بعد أن ظلت لسنين رمزا للتعايش بين الديانات وملاذا آمنا يلجأ إليه الفارون من النزاعات، طالت آثار الحرب في غزة كنيسة القديس برفيريوس التي تعرضت، ليل الخميس، لضربة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وألحقت أضرارا ببنايتها.
وتعد كنيسة القديس برفيريوس التي يطلق عليها أيضا اسم “كنيسة المقبرة” حيث تحيط بها مقبرة مسيحية، من أقدم الكنائس في العالم، وتعرف محليا باسم “كنيسة الروم الأرثذوكس”.
وتعرضت الكنيسة لضربة صاروخية، الخميس، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وسط اتهامات من سلطات غزة وجهات مسيحية لإسرائيل بشنها، فيما اعترف الجيش الإسرائيلي بـ”استهداف موقع في منطقة الكنيسة، تابع لحركة حماس”، المصنفة إرهابية.
ووقعت الضربة بجوار الكنيسة التي تبلغ مساحتها 216 متر مربع، وتسببت بسقوط قتلى وجرحى، وانهيار مبنى تابع له، وفق ما أكدت مصادر لموقع “الحرة”، الجمعة.
تاريخ ومعمار
يعود تاريخ بناء الكنيسة التي تقع في حي الزيتون التاريخي بغزة إلى عام 425 ميلادية، قبل أن يتم تجديدها عام 1856، وتشملها بعد ذلك أعمال ترميم متلاحقة، آخرها في عام 2020، بحسب دليل أثري لوزارة السياحة والآثار الإسرائيلية.
وتتكون هذه الكنيسة من بهو كبير مغطى بسقف وأقبية متقاطعة على شكل “جمالوني” (شكل شبيه برأس المثلث)، وترتكز على دعامات حجرية وعلى أربعة جدران بنيت من الحجر الرملي الصلب.
وللكنيسة التي سميت على اسم أسقف غزة السابق، القديس بورفيريوس، ثلاثة مداخل: واحد غربي وهو الباب الرئيسي للكنيسة ومدخل شمالي، إضافة إلى آخر جنوبي، افتتح في السنوات الأخيرة، ويؤدي إلى ردهة علوية افتتحت لاستقبال عدد أكبر من المصلين، بحسب المصدر ذاته.
ويتصدر النص التأسيسي للكنيسة المدخل الرئيسي للكنيسة، منقوشاً على لوح رخامي باللغة اليونانية القديمة في ثمانية سطور.
ويعود الهيكل الأصلي لكنيسة القديس بورفيريوس إلى القرن الخامس ميلادي، فيما تم بناء الهيكل الحالي في القرن الثاني عشر، وتتميز الكنيسة بجدران سميكة غنية بالنقوش والزخارف والأيقونات الدينية الشاهدة على مراحل تاريخية متعددة بحسب بحث منشور لمجلة اتحاد الآثاريين العرب.
وبحسب السردية الأرثوذوكسية بشأن تأسيس الكنيسة، فإن إنشاءها جاء بدعم من الإمبراطور البيزنطي أردياكوس بالقسطنينية (اسطنبول حاليا)، بعد أن لجأ إليه القديس برفيريوس لصد اعتداءات سكان غزة الوثنيين ضد المسيحيين.
ووفق الرواية ذاتها، نجح القديس برفيريوس في الحصول على حماية الإمبراطور ودعمه بالموارد اللازمة لبناء الكنيسة، بعد أن صدقت نبوءته بأن زوجة الحاكم البيزنطي ستنجب طفلا.
القديس برفيريوس
ولد القديس برفيريوس في مدينة سالونيك باليونان عام 347 بعد الميلاد، وعند بلوغه سن الثلاثين رحل إلى مصر، حيثُ عاش ناسكا لمدة تناهز خمس سنوات.
وبعدها، انتقل رجل الدين المسيحي إلى القدس، أين استقر أيضا لسنوات رغم تنقله بين مدن وبلدات مختلفة، قبل أن يعين مطرانا لمدينة غزة، في عام 395 والتي عاش بها حتى توفي، بحسب معلومات على منصة “ويكي أورثوذوكس”.
وبحسب المصدر ذاته، كان المسيحيون في مدينة غزة خلال هذه الفترة التاريخية أقلية، وكانوا يشهدون للمطران برفيريويس بـ”كراماته ومعجزاته وأيضا بالقداسة وحنكة الوعظ وجهوده في حفظ حقوقهم من اضطهاد الوثنيين”، ولذلك “اختير لتعليم الناس ولتأسيس كنيسة المسيح في غزة”.
ويفيد المرجع التاريخي بأن القديس برفيريوس وضع حجر الأساس لبناء الكنيسة التي استغرق تشييدها خمس سنوات، والتي حملت في البداية اسم الإمبراطورة البيزنطية أفظوكسييا زوجة أركاديوس، غير أنه بعد سنوات من رحيله عن عمر يناهز 73 عاما، في سنة 420، تم تغيير اسم هذا المعبد الديني ليحمل لقب مؤسسه.
مسيحيو غزة
يعود الحضور المسيحي في غزة إلى القرن الرابع، ويمثل القطاع موطنا لبعض أقدم الكنائس في العالم، غير أنه بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس دولة إسرائيل عام 1948، غادر عدد كبير من المسيحيين المنطقة، بحسب بحث لجامعة نوتردام، وهي جامعة كاثوليكية بحثية غير حكومية ، في شمال ولاية إنديانا بالولايات المتحدة.
وبين عامي 2014 و 2021، وفيما ارتفع عدد سكان قطاع غزة من 1.8 مليون إلى أكثر من مليونين، وفقا لما نقله المصدر ذاته عن تقديرات أميركية رسمية، انخفض عدد المسيحيين خلال الفترة ذاتها “بسبب مستويات الهجرة المرتفعة للغاية وانخفاض معدلات المواليد”.
واليوم، يعيش بالقطاع حوالي 1300 مسيحي فقط، بانخفاض من 3 آلاف قبل عام 2007، وفقا للبحث ذاته.
وكشفت دراسة استقصائية أجرتها جمعية الشبان المسيحيين عام 2014 أن 89 بالمئة من السكان المسيحيين في غزة من الروم الأرثوذكس، بينما 9.3 بالمائة من الروم الكاثوليك، و 1.52 بالمائة ينتمون إلى الطوائف المعمدانية والبروتستانتية الأخرى.
ملاذ آمن
وعلى مدار سنوات الصراع بالقطاع، لطالما كانت كنيسة القديس برفيريوس ملاذا آمنا يلجأ إليه الفارون من الاضطرابات الأمنية بالقطاع؛ ففي حرب غزة عام 2014، فر مئات الفلسطينيين إلى هذه الكنيسة التي تقع بجانب مسجد “جامع كاتب ولاية”، هربا من القصف.
وخلال هذه الحرب، طالت شظايا غارة قريبة مقبرة الكنيسة غير أنها لم تصل إلى بنايتها، وفقا لرويترز.
وقال رئيس أساقفة الكنيسة آنئذ “لقد كان هذا مكانا للرب لفترة طويلة، وإذا سعى الناس إلى الملاذ فمن واجبنا توفيره (..)”.
وفي التصعيد الأخير، نزحت عائلات فلسطينية، مسيحية ومسلمة، إلى الكنيسة، بعد أن دُمرت منازل عدد منهم جراء القصف، وبحثا عن ملجأ أكثر أمنا، وفقا لوكالة الأنباء الفلسطينية “وافا”.
وبعد الضربة الأخيرة، كشف القس، يوسف أسعد، من كنيسة اللاتين في غزة، عن “استهداف الكنيسة، وليس أحدا آخر، ووقعت بالضبط بين مبنى الكنيسة وبيت مهجور، والحفرة الناتجة عن الصاروخ تقع داخل أملاك الكنيسة”.
وأضاف: “قطر الحفرة يبلغ نحو 7 أمتار، والضربة تسببت بانهيار مبنى الخدمات” التابع لهذا المبنى الديني.
من جهته، قال مجدي جيلدا، الذي كان من بين الأشخاص الذين فروا إلى الكنيسة بعد اندلاع أن حوالي 500 شخص كانوا يحتمون في حرم الكنيسة، من بينهم حوالي 80 في مبنى مجلسها، حيث وقع الانفجار.
وكان العشرات داخل قاعة الخدمات بالكنيسة التي تضررت أيضا، حسبما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مجدي جيلدا.
المتحدث باسم بطريركية الروم الأرثودكس، عيسى مصلح، استنكر استهداف دور العبادة والمدنيين في غزة، كاشفا أن الضربة خلفت 16 قتيلا وعددا من المصابين، إضافة إلى أشخاص لا يزالون تحت الأنقاض.
وندد المتحدث باسم بطريركية الروم الأرثوذكس، لـ”الحرة” بـ”القصف الإسرائيلي الذي طال مباني الكنيسة التي تحوي الفقير والمحتاج وكل إنسان يحتاج حماية لكي يعيش”، مضيفا أن “بيوت الله تتعرض للقصف في غزة ولا تمييز بين الحجر والبشر”.
وتابع: “لا نريد استنكارات، نريد عالما غير صامت لإيقاف هذه الحرب المدمرة”، مشيرا إلى أنه “غياب معدات لسحب الضحايا من تحت الأنقاض، وأيضا غيابا شبه كامل لكل الخدمات الأساسية للحياة”.
من جهتها، قالت اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في الأراضي الفلسطينية، إن استهداف أحد مباني كنيسة القديس برفيريوس في قطاع غزة، التي يحتمي بها نحو 500 مواطن فلسطيني (مسلمون ومسيحون)، يؤكد أن “أهداف القوات الإسرائيلية هي المواطنين العزل من أطفال ونساء وشيوخ”.
بالمقابل، أكدت وحدة المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، لموقع “الحرة”، الجمعة، “استهداف موقع في منطقة الكنيسة”.
وقالت: “طائرات مقاتلة استهدفت (…) مقر قيادة أحد العناصر العسكرية التابعة لمنظمة حماس الإرهابية، والذي له ضلوع في إطلاق قذائف صاروخية وقذائف هاون باتجاه أراضي دولة إسرائيل”.
وأضافت: “أدير القتال من مقر القيادة واحتوى على بنى تحتية إرهابية (…) وفي أعقاب موجة الانفجار الناتجة عن الغارة تضرر حائط كنيسة تقع في المنطقة”.
كما أكدت أن “الادعاء بشأن وقوع إصابات معروف لدينا، ويجري التحقيق في ملابسات الحادث”.
وتابعت: “حماس تضع بناها التحتية في قلب المناطق المأهولة بالسكان المدنيين، وتستخدم سكان القطاع دروعا بشرية”.
وأشارت الوحدة إلى أنه “من أجل الحد من المساس بالمدنيين، حث جيش الدفاع سكان المنطقة على إخلاء منازلهم والتنقل إلى المنطقة الواقعة جنوبي وادي غزة، وهي خطوة تحاول حماس منعها”.