَيْل الاتهامات التي تشكّك في قدرات الرئيس الحالي الصحية والذهنية، إلى جانب اتهام إدارة بايدن بالوقوف خلف الملاحقات القضائية الفيدرالية ومحاكمات الولايات التي يخضع لها، رغم من عدم وجود دليل على ارتباط بايدن بأي قرارات أو إجراءات قضائية بخصوص اتهام ترامب بمجموعة من الجرائم.
على الجانب الآخر، تجنب بايدن ذكر ترامب بالاسم في وقت مبكر من رئاسته، لكن ذلك تغير بشكل كبير هذا العام، حيث قال بايدن في خطاب ألقاه مؤخرا في بنسلفانيا، والذي ألقى باللوم على كلمات ترامب في أعمال الشغب التي وقعت في الكابيتول في 6 يناير، إن حملة ترامب “تدور حوله وليس أميركا، وليس أنت” في إشارة إلى أن ترامب يهتم بنفسه وليس بالبلاد أو الشعب الأميركي.
وألقى بايدن خطابا آخر، الأسبوع الماضي، أدان فيه منافسه المتوقع في انتخابات 2024 معتبرا أن ترامب يشكل “تهديدا” للديمقراطية الأميركية. واتهم بايدن خصمه ترامب بأنه “يضحّي بالديمقراطية الأميركية، من أجل أن يصل إلى السلطة”.
هل هي انقسامات جديدة؟
إن الانقسامات العميقة في الولايات المتحدة ليست جديدة، بل تعود إلى الاجتماع الدستوري، الذي عقد عام 1787، في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وأيضا أيام، جون آدامز، في مواجهة، توماس جيفرسون، وفق نيويورك تايمز.
لكن تنقل الصحيفة عن خبراء قولهم إنه نادرا ما وصلت هذه الانقسامات إلى المستويات التي تشهدها أميركا اليوم، حيث تبتعد أميركا الحمراء (الجمهوريون) عن الزرقاء (الديمقراطيون) جغرافيا وفلسفيا وماليا وتعليميا ومعلوماتيا.
وتشير الصحيفة إلى أن الأميركيين لا يختلفون مع بعضهم البعض فحسب، بل أنهم يعيشون في واقع مختلف، ولكل منهم محيطه البيئي الخاص بالإنترنت والإعلام الذي يعزز نفسه بنفسه.
وتكشف بيانات مركز بيو للأبحاث، أنه ومنذ انتخاب ترامب، في عام 2016، ارتفعت نسبة الديمقراطيين الذين يرون أن الجمهوريين “غير أخلاقيين” من 35 بالمئة إلى 63 بالمئة. كما تشير بيانات المركز إلى أن 72 بالمئة من الجمهوريين يرون الشيء ذاته في الديمقراطيين، ارتفاعا من 47 بالمئة.
ويعكس الانقسام الحالي عملية إعادة الاصطفاف السياسي الأكثر أهمية منذ استولى الجمهوريون على جمهور الجنوب والديمقراطيون على جمهور الشمال في أعقاب تشريع الحقوق المدنية في الستينيات.
ومن التأثيرات التي أوجدتها قيادة الرجلين للحزبين الأساسيين في أميركا، وتنافسهما على السلطة، أن ترامب حوَّل الحزب الجمهوري إلى حزب الطبقة العاملة البيضاء، المتجذّر بقوة في المجتمعات الريفية والمستاء من العولمة. في حين أصبح الديمقراطيون بقيادة بايدن على نحو متزايد حزب الأشخاص الأكثر تعليما والأفضل حالا اقتصاديا، والذين ازدهروا في عصر المعلومات والتكنولوجيا والانفتاح، وفق تحليل نيويورك تايمز.
وتنقل نيويورك تايمز عن، دوغلاس بي. سوسنيك، الذي كان مستشارا للرئيس السابق، بيل كلينتون، وهو متخصص في الاتجاهات السياسية: “لم يكن ترامب هو السبب في عملية إعادة التنظيم هذه، لأنها كانت تتشكل منذ أوائل التسعينيات”.
ويضيف أن انتصار ترامب، في عام 2016، ورئاسته “أدت إلى تسريع هذه الاتجاهات. وتعتمد عملية إعادة التنظيم هذه إلى حد كبير على الفائزين والخاسرين في الاقتصاد الرقمي الجديد للقرن الحادي والعشرين، وأفضل مؤشر على ما إذا كنت فائزا أم خاسرا هو مستوى تعليمك”.
اتجاهات المنافسة في 2024
والتباين الكبير في رؤيتي بايدن وترامب لأميركا تسبب في ديناميكية نشطة أدت إلى تلّقبات كبيرة في مزاج الشارع الأميركي، وبالتالي أحدث هذا الأمر تغييرات في اتجاهات المنافسة.
وكان الاتجاه السائد في البداية، أن ترامب هو المرشح الجمهوري الذي سيسهُل على بايدن هزيمته كما فعل في عام 2020.
ولكن مع بدء استطلاعات الرأي هذا العام في إظهار قوة ترامب ليس فقط بين الجمهوريين، ولكن في المنافسات المباشرة مع بايدن بين الناخبين غير المنحازين، أصبحت حملة الديمقراطيين قلقة بشكل متزايد.
كان أحد ردود الفعل على هذا التحول المقلق من تقدم ترامب، أن أُلقيَ اللوم في مسألة انخفاض معدلات تأييد بايدن على ضعف جهود قادة حملته في تسليط الضوء على إنجازات بايدن، إذ “ربما لا يعرف كثير من الأميركيين الأشياء الجيدة التي فعلها الرئيس الحالي”.
وصرّح كبار الديمقراطيين بأن العديد من إنجازات بايدن، بما في ذلك القوانين الجديدة المتعلقة بالبنية التحتية والتصنيع، وتخفيف ديون الطلاب وتخفيف أزمة كوفيد-19، لم تصل بعد إلى الناخبين، مما أدى إلى انخفاض معدلات التأييد وارتفاع مستوى استياء الناخبين.
ولن يكون طريق بايدن إلى النصر سهلا. ويعترف مستشارو حملته بأن السباق هذا العام سيكون متقاربا للغاية، ويقولون إن جهودهم ستتسارع خلال الأسابيع المقبلة.
ويواجه بايدن حزبا كان، بحسب استطلاعات الرأي، يفضّل مرشَّحا مختلفا غير ترامب. كما أن الانقسامات داخل ائتلافه، والتي كانت أكثر وضوحا بشأن الحرب في غزة، امتدت إلى الرأي العام بشكل متزايد، وفق تقرير لشبكة سي إن إن.
والثلاثاء، ظهرت التصدعات بشكل واضح خلال خطاب ألقاه بايدن في ولاية فرجينيا حول حقوق الإجهاض، حيث تمت مقاطعة بايدن أكثر من 12 مرة من قبل أشخاص كانوا يحتجون على الحرب في غزة.
والأربعاء، حصل بايدن على الدعم الرئيسي من اتحاد عمال السيارات المتحدين، الذي أحجم في البداية عن تأييده وسط مخاوف بشأن توجهه نحو السيارات الكهربائية.
وسيسافر بايدن إلى ولاية ويسكونسن التي تمثل ساحة المعركة للترويج لاستثمارات البنية التحتية.
ويرى حلفاء بايدن علامات على تحول قادم، فمعنويات المستهلكين تتحسن، والتضخم آخذ في التراجع، والأجور آخذة في الارتفاع، وكل ذلك يوفر التفاؤل داخل حملة بايدن الانتخابية بأن آراء الأميركيين حول الاقتصاد يمكن أن تعود قريبا للمؤشرات الإيجابية التي كانت عليها منذ فترة طويلة، وفق سي إن إن.
ومِثل جميع شاغلي المناصب، ناضل بايدن في بعض الأحيان للخروج من فقاعة البيت الأبيض، وضمان قضاء بعض الوقت مع الناخبين.
لكن حرب غزة استهلكت بايدن في الأشهر الأخيرة من عام 2023، وكان الرئيس يتحدث لزملائه الديمقراطيين أنه كان يقضي ما يصل إلى 75 بالمئة من وقته في التعامل مع القضايا الخارجية. وهذا ما دفع حملته للتفكير بخطط بديلة تعدِّل هذا المسار وتجعل بايدن متوفرا بشكل أكبر للتواصل مع جمهور الناخبين، خاصة أن ترامب يكثف من جهوده لإقناع الناخبين بأنه يحمل رؤية “تراعي مصالحهم، وتعيد أميركا لقوتها”.