سكان تحت الصدمة يروون اللحظات الأولى لكارثة درنة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل في درنة، والعاصفة دانيال تضرب بقوة في شرق ليبيا، عندما سمع عبد المنعم عوض الشيخ (73 عاما) صراخا، فقفز من سريره ليفاجأ بالمياه وقد غمرت المكان، وأمواجا تخلع أبواب بيته وتُغرق كل شيء.

كان الشيخ يروي قصة نجاته وعائلته من الكارثة التي أدت لمقتل وفقدان الآلاف، بينما كان يجلس على درج مبنى بيته المحطّم متأملا الدمار الممتد أمام ناظريه، وآثار الصدمة لا تزال بادية على وجهه.

يروي الشيخ في مقابلة أجرتها معه وكالة الأنباء الفرنسية، أنه كان في سريره عندما تناهى إلى سمعه صراخ قادم من الخارج، ويقول، “خرجت من المنزل ولم آخذ معي أي شيء سوى نظارتي وهاتفي الجوال، وعندما خرجت وجدت المياه تُزلزل أبواب البيوت الحديدية” في المبنى.

شاهد الرجل السبعيني باب أحد البيوت في المبنى وهو يُخلع بفعل تدفّق المياه. كان الشيخ يقطن في شقة بالطابق الأول مع زوجته، وكان اثنان من أبنائه يسكنان مع عائلتيهما في المبنى نفسه في طابقين أعلى. صعد مع زوجته إلى الطابق الرابع طلبا للنجاة. وما هي إلا دقائق، حتى بدأت المياه في الانحسار والتوجه نحو مجرى الوادي القريب، حسب قوله.

لكن ذلك لم يكن نهاية الكابوس.

يقول عبد المنعم الشيخ، “بعد حوالى ثلث ساعة، صاح ابني من الطابق الأعلى يقول، إن موجة أخرى قادمة، وهي أكبر من الأولى، وارتفاعها يبلغ نحو 20 مترا”.

في الليلة التي يتحدث عنها عبد المنعم الشيخ، كانت الأمطار الغزيرة التي تساقطت بكميات هائلة على مناطق في شرق ليبيا ليل الأحد ويوم الاثنين 11 أيلول/سبتمبر الجاري، جراء العاصفة “دانيال” قد تسببت في انهيار سدّين في درنة، مما أدى إلى تدفّق أطنان من المياه بقوة كبيرة في مجرى وادي درنة، لتجرف معها أجزاء من المدينة بأبنيتها وبناها التحتية. وبلغ ارتفاع المياه التي تدفقت من السدود لأمتار عدة، مما جعل بعض المنكوبين يصف ما حدث بأنه “تسونامي”، دمر كل ما جاء في طريقه، وحطّم الجسور التي تربط شرق المدينة بغربها.

درنة لا تزال تلملم جراحها وتبحث عن قتلاها في البحر وتحت ركام المباني المهدمة بعد أسبوع من الكارثة (الصحافة الفرنسية)

نجاة بسلم خشبي

يوضح عبد المنعم الشيخ، أنه صعد مع عائلته بعد التحذير الذي أطلقه ابنه، إلى الطابق الخامس وانتقلوا جميعا إلى سطح منزل جاره الذي كان ابن عمه. ويضيف “وضعنا سلّما خشبيا وانتقلنا إلى السطح الثاني، وجلسنا إلى ما بعد الفجر، عندما جاء إلينا شباب وساعدونا”، مشيرا الى أن أحد الشباب المتطوعين الذين أنقذوه وعائلته فقد كل عائلته في الكارثة.

قصة هذا الناجي السبعيني تشبه حال كثير من الناجين في مختلف أنحاء درنة، ممن عادوا إلى بيوتهم بعد الفرار إلى أماكن قريبة، لتفقّد الأضرار الجسيمة التي لحقت ببيوتهم.

من الناجين الذين عاشوا ليرووا لحظات الفاجعة المريرة، المواطن الليبي محمد الزاوي (25 عاما) الذي يقول، عندما عدنا إلى البيت كانت أغراضنا الشخصية وأثاثنا كله يطفو فوق المياه.

ويوضح أن الموجة الأولى لم تتجاوز مستوى الرصيف ولم تدخل إلى المنازل، لكن الموجة الثانية كانت قوية للغاية، ووصلت مياهها المندفعة إلى الطابق الثاني في المبنى الذي كان يسكنه. ويوضح أن طوفان المياه المتدفقة “جلبت معها سيارات وأغراضا وأشخاصا داخل سيارات، ثم قذفت كل شيء في البحر”.

ويواصل محمد الزاوي استرجاع ما حصل في ذلك اليوم العصيب فيقول، “تلقّينا تحذيرات قبل ذلك بيوم واحد من أن أمطارا قوية متوقعة، وأنه يجب أن نبقى في المنازل، لكن لا شيء غير ذلك”.

كان محمد يتحدث وهو جالس في الشارع أمام منزله يتأمل مشهد الدمار، وملامحه تشي بحجم الصدمة التي لا يزال تحت تأثيرها، وقد نجا هو وعائلته المكونة من 9 أفراد بعدما تمكنوا من الصعود إلى سطح منزلهم المكوّن من طابقين، الذي لا يمكن الخروج منه سوى عبر الطابق الأول، بعد أن انخفض مستوى المياه، فنزلوا إلى الشارع.

يقول الزاوي، إنه شاهد ما بين 25 و30 جثة قرب منزله عندما انحسرت المياه وخرج من بيته. انشغل بالبحث عن أغطية لتلك الجثث، قبل أن ينطلق لتفقد جيرانه في الحي، وما إذا كانوا يحتاجون إلى مساعدة.

فرق الإنقاذ لا تزال تواصل عملها رغم تضاؤل الآمال في العثور على ناجين واستمرار انتشال الجثث (الفرنسية)

“رأيتُ الموت”

في ظل الصعوبات التي تكتنف الوصول إلى بعض الأماكن في درنة المنكوبة، وضعف الاتصالات واكتظاظ المكان بفرق الإغاثة والفوضى التي سادت المدينة جراء الكارثة وتداعياتها، لا تزال المعلومات متضاربة بشأن حصيلة الضحايا الذين سقطوا في درنة. وقد أشارت مصادر رسمية -مساء أمس الأحد- إلى أن عدد القتلى جراء فيضانات درنة بلغ 3283 قتيلا، في حين حذّرت منظمات إنسانية دولية ومسؤولون ليبيون من أن الحصيلة النهائية قد تكون أعلى بكثير؛ بسبب عدد المفقودين الكبير الذي يقدّر بالآلاف، حيث تقدر الأمم المتحدة أعداد القتلى بنحو 11300 إضافة لأكثر من 10 آلاف مفقود.

قصة ناج آخر، هو اللبناني محمد عبد الحفيظ (50 عاما)، الذي يقطن في الحي نفسه مجاورا محمد الزاوي منذ عقود. ويقول، “رأيت الموت، لكن لا يزال في العمر بقية”.

يقول محمد عبد الحفيظ، إنه كان نائما عندما شعر أن الأرض قد اهتزّت، فاعتقد للوهلة الأولى أن ما يحدث هزة أرضية. ونادى شقيقته ووالده داعيا إياهما للنزول إلى الشارع، لكنه سرعان ما عدل عن ذلك عندما خرج إلى شرفة بيته في الطابق الثالث، ورأى أن المياه قد وصلت إليها.

صعد الثلاثة إلى الطوابق العلوية في المبنى، وجلسوا ساعة ونصف الساعة بانتظار انخفاض مستوى المياه.

بين جدران متشققة، يحمل محمد عبد المنعم “جلابيته” بيد ويتكئ على جدار مكسور، ويمشي بصعوبة بين الحطام متوجّها إلى إحدى غرف البيت الذي تحطّمت نوافذه، وسقطت بعض جدرانه.

أمام نافذة مخلّعة، لم يبق منها سوى هيكلها الإسمنتي، يشير بيده إلى مشهد الدمار في الخارج، ثم يقول، “المساحة هذه من بيتي حتى الوادي، كانت فيها 3 أو 4 عمارات، الآن ليس هناك أي شيء، الأرض تراب وكأنه لم تكن هناك يوما مبانٍ”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *