أثار انخفاض مخزون المياه بخزانات السدود في مدينة إسطنبول التركية، المخاوف بشأن “كارثة محتملة على صعيد نقص الموارد المائية” في تركيا، بينما يدق خبراء تحدث معهم موقع “الحرة” ناقوس الخطر بسبب التداعيات البيئية والاقتصادية والسياسية لتلك الأزمة ومدى تأثيرها على سوريا والعراق.
أزمة مياه بإسطنبول
في مدينة إسطنبول التركية تراجعت كمية المياه في خزانات السدود إلى 29.7 بالمئة فقط من سعتها الإجمالية.
ويحيط بإسطنبول التي يقطنها 16 مليون نسمة بحسب التعداد الرسمي (و20 مليونا وفق تقديرات غير رسمية)، 11 سدا تمتلئ بشكل كامل خلال شهري نوفمبر وديسمبر حين تبلغ المتساقطات ذروتها.
لكن التغير المناخي العائد بالدرجة الأولى إلى انبعاثات غازات الدفيئة التي يتسبب بها النشاط البشري، يؤدي لتبدل الأنماط المناخية، ويصبح أحد مصادر القلق الدائمة للمسؤولين الأتراك، وفق وكالة “فرانس برس”.
وفي 2023، عرفت تركيا فصل الصيف الأكثر حرا منذ بدء تسجيل البيانات، وتجاوزت درجة الحرارة عتبة 50 مئوية في 14 أغسطس، وذلك للمرة الأولى في التاريخ الحديث للبلاد.
وخلال هذا الصيف، شهدت إسطنبول هطول “كميات محدودة من الأمطار”، في حين أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة استهلاك المياه.
ما الأسباب؟
يوضح خبير البيئة والمناخ المقيم في إسطنبول، زاهر هاشم، أن إسطنبول تعد المركز الاقتصادي والتجاري والسياحي الأكبر في تركيا، وفيها يتم استنزاف المياه وتدمير النظم الهيدرولوجية مثل الجداول والأنهار والأراضي الرطبة، بسبب “مشاريع البنية التحتية المائية غير المستدامة”، مثل محطات توليد الطاقة الكهرمائية والسدود ومشاريع نقل المياه بين الأحواض المائية.
ويؤدي استخدام المياه في الزراعة بالطرق التقليدية إلى السحب المفرط والاستخدام غير الفعال للمياه من المصادر الطبيعية، وتتفاقم الأزمة بسبب تلوث الموارد المائية بالمخلفات المنزلية والصناعية والزراعية، ما يؤثر على عدد كبير من السكان الذين تعتمد سبل عيشهم على المياه، وفقا لحديثه لموقع “الحرة”.
ويؤكد أن مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق مثل الطرق السريعة، وإنشاء المدن الجديدة، تستهلك كميات كبيرة من المياه أثناء مرحلتي البناء والتشغيل أو تشكل عاملا ملوثا للموارد المائية.
ويشير إلى وقوع تركيا في منطقة حوض البحر المتوسط، الذي من المتوقع أن يتلقى أكبر الآثار السلبية لتغير المناخ، وخصوصا فيما يتعلق بالموارد المائية.
ومن المتوقع أن تشهد معظم منطقة الشرق الأدنى، بما في ذلك تركيا، نقصا في توافر المياه يصل إلى 40 ملم سنويا، ومن المتوقع أن يبلغ هذا الانخفاض 80 ملم سنويا في هضبة الأناضول، حسب هاشم.
ومن جانبه يتحدث أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة، عباس شراقي، لموقع “الحرة”، عن سببين لانخفاض مخزون السدود في تركيا.
وفي منطقة جنوب الأناضول تم “تفريغ جزء كبير من مخزون السدود”، بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في فبراير الماضي، حسب شراقي.
وفي 6 فبراير، ضرب زلزال عنيف بلغت قوته 7,8 درجة مناطق شاسعة جنوب تركيا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 50 ألف شخص.
وضرب الزلزال المدمر 11 محافظة تركية، ما تسبب في تضرر حوالي 14 مليون شخص، أي سدس سكان البلاد، جراء الكارثة، وأدى إلى انهيار 214 ألف مبنى، عدد كبير منها في كهرمان مرعش وهاتاي.
وأجبر الزلزال 3.3 مليون شخص على مغادرة مناطقهم، ويقيم حاليا أكثر من 1.4 مليون شخص في خيم وحوالي 46 ألفا في حاويات، فيما استقر الباقون في مهاجع ودور ضيافة، وفقا للأرقام الرسمية.
ويشير أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا إلى تخوفات لدى الحكومة التركية من أن تصيب تباعات الزلازل واحدا من تلك السدود، ما يتسبب في تدميره ويؤدي لحدوث طوفان على المنطقة، وقد دفع ذلك السلطات لـ”تفريغ جزء كبير من المخزون”.
ويوضح شراقي أن هناك احتمالية لوقوع زلزال كبير آخر بتركيا، ولذلك قد أخطأت الحكومة التركية بأنشاء سدود ذات خزانات كبيرة بمنطقة الأناضول.
وعن السبب الثاني لانخفاض منسوب السدود التركية فهو “تراجع كميات الأمطار” هذا العام، وسط تغييرات مناخية يعاني منها العالم بأكمله، حسبما يوضح أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا.
“أزمة طاقة لا مياه”
في المقابل وعلى خلاف ما تقدم، يشير وزير الموارد المائية العراقي الأسبق، محسن الشمري، إلى أن تركيا تعاني من أزمة في الوقود والكهرباء وليس نقص المياه.
وتناقص تخزين المياه بخزانات السدود في إسطنبول “ناتج عن أزمة بتوليد الكهرباء ونقص الطاقة، ولا علاقة لذلك بالاحتباس الحراري والتغير المناخي”، وفقا لحديثه لموقع “الحرة”.
كارثة مائية محتملة؟
تركيا من الدول التي تعاني من “الإجهاد المائي”، أي أن حجم المياه المستهلكة أكبر من حجم المياه الواردة من جميع المصادر، وفقا لهاشم.
ويبلغ نصيب الفرد في تركيا 1519 مترا مكعبا من المياه سنويا، ومع توقعات بزيادة عدد سكانها عام 2030 إلى 100 مليون نسمة، فمن المتوقع أن تكون كمية المياه للفرد 1120 مترا مكعبا سنويا، لذلك فإن البلاد في طريقها لأن تصبح دولة “فقيرة مائيا”، حسبما يوضح خبير البيئة والمناخ.
ويتوقع الخبير البيئي زيادة تلك المخاطر مع تفاقم أزمة تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة، وما ينتج عنه من جفاف وانخفاض هطول الأمطار وانحسار الثلوج.
لكن على جانب آخر، يؤكد عباس شراقي أن تركيا ليست على “شفا كارثة محتملة على صعيد نقص المياه”.
ومازال يتساقط على تركيا الأمطار حتى لو قل معدلها، ولدى البلاد أكثر من 600 سد بسعة تخزينية تعادل 600 مليار متر مكعب من المياه، وفق أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا.
ويشدد شراقي على أن تركيا تستفيد من مخزون سدودها عند انخفاض معدل الأمطار، وهذا ما تفعله السلطات التركية حاليا.
لكنه يؤكد أن تركيا ستكون حريصة على عدم “الملأ الكامل لخزانات السدود”، كإجراء احترازي لتجنب وقوع كارثة في حال وقوع زلزال كبير جديد.
ما تأثير ذلك على سوريا والعراق؟
تعد تركيا التي يتدفق منها نهر الدجلة، الذي يصب مباشرة في العراق والفرات الذي يصل إلى سوريا، من المصادر الرئيسية للعراق الذي عرف من خلالها عبر قرون بـ”بلاد ما بين النهرين”.
وتمتد رحلة نهر الفرات على نحو 2800 كلم، يعبر خلالها في تركيا (المنبع) وسوريا والعراق حيث يصب، ويخترق الأراضي السورية بنحو 600 كلم.
ونهر الفرات، أطول أنهار غرب آسيا، وينبع من جبال طوروس في تركيا ويتدفق منها إلى سوريا، من مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي مرورا بمحافظة الرقة شمالا ومنها إلى دير الزور شرقا، وصولا إلى العراق.
في العام 1987، وقعت سوريا اتفاق تقاسم مياه مع تركيا تعهدت بموجبه أنقرة أن توفر لسوريا معدلا سنويا من 500 متر مكعب في الثانية.
لكن هذه الكمية انخفضت بأكثر من النصف خلال الأشهر الماضية، ووصلت في فترات معينة إلى 200 متر مكعب في الثانية.
وتتهم السلطات السورية والأكراد تركيا بمنع تدفق المياه، جراء احتجازها كميات أكبر من المعتاد في السدود التي أنشأتها على مجراه قبل بلوغه سوريا.
أما العراق، فيعاني من انخفاض مثير للقلق في منسوب نهري دجلة والفرات، ويتهم تركيا بانتظام بخفض تدفق النهرين بشكل كبير بسبب السدود المبنية عند المنبع.
والعراق هو البلد الخامس الأكثر تأثرا بالتغير المناخي في العالم بحسب الأمم المتحدة.
ويعود ذلك إلى تراجع نسبة الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، لكن السلطات تحمّل جزءا من المسؤولية إلى سدود تبنيها الجارتان تركيا وإيران على منابع دجلة والفرات، ما يسبب انخفاضا في منسوب الأنهر التي تعبر العراق.
وفي ذلك السياق، يتهم الشمري تركيا بتطبيق ما يطلق عليه “نظرية سليمان ديمريل”، والمتعلقة بالطاقة مقابل المياه.
وتحبس تركيا المياه عن العراق حتى تصل إلى أهدافها وتحقق سياساتها في مبادلة المياه بالطاقة مع العراق وكذلك في توسيع أراضيها الزراعية على حساب حقوق العراقيين في مياه دجلة والفرات، وفق وزير الموارد المائية العراقي السابق.
ويتفق معه شراقي الذي يؤكد أن تركيا قامت ببناء 11 سدا على الحدود مع سوريا والعراق، ما تسبب في “جفاف وتعطيش دولتي الجوار”.
وتسببت السدود التركية ذلك في نقص كمية المياه الواصلة لسوريا والعراق، حيث استغلت أنقرة الظروف السياسية في دمشق وبغداد لإقامة سدود تهدد الأمن المائي للبلدين، وفق أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا.
ومن جانبه يؤكد هاشم أن تركيا تعاني “نقصا في الموارد المائية” خاصة في السنوات الأخيرة، بسبب “التغيرات المناخية”.
وأدى ذلك إلى انخفاض مستوى نهر الفرات الذي يجري في أراضيها مسافة 1070 كيلومترا قبل أن يدخل الأراضي السورية لمسافة 610 كيلومترات ثم يسير في الأراضي العراقية لمسافة 1130 كيلومترا، وفق خبير البيئة والمناخ المقيم في إسطنبول.
ويشير إلى “عدم وجود اتفاقيات دولية ثلاثية تجمع بين الدول الثلاث المتشاركة وتحدد حصة كل دولة من مياه النهر”، لكن مذكرة تفاهم، وقد حددت المذكرة حصة سوريا والعراق 500 متر مكعب في الثانية، نصيب دمشق منها 210 م3 /ثانية وبغداد 290 م3/ثانية.
ويرى أن الوضع السياسي في شمال سوريا، وسيطرة عدة قوى سياسية وعسكرية على المنطقة، وغياب الحوكمة والتخطيط والإدارة، عوامل “تزيد من أزمة الجفاف، وتعرقل تطبيق أي تفاهمات سياسية أو مائية بين الدول المتشاركة على النهر”.
تهديد متوقع وتداعيات خطيرة
عندما تسعى تركيا لإعادة ملأ خزانات سدودها خاصة بمنطقة جنوب الأناضول، سوف يؤدي ذلك لمزيد من التداعيات السلبية المباشرة على سوريا والعراق، وفق شراقي.
ويشير أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا إلى أن سوف تحاول تركيا تخزين أكبر كمية ممكنة من الماء لتعويض النقص بخزانات سدودها، ولذلك فإن كمية المياه التي ستصل سوريا والعراق ستكون “أقل بشكل كبير”.
وسوف يؤدي ذلك لـ”تفاقم الأزمة المائية” التي يعاني منها سوريا والعراق، ما سوف ينعكس سلبا على كافة مناحي الحياة اليومية للسوريين والعراقيين، حسبما يحذر شراقي.
ويتفق معه هاشم الذي يتوقع أن يشهد العراق وشمال سوريا “أزمة مائية شديدة حيث مياه الشرب أو الري”، بينما سوف تلقي الأزمة بظلالها أيضا على تركيا.
وسيكون لذلك آثار كبيرة على الزراعة حيث يدمر الجفاف المحاصيل الزراعية ويخفف إنتاجيتها.
ويوضح أن الزراعة تعتبر موردا أساسيا للاقتصاد في الدول الثلاث، ويهدد الجفاف الأمن الغذائي للمزارعين، ويدفعهم إلى الهجرة للمدن للعمل في قطاعات أخرى، الأمر الذي يهدد بانهيار القطاع الزراعي في مناطق واسعة.
ويؤدي الجفاف ونقص المياه إلى نفوق الثروة السمكية وزيادة تركيز الملوثات في الأنهار، كما يهدد الصحة العامة ويوفر بيئة لانتشار الأمراض السارية خصوصاً عند الأطفال وكبار السن، حسب تحذيرات خبير البيئة والمناخ المقيم في إسطنبول.
كما يهدد نقص الموارد المائية بنقص مستويات الأنهار في السدود الكهرومائية، مما يؤدي إلى نقص إمدادات الطاقة الكهربائية وزيادة الاعتماد على الطاقة التقليدية، وفق هاشم.
ويحذر هاشم من أن أزمات المياه تؤدي إلى “مشكلات وأزمات سياسية” بين الدول المتشاركة على الموارد المائية خصوصا في حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.