قبل انتخابات الرئاسة والبرلمان في تركيا في شهر مايو الفائت، التقى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بزعيم حزب “الرفاه من جديد” فاتح أربكان، وبعدما تصافحا والتقطا الصور أعلن الأخير دعمه للرئيس التركي في المنافسة التي خاضها بمواجهة زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو.
تمكن إردوغان من الفوز وحظي حزبه (العدالة والتنمية) مع حليفه القومي (الحركة القومية) بالأغلبية في البرلمان، ويستعدان الآن سويا لخوض استحقاق الانتخابات المحلية المقرر تنظيمها بعد خمسة أيام، لكن دون التحالف مع أربكان.
السياسي المذكور، وهو ابن نجل رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان، اختار خوض المنافسة منفردا، في تحوّل مفاجئ للموقف الذي كان عليه قبل أشهر.
ورغم أن هذه الحالة تبدو اعتيادية بالنظر إلى ما تعيشه تركيا من تغيرات باستمرار على صعيد المواقف والتصريحات، تثير الكلمات التي بات يطلقها الآن تساؤلات بشأن الأسباب التي دفعته للانقلاب عن الدعم والانخراط في التحالف الحاكم.
لا تقتصر الصورة المذكورة على ضفة الحكومة والحزب الحاكم فحسب، بل تشابه أخرى ارتسمت معالمها خلال الأيام الماضية على جانب أحزاب المعارضة، وباتت أمرا واقعا مع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات في 31 من مارس الحالي.
ففي عام 2019 تحالفت زعيمة “حزب الجيد”، ميرال أكشنار مع “حزب الشعب الجمهوري” وكان لها دور أساسي في فوز عمدتي إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش.
وبعدما اتبعت ذات المسار في انتخابات الرئاسة والبرلمان الماضية، بدعمها لكليتشدار أوغلو مقابل إردوغان، انقلبت على موقفها بخصوص الانتخابات المقبلة، وقررت خوضها بشكل منفرد وبقيادة أسماء تخص حزبها فقط.
هاجمت أكشنار عمدة أنقرة قبل أيام، وهو الذي تحالفت معه في السابق، وحتى أنها اشترطت على كليتشدار أوغلو في مايو الماضي أن يضعه في منصب نائب الرئيس قبل أن يخوض الأخير المنافسة ويخسر أمام إردوغان.
“آخر انتخابات لي”.. ما “الرسائل” التي تحملها كلمات إردوغان ومن أبرز المرشحين لخلافته؟
اعتبر محللون أتراك أن تصريحات أردوغان سببها الأول هو أنه بموجب الدستور لن يتمكن من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبل بعد 4 سنوات، بجانب أنه لو قرر الترشح مجددا مع نهاية الفترة الرئاسية لخلفه القادم، ربما يبدأ حينها ولاية وعمره 80 عاما، وبالتالي “لا العمر ولا الدستور يسمحان”.
وكذلك الأمر بالنسبة لأربكان الذي وصل الأمر به خلال اليومين الماضيين لمهاجمة الحكومة وانتقاد موقفها وموقف “العدالة والتنمية” فيما يحصل في غزة، وعلى صعيد علاقات البلاد التجارية مع إسرائيل.
وبعدما قال في أحد خطاباته إن عدد أعضاء حزبه وصل إلى 500 ألف عضو، وإنهم وصلوا إلى 240 ألف عضو جديد خلال الـ6 أشهر الماضية، أضاف موجها حديثه للحزب الحاكم: “نحن لا نجعلكم تخسرون. تجارتكم مع إسرائيل تجعلكم تخسرون”.
كيف تبدو خارطة المنافسة؟
ومن المقرر أن يشارك في الانتخابات ما مجموعه 61 مليونا و441 ألفا و882 ناخبا مسجلين لدى “الهيئة العليا للانتخابات” (YSK)، وتوضح الأخيرة أيضا أن الأحزاب السياسية المشاركة يبلغ عددها 34 حزبا.
وستبدأ عملية الاقتراع صباح يوم 31 من مارس الحالي، وسيكون اليوم الأول من أبريل تاريخا جديدا على صعيد بلديات المقاطعات، خاصة إسطنبول التي دائما ما ينظر إليها بعين الأهمية، إلى جانب أنقرة العاصمة السياسية لتركيا.
ويحاول حزب “العدالة والتنمية” الحاكم برئاسة إردوغان في الانتخابات المقبلة استعادة إرثه في إسطنبول، وكان قد رشح لهذا الغرض مراد قوروم، القادم من وزارة البيئة والتحضر العمراني.
وفي المقابل يسعى “حزب الشعب الجمهوري”، وهو أكبر أحزاب المعارضة، إلى تبديد آثار الخسارة التي مني بها قبل أشهر، ويعمل على كسب جولة انتصار ثانية، ليحظي بكرسي رئاسة البلدية، وباسم أكرم إمام أوغلو.
لكن ما بين هذين الاسمين كانت أحزاب عدة قد رشحت شخصيات لخوض المنافسة على كرسي عمدة إسطنبول، ومدن أخرى، من بينها “حزب الجيد” الذي تتزعمه أكشنار و”الرفاه من جديد” الذي يتزعمه أربكان، فضلا عن أحزاب أخرى بينها “حزب النصر” و”حزب اليسار”، “حزب السعادة”.
ما الذي تغيّر؟
يعتقد الصحفي التركي، إبراهيم أباك أن غياب التحالفات في الانتخابات القريبة مقابل إعلانات المنافسة الفردية ترتبط بفكرة أن “كل حزب يريد أن يرى معدل التصويت الحقيقي الخاص به”.
وقال أباك لموقع “الحرة”: “ذلك أحد الأسباب التي دفعت أحزاب أخرى غير (تحالف الجمهور) أي حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إلى دخول الانتخابات بمرشحيها الخاصين”.
الصحفي التركي يرى أيضا أن المواقف التي اتخذها “حزب الشعب الجمهوري” خلال الفترة الأخيرة، “التي لم تكن جيدة” على حد تعبيره، دفعت أحزابا كانت متحالفة معه في السابق للابتعاد عنه، وعلى رأسها “حزب الجيد”.
ويتفق الباحث في الشأن التركي، محمود علوش، مع فكرة أن الأحزاب الصغيرة في تركيا تسعى الآن إلى اختبار شعبيتها، وهو ما دفعها للدخول في المنافسة بشكل منفرد.
علوش يطرح مثالا يتعلق بأحزاب “السعادة” و”المستقبل” و”الديمقراطية والتقدم”، ويقول لموقع “الحرة” إنها “ستحاول في الانتخابات المقبلة اكتشاف نسبة التأييد لها، لأنها ومنذ التأسيس لم تفعل ذلك”.
وكانت هذه الأحزاب دخلت إلى البرلمان من قوائم “حزب الشعب الجمهوري”، بعدما تحالف زعماؤها مع كليتشدار أوغلو.
والآن، إلى جانب أحزاب أخرى “يتطلعون إلى انتخابات 2028، ويرون أنهم كلما تمكنوا من إظهار حجمهم التمثيلي، كلما تحولوا إلى رقم صعب بعد 4 سنوات”، وفق حديث الباحث علوش.
لماذا انفرط عقد المعارضة؟
وكان إمام أوغلو (عمدة إسطنبول الحالي) قال بعد إعلان ترشيح مراد قورم عن التحالف الحاكم (الجمهور) إن انتخابات رئاسة البلدية “ستوجه رسالة إلى حكومة إردوغان بشأن رغبة الشعب التركي في الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون”.
وبينما أقر بأن الانتخابات هذه المرة ستكون أصعب من السابقة التي فاز فيها على بن علي يلدريم في 2019، أشار إلى أن “أحزاب المعارضة لم تعد متحالفة في مواجهة مرشحي حزب العدالة والتنمية الحاكم”.
ويشير الباحث التركي علوش إلى مجموعة من الأسباب التي أدت لانهيار العلاقة داخل تحالف أحزاب المعارضة.
السبب الأول “الصراع الهوياتي والإيدولوجي” الذي كان مجمدا في الفترة الماضية، كون المعارضة وأحزابها كانت تجتمع على هدف وحيد وأساسي هو إسقاط حكم إردوغان.
ومع فشل تحقيق الهدف “أصبح الصراع المذكور يطغى بشكل أساسي على العلاقة بين مكونات ائتلاف المعارضة”، حسب الباحث.
ويتحدث عن سبب ثانٍ يتعلق بالسياسية المعارضة ميرال أكشنار، ويعتقد أنها “تريد من خلال سياسة العداء الجديدة مع حزب الشعب الجمهوري أن تستعيد الهوية الأساسية لحزبها، كقومي معارض”.
كما تريد أن تعزز دوره الجديد (لحزب الجيد) في الحياة السياسية كبديل عن الثنائية التقليدية، المتمثلة بحزبي “العدالة والتنمية” و”حزب الشعب الجمهوري”.
“أكشنار ترى أن التحالف السابق مع الشعب الجمهوري، خصوصا ما بعد 2019، أدى إلى دفع حزبها لاتخاذ مواقف متناقضة فيما يتعلق بالمكون الكردي”، كما يتابع علوش.
ويضيف أنها “تراهن اليوم على عملية الانفصال عن حزب الشعب من زاوية الدور الذي قد يلعبه ذلك في الحياة السياسية الجديدة لحزبها”.
“ساحة اختبار”
ولا يعرف حتى الآن من سيكون الأوفر حظا مقابل من.
ورغم النتائج التي تنشرها مراكز استطلاع الرأي بين الأسبوع والآخر فإنها لم تعد تحظ باهتمام داخل الشارع التركي، نظرا لمفاجئة الأرقام والنسب التي ظهرت في الانتخابات الماضية.
ويوضح الصحفي التركي أباك أن المواطنين في الانتخابات المحلية “دائما ما يدعمون الأفراد الذين خدموا في مدينتهم ومنطقتهم، بغض النظر عن أسماء الأحزاب التي ينتمون إليها”.
وحتى لو كانت البلديات التي تنتمي إلى نفس الحزب الحاكم تتمتع بأساليب عمل أسهل، أو إدارة أفضل، فإن المرشحين المستقلين لديهم فرصة أكبر في بعض المناطق، حسب أباك.
ويضيف: “الحقيقة ما يجري أن كل حزب سيختبر نفسه من جديد”.
“ربما تتغير قيادات البعض وربما يغلق البعض الآخر وينسحب من الساحة السياسية. على سبيل المثال في إسطنبول”، وفق الصحفي.
ويتابع أنه “بصرف النظر عن حزب الشعب الجمهوري وتحالف الجمهور، سيتم تحديد مدى تأثير الأصوات التي سيحصل عليها حزب الجيد وحزب الرفاه من جديد بعد الانتخابات”.
ومن المتوقع بعد ذلك أن توجه معدلات التصويت التي ستحصل عليها الأحزاب القادة وتجعلهم يفكرون “خلال وضع الاستراتيجيات في الانتخابات المقبلة، وعند حظة العودة إلى التحالفات”، كما يوضح الصحفي التركي أباك.
هل من ملامح متوقعة؟
ولكي تفوز زعيمة “حزب الجيد” أكشنار يجب على ناخبيها في إسطنبول وأنقرة التصويت للمرشحين الذين اختارتهم، كما يقول الكاتب التركي في صحيفة “حرييت”، عبد القادر سيلفي.
الكاتب اعتبر أن السياسية القومية باتت تخوض “حربا داخلية”، وبعدما قررت المنافسة بشكل فردي وبعيدا عن أي تحالف مع “حزب الشعب”.
ويوضح: “إذا دعمت قاعدة حزبها إمام أوغلو ومنصور يافاش يمكن اعتبار ذلك خيانة”، مما سيؤثر على مستقبلها السياسي.
الباحث التركي علوش يضيف أنه “في حال لم تستطع أكشنار المحافظة على التأييد الشعبي في الانتحابات المقبلة، ستكون أمام مخاطر وجودية، ربما ستؤدي إلى انهيار حزبها (الجيد)”.
ويرى من جانب آخر أن “خارطة المنافسة الحالية تضر بأكبر أحزاب المعارضة (الشعب الجمهوري)”.
كما يعتقد علوش أنها “تقوض من قدرته على الحفاظ على زعامته في المدن الكبرى ولاسيما إسطنبول”.
وبالنسبة لـ”العدالة والتنمية” وحزب “الرفاه من جديد” يقول الباحث إن التحالف بينهما في السابق تشكّل “بناء على مصالح وأهداف مشتركة”.
ويتطلع حزب أربكان اليوم إلى “استقطاب الأصوات المحافظة الممتعضة من العدالة والتنمية، التي لا تريد التصويت لحزب الشعب الجمهوري”.
وكان قد استطاع خلال الانتخابات الماضية الحصول على 3 بالمئة من الأصوات، وفق علوش.
ويضيف: “يريد الآن التحول لقوة سياسية تعبّر عن الأصوات المحافظة خارج كنف العدالة والتنمية”.
المحلل السياسي التركي، جواد غوك يشير إلى أن “أحزاب المعارضة لم تعد تقبل التجانس في الانتخابات المحلية الحالية لأسباب ترتبط بشدة الهزيمة في انتخابات الرئاسة والبرلمان”.
“الكل يتذمر من الآخر”، ورغم أن غوك لا يستبعد حصول تأثيرات سلبية على جبهة المعارضة في حديثه لموقع “الحرة”، فإنه يقول إن “أوساط الحكومة تغيب عنها الحماسة”.
ويوضح أن “غياب الحماس يرتبط بغلاء الأسعار والوضع الاقتصادي الصعب، والذي لم يتم تبديد آثاره حتى الآن”.