ينتمي يوسي ليفي إلى طائفة اليهود الحريديم الذين يتسبب إعفاؤهم من الخدمة العسكرية الإلزامية في انقسام داخل إسرائيل ويهدد بإسقاط حكومتها.
وليفي أيضا ضابط احتياط برتبة ميجر في قوات المشاة بالجيش الإسرائيلي.
ويُعفى اليهود الحريديم من التجنيد الإلزامي في الجيش الإسرائيلي منذ فترة طويلة، لكن هذا الأمر أثار، في الأسابيع القليلة الماضية، موجات احتجاج من الإسرائيليين العلمانيين الغاضبين من تحملهم المخاطر بينما يخوضون غمار الحرب في غزة التي اندلعت قبل ما يزيد على ستة أشهر. واشتبك متظاهرون من الحريديم في الشوارع مع أفراد من قدامى المحاربين كانوا يرتدون قمصانا بألوان الزي العسكري ويرفعون أعلام إسرائيل.
وقال ليفي إنه في واقع الأمر يتقدم نحو 10 بالمئة من الحريديم طوعا لأداء الخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات، وينضم البعض منهم مثله.
ويشي ذلك بتطوع ما يصل فقط إلى 1220 من الحريديم سنويا، وهو عدد ضئيل مقارنة بما يقدر بنحو 170 ألف جندي في الخدمة ونحو 500 ألف في قوات الاحتياط بإسرائيل. ولا ينشر الجيش الإسرائيلي أعداد القوات.
لكن ليفي الذي يدير منظمة “نيتسح يهودا” التي تشجع على تجنيد الحريديم، يقول إن المواقف إزاء الخدمة العسكرية تشهد بعض اللين حاليا داخل بعض أجزاء مجتمع الحريديم في ظل الحرب، ويأمل أن يكون ذلك كافيا لتهدئة الأزمة الحالية.
وقال الرجل، البالغ من العمر 33 عاما، في مقره بالقدس الذي علق على أحد جدرانه صور القتلى من العسكريين المنتمين لمجتمع الحريديم “يمكننا زيادة عددهم إلى المثلين أو ثلاثة أمثال في غضون عام أو عامين، وسيكون بالجيش الإسرائيلي كثيرون من الحريديم وسيكون ذلك كافيا… هم لا يريدون كل الحريديم”.
وخرج الآلاف من الإسرائيليين الغاضبين إلى الشوارع مطلع الأسبوع الماضي، وكثير منهم من جنود الاحتياط، للمطالبة بإقالة رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، الذي تعتمد حكومته في بقائها على دعم الحريديم.
وتبذل الأحزاب السياسية المحسوبة على تيار الحريديم جهودا حثيثة لإبقاء ناخبيها داخل المعاهد الدينية وبعيدا عن الجيش الإسرائيلي. فهي ترى أن في الانضمام إلى الجيش انحرافا عن التوراة والتلمود وأن في الاختلاط بين الجنسين، وغير ذلك من الأوجه التقدمية، إهانة لأعرافهم المحافظة.
ويعود إعفاؤهم من التجنيد الإلزامي إلى وقت نشأة دولة إسرائيل في عام 1948، وكان ذلك لأسباب منها إعادة نشاط السلالات الحاخامية التي دُمرت خلال المحرقة. لكن الإعفاء أثار انتقادات مع النمو السريع لعدد الحريديم.
ووصلت حدة الأزمة في هذه القضية إلى ذروتها مع تعليق الدعم الحكومي للرجال في سن التجنيد داخل المعاهد الدينية بناء على أوامر من المحكمة العليا، اعتبارا من الأول من أبريل الجاري. لكن المحكمة وافقت على طلب نتنياهو مد موعد بدء تنفيذ القرار حتى نهاية الشهر لمواصلة التفاوض حول خطة تأخرت كثيرا لتقاسم عبء الخدمة العسكرية بشكل أكثر عدالة.
وقال مسؤولان حكوميان مطلعان على المحادثات، طلبا عدم الكشف عن هويتيهما بسبب حساسية المعلومات، إن من بين الأفكار التي يجري بحثها زيادة عدد المتطوعين من الحريديم إلى المثلين تقريبا أو 2500 جندي سنويا، على أن تتبع ذلك زيادات أخرى.
وقال أحد المسؤولين إن الجيش الإسرائيلي يفكر في إنشاء مواقع عسكرية حدودية للحريديم يمكن أن تكون في نفس الوقت معاهد دينية، أو تكليف الجنود الحريديم بمهام خفارة تمكنهم من الخروج في إجازات منتظمة.
ويخدم معظم المتطوعين من الحريديم حاليا في سبع وحدات مهيأة لمراعاة احتياجاتهم، ولهم طواقم تدريب من الذكور فقط ويقدم لهم الطعام وفق قواعد صارمة لمراعاة الأطعمة المباحة في العقيدة اليهودية ومحاضرات من حاخامات.
وأحجم الجيش الإسرائيلي عن التعليق على مسألة التجنيد الإلزامي وأحال المسائل المتعلقة بالسياسة إلى الحكومة. ولم يرد مكتب نتنياهو حتى الآن على طلب للتعليق. وقال رئيس الوزراء للصحفيين، في 29 مارس، إن شوطا طويل قُطع في المناقشات داخل مجتمع الحريديم حول التجنيد الإلزامي.
وأضاف “لدينا رغبة حقيقية للتوصل إلى اتفاق وليس للتصادم بينما الحرب على أشدها والنصر بات على بعد مسافة قصيرة”.
وتحدثت وكالة “رويترز” مع ستة مسؤولين حاليين، فضلا عن ثلاث شخصيات على طرفي النقيض من هذا النقاش، أجمعوا على أن فرص التوصل إلى اتفاق بعيدة جدا.
ويقول الكثيرون من الحريديم إنهم لن يقبلوا التجنيد الإلزامي. وخلال احتجاج في الآونة الأخيرة، رُفعت لافتة كتب عليها “الموت أفضل من التجنيد”.
وقال يسرائيل كايا الذي كان ضمن أفراد من الحريديم شاركوا في احتجاج مناهض للتجنيد الإلزامي بالقدس ضم بضع عشرات من المحتجين إن الإسرائيليين العلمانيين “لا يريدون أن نكون متدينين… لذلك نفضل الموت على الالتحاق بالجيش”.
وحذر الحاخام يتسحاق يوسف كبير الحاخامين السفارديم (اليهود الشرقيين) في إسرائيل، والزعيم الروحي لحزب شاس المنتمي لتيار الحريديم، الحكومة في كلمة ألقاها، في التاسع من مارس، من أن الحريديم سيغادرون إسرائيل إذا رأوا أنه سيتم إجبارهم على الالتحاق بالجيش. والسفارديم إحدى فئات مجتمع الحريديم.
وقال الحاخام موتكي بلوي، وهو معلم ديني على صلة بحزب آخر ينتمي للحريديم أيضا، وهو حزب يهودات هتوراه (التوراة اليهودية الموحدة)، إن الغالبية العظمى من الحريديم ما زالوا يعارضون الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي.
وأضاف لرويترز “هذا اضطهاد من أجل الاضطهاد مع وجود لمحة قوية من العداء السياسي تجاه بيبي”، وهو لقب يطلق على نتنياهو. وقال إن أي محاولة لفرض التجنيد الإلزامي ستفشل لأن “عشرات الآلاف من تلاميذ التوراة يفضلون السجن” عن الخدمة بالجيش.
ولن يكون الإبقاء على تجنيد الحريديم طوعيا مرضيا لوزير الدفاع يوآف غالانت المكلف بمهمة تعزيز صفوف الجيش الإسرائيلي المنهك، فعندما تسرب إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، مارس الماضي، مشروع قانون لاتفاق لم ينص على تحديد حصص لقوات الحريديم في الجيش أو على فرض عقوبات جنائية على من لا يلتزم منهم بالخدمة العسكرية، أعلن غالانت أنه وضباط الجيش لن يدعموه.
ويدعم موقف غالانت عضوان ينتميان لتيار الوسط داخل حكومة الحرب التي يرأسها نتانياهو، وهما بيني غانتس وغادي أيزينكوت. وكلاهما من كبار جنرالات الجيش الإسرائيلي السابقين، ويطالبان منذ فترة طويلة بتوسيع شامل لخيارات التجنيد والخدمة الوطنية المدنية لتشمل الأقلية العربية في إسرائيل، وهي حاليا معفاة مثل الحريديم.
وقال مساعد لأحد أولئك الوزراء، تحدث لـ”رويترز” شريطة عدم الكشف عن هويته، مثل جميع المسؤولين الإسرائيليين الستة الذين أطلعوا على مناقشات مسألة التجنيد التي لم تكن علنية “كل المؤشرات تشير إلى أننا نتجه نحو انقسام في الحكومة”. واتفق جميع المسؤولين على أن المناقشات وصلت إلى طريق مسدود وأشار أحدهم إلى احتمال حدوث “انقسام”.
ولم يكشف غالانت وغانتس وأيزينكوت، مثل حزبي التوراة اليهودية الموحدة وشاس، عن خطوطهم الحمراء رسميا. كما أنهم لم يشيروا إلى الأماكن التي يمكن سد الفجوات فيها في الوقت المناسب. ولم يرد الوزراء على طلبات للتعليق على المحادثات.
ومع اقتراب الموعد النهائي لتنفيذ قرار المحكمة العليا، نهاية أبريل الجاري، نظمت حركة إخوان السلاح، وهي مجموعة احتجاجية مناهضة للحكومة تعتمد بالأساس على قدامى المحاربين في الجيش الإسرائيلي، تجمعات احتجاجية داخل أحياء يقطنها الحريديم أدت إلى مشاجرات مع السكان.
وردا على سؤال حول المبادرات التي ربما تحفز الحريديم على الانضمام إلى الجيش، مثل إنشاء مواقع عسكرية خاصة بهم، قال متحدث باسم الحركة “سنؤيد أي حل يتضمن التجنيد الكامل لمجتمع الحريديم سواء في الجيش أو الخدمة الوطنية المدنية”.
وفي حين أن الجيش الإسرائيلي لا ينشر أرقاما عن أفراده، فإنه لم يخف حاجته لمزيد من الجنود.
وسقط ما يقرب من 3800 بين قتيل وجريح في الحرب، وهو ما يساوي لواء كاملا. وقال أحد المسؤولين “والأكثر من ذلك، أننا تنقصنا عدة ألوية”.
ومع احتمالات باستمرار الصراع لأشهر وامتداده إلى جبهات أخرى، يقول العديد من الإسرائيليين إن تماسكهم الوطني يعتمد على التجنيد الإجباري الأوسع نطاقا والأكثر إنصافا.
والحريديم ذوو الملابس السوداء هم الأقلية الأسرع نموا في إسرائيل ويشكلون 13 بالمئة من سكانها، وتشير التقديرات بأن نسبتهم ستصل إلى 19 بالمئة بحلول 2035 نظرا لارتفاع معدل المواليد لديهم.
ووفقا للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وهو مؤسسة بحثية مستقلة مقرها القدس، فإن 66 ألفا من الحريديم قد يكونون الآن مؤهلين للتجنيد في الجيش لكنهم ليسوا كذلك، وهو ارتفاع هائل من 400 تم إعفاؤهم في البداية عند تأسيس الدولة.
وذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست”، في أواخر ديسمبر، أنه من بين إجمالي 20 ألف جندي احتياطي من الحريديم، شارك نحو سبعة آلاف في حرب غزة. وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن هذه ليست أرقاما رسمية ورفض الإدلاء بمزيد من التعليقات.
وقال ثلاثة من المسؤولين الإسرائيليين الستة الذين أجرت “رويترز” مقابلات معهم إن تضييق الخناق على الحريديم سيشكل تهديدا لا يمكن قبوله للعلاقات الحساسة بين المجتمع الديني والدولة. واعترض أحدهم على فكرة مطاردة الشرطة العسكرية لمن يتقدموا للتجنيد في مناطق الحريديم.
واقترح رئيس الوزراء الليبرالي السابق، يائير لابيد، الذي يقود الآن المعارضة البرلمانية دفع الحريديم للتجنيد من خلال حجب الأموال بدلا من السجن.
وقال أمام المشرعين من حزبه العلماني في 11 مارس “إذا لم يتم تجنيدهم، فلن يحصلوا على أموال”.
وتظهر استطلاعات الرأي أن الأغلبية اليهودية في إسرائيل، بما في ذلك الحريديم، لا تزال تؤيد الحرب بقوة، والتي اندلعت بعد هجوم شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر. وتقول إسرائيل إن الهجوم أدى إلى مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز 253 رهينة، لا يزال 129 منهم في غزة.
وتقول وزارة الصحة في غزة إن أكثر من 33600 فلسطيني قٌتلوا منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على القطاع.
ويقول ليفي إن الجنود الحريديم، الذين كان ارتداؤهم للزي العسكري ذات يوم مصدر استياء في بلداتهم، أصبحوا يحظون باحترام أكبر. وأضاف “الكثيرون هناك يزداد دعمهم للجيش الإسرائيلي ويشعرون أن هناك شيئا مختلفا”.
لكن المعلم الديني بلوي لا يرى أن مثل هذا التغيير راجع إلى الصراع. وقال إن من هم أكثر انفتاحا على الجيش الإسرائيلي من مدفوعون في الغالب باعتبارات تعود أصولها لما قبل الحرب مثل العوامل الاقتصادية.
ووجد المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أن معدل الفقر بين الحريديم 34 بالمئة مقارنة مع 21 بالمئة بشكل عام بين السكان. ويقول خبراء الاقتصاد إن من أسباب ذلك أن الكثير من رجال الحريديم يبقون في المعاهد الدينية دون أن يكونوا جزءا من القوى العاملة.
ومع ذلك، فإن معدل الفقر بين الحريديم آخذ في الانخفاض، إذ تشير إحصاءات المعهد إلى أنه كان عند 44 بالمئة في 2019. وهذا مؤشر على الاندماج مع باقي المجتمع، وهو ما قد يكون مرتبطا بالخدمة العسكرية.
وقال الحاخام كارمي غروس رئيس معهد ديريش حاييم الديني “هناك تحول يحدث في عالم الحريديم اليوم. هناك الحريديم المنفتحون.. الحريديم الجدد”.
ويجمع بعض الطلاب في معهد ديريش حاييم بين الدراسات العلمية والتوراتية ومنهم من يواصل بعد ذلك العمل في وحدات التكنولوجيا التابعة للجيش الإسرائيلي التي توفر لهم وظيفة في المستقبل.
وأضاف ليفي إن الحريديم يتعلمون في الوحدات القتالية أيضا مهارات القيادة التي تساعدهم في العثور على وظائف مدنية.
وحذر ليفي وغروس من اتباع أساليب التجنيد الصارمة وقالا إنه يمكن جذب الحريديم بمحفزات.
وأوصى ليفي بمحفزات تستهدف الرجال الحريديم الأقل ملاءمة للدراسات التوراتية التي تمتد لساعات طويلة، قائلا “إذا أردنا أن نكون أذكياء، علينا أن نقسم بين الحريديم الذين يتعلمون التوراة طوال اليوم في المعاهد الدينية والحريديم الذين ليسوا كذلك”.
وفي علامة على التطور عبر الأجيال، أصبح بإمكان الجنود الحريديم العثور على زوجات يتوافقن معهم في التفكير من خلال خدمة تقدمها نيتسح يهودا بعدما كانوا غير مسموح لهم بالزواج من داخل مجتمعاتهم في السابق. وفي السنة الأولى من تأسيسها، تمكنت الخدمة بالفعل من تزويج العشرات، وفقا لما قاله متحدث باسم نيتسح يهودا.
وقال ليفي “بعد 20 عاما من العمل مع مجتمع الحريديم، يمكننا أن نرى الكثير من الفتيات اللاتي يرغبن في التعرف على الجنود”، في إشارة إلى الحريديم الذين أدوا الخدمة العسكرية وحافظوا على قيم مجتمعهم.
وأضاف “إنهن (النساء اللاتي يستخدمن الخدمة) يردن هذا النوع من الرجال”.
وقال غروس إن بعض الآباء من الحريديم يشعرون بالقلق من أن تصبح بناتهم العائل الوحيد لأسرهن من خلال الزواج من طالب في مدرسة دينية، مشيرا إلى أن هذا مما أسهم في تخفيف الرفض لخدمة الرجال في الجيش الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإن عدد من يتأصل فيهم تبجيل الجيش من الحريديم قليل، وذلك على عكس غالبية المجتمع الإسرائيلي الذي غالبا ما ينشأ فيه الأطفال على ثقافة الحرب على يد آبائهم أو إخوتهم الأكبر سنا.
ودفعت هذه الغربة عن مؤسسة وطنية أساسية بلوي إلى التحذير من “حرب ثقافية” حول هذه القضية.
وقال شيمي شليزنغر (25 عاما) وهو طالب بمعهد ديني من الحريديم لـ”رويترز” إنه يتفهم معاناة الأسر الأكثر علمانية التي فقدت أبناءها وبناتها في الحرب.
وأضاف “لكن بصراحة، نحن غير قادرين على الخدمة في الجيش. لأنه بدون التوراة، لن يكون هناك مجتمع يهودي. وأعتقد أن التوراة تحمينا أكثر من الجيش”.