يشعرك الحديث عن الاحترار العالمي بالملل لأنه قد يعيدك إلى حصة العلوم في الصف الخامس أو السادس والتي كانت تدور حول غازات ما تنحبس في الجو لترفع الحرارة، لم تكن هذه المشكلة مشكلتك في ذلك الوقت بأي حال من الأحوال، ولكن من الممكن أنها قد أصبحت مشكلتك الآن بدليل أن الأحاديث عن تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة خرجت من الغرفة الصفية إلى الشارع والبيت.
وفقا لوكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، فقد تغير مناخ الأرض عبر التاريخ. في الـ800 ألف سنة الماضية فقط، كانت هناك 8 دورات من العصور الجليدية والفترات الأكثر دفئا، وكانت نهاية العصر الجليدي الأخير قبل حوالي 11700 سنة بمثابة بداية عصر المناخ الحديث والحضارة الإنسانية. وتعزى معظم هذه التغيرات المناخية إلى اختلافات صغيرة جدا في مدار الأرض والتي تغير كمية الطاقة الشمسية التي يتلقاها كوكبنا.
وتختلف هذه الموجة من الاحترار، لأنها نتيجة للأنشطة البشرية منذ منتصف القرن الـ19. ولا يمكن إنكار أن الأنشطة البشرية أنتجت الغازات الجوية التي احتجزت المزيد من طاقة الشمس في نظام الأرض. وقد أدت هذه الطاقة الإضافية إلى ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي والمحيطات والأرض، وحدثت تغيرات واسعة النطاق وسريعة في الغلاف الجوي والمحيطات والغلاف الجليدي والمحيط الحيوي.
تشير منظمة الصحة العالمية أيضا لهذه القضية باعتبارها حدثا يمس صحة الإنسان، فتغير المناخ يؤثر على الصحة بطرق لا تعد ولا تحصى، فقد تتسبب في الوفاة والمرض بسبب الظواهر الجوية المتطرفة والمتكررة بشكل متزايد، مثل موجات الحر والعواصف والفيضانات، وتعطيل النظم الغذائية، وزيادة الأمراض الحيوانية المنشأ، أو المرتبطة بالغذاء والمياه ونواقل الأمراض، بالإضافة إلى مشاكل الصحة العقلية.
على الرغم من ذلك فقد لا يبدو اليوم الحار بمثابة تهديد يجب على الجهاز المناعي التعامل معه. لكن شبكة الدفاع المترامية الأطراف في الجسم ستبدأ في الشعور بالحرارة. ومن المحتمل أن يؤثر هذا الطقس الحار على قدرة الجهاز المناعي على صد الميكروبات والحفاظ على صحة الجسم. وذلك وفقا لمقال نشر في 15 مايو/أيار الجاري في موقع “ساينتفيك أميركان” (Scientific American).
فقد وجد باحثون صلة بين الطقس الحار والاستجابة المناعية للجسم، منها تغير مستويات بعض خلايا الدم ومؤشرات الالتهاب.
وأجرى الدراسة باحثون في قسم الطب البيئي في كلية الطب بجامعة لويزفيل في كنتاكي في الولايات المتحدة الأميركية. وعرضت نتائجها في مؤتمر علم الأوبئة والوقاية ونمط الحياة وصحة القلب والأوعية الدموية الذي عقد مارس/آذار الماضي في شيكاغو، وكتب عنه موقع “جمعية القلب الأميركية” (American Heart Association).
وأخذ الباحثون عينات دم من 624 فردا في مدينة لويزفيل، في ولاية كنتاكي في الولايات المتحدة الأميركية، مع تقلب درجات الحرارة في صيف 2018 و2019، وقاموا بتحليل جزيئات مناعية مختلفة كانت بمثابة مؤشرات حيوية للالتهابات والاستجابة المناعية.
العواقب طويلة المدى
كان متوسط درجة الحرارة عند سحب الدم 24 درجة مئوية، مع تراوح معظم درجات الحرارة بين 21 و27 درجة مئوية، ومع ذلك وجد الباحثون مجموعة من التغيرات الالتهابية بين المشاركين في الدراسة في الأيام التي كانت أكثر دفئا من المتوسط، مما يشير إلى أنه حتى الحرارة المعتدلة كانت تتسبب في دخول الجهاز المناعي في وضع الحرب وإهدار موارد الجسم القيمة. هذه النتائج دفعت الباحثين إلى التفكير في العواقب طويلة المدى لارتفاع درجات الحرارة العالمية بسرعة على وظيفة المناعة.
وجد البحث الجديد أن درجات الحرارة المرتفعة من الممكن أن توقظ المستجيبين الأوائل في الجهاز المناعي الذين يستيقظون عادة على الاختراق الميكروبي. ومن بين هؤلاء الحراس كانت هناك بروتينات إشارة تسمى السيتوكينات وأنواع متعددة من خلايا الدم البيضاء، وهي الخلايا التائية القاتلة الطبيعية (natural killer T cells) وطاقم التنظيف المكون من خلايا تسمى الوحيدات (monocytes). تعتبر المستويات المرتفعة من هذه الخلايا علامات على الالتهاب، وهي إحدى الطرق التي يحمي بها الجهاز المناعي الجسم من الغزاة. إذا طال أمد هذا التفاقم يمكن أن يكون ضارا للجسم.
ولاحظ فريق الدراسة أيضا اختلافات في الاستجابة المناعية التكيفية للجسم، والتي تولدها الخلايا التي تعمل مثل قوات العمليات الخاصة لاستهداف غزاة محددين. المشاركون الذين تم سحب عينات من دمهم عندما كانت درجات الحرارة مرتفعة كان لديهم أعداد أقل من الخلايا البائية، وهي الخلايا العاملة المنتجة للأجسام المضادة التي تتعرف على مسببات الأمراض المحددة وتتذكرها للعدوى المستقبلية.
وكانت التغيرات المناعية مذهلة، بالنظر إلى أن مدينة لويزفيل لم تشهد أي نوبات دافئة كبيرة خلال فترة الدراسة. يقول دانييل دبليو ريجز، المؤلف الأول للدراسة وأستاذ الطب في جامعة لويزفيل “لم أكن أتوقع أن أرى هذا العدد الكبير من الخلايا يتغير، والكثير من العلامات تتغير، خاصة مع هذه الزيادة المعتدلة في درجة الحرارة”.
الجزيئات الحيوية
ويقول خبراء آخرون إنه لا يزال من السابق لأوانه القول ما إذا كانت التقلبات في الجزيئات الحيوية غير خطيرة أو خطيرة. تقول شارون إيفانز، أستاذة علم الأورام في مركز روزويل بارك الشامل للسرطان، والتي لم تشارك في البحث “لا نريد المبالغة في تفسير التغييرات الملحوظة”. وتشير الدراسة، التي وصفها إيفانز بأنها مثيرة حقا، بوضوح إلى أن “شيئا ما يحدث” في جهاز المناعة.
ويعتقد فريق ريجز أن علامات الالتهاب الملحوظة أثناء درجات الحرارة المرتفعة قد تؤدي إلى تراجع صحة الشخص إذا تم تحفيزها بشكل متكرر. تساهم خلايا المناعة المسماة الوحيدات (monocytes) في تصلب الشرايين، وتراكم الترسبات داخل جدران الأوعية الدموية. مع مرور الوقت، يمكن أن يؤدي هذا التراكم إلى نوبة قلبية أو سكتة دماغية.
إلا أن تأثير الحرارة على قدرة الجسم على درء مسببات الأمراض ما زال أقل وضوحا. ويقول الباحثون في الدراسة إنه إذا كان هناك عدد أقل من الخلايا البائية التي تجوب مجرى الدم، فقد يكون الجسم أكثر عرضة للإصابة بالعدوى.
وتقول إيفانز إن انخفاض عدد الخلايا البائية في الدم قد يعني أن الخلايا الصغيرة قد تجمعت في مكان آخر، ربما في مواقع دفاعية في الطحال أو العقد الليمفاوية، حيث تتجمع المستضدات -أو جزيئات من مسببات الأمراض- لأول مرة. على الرغم من أن عينة الدم قد تشير إلى عدد أقل من الخلايا البائية في هذا السيناريو، فإن الجسم يكون أفضل استعدادا للتعامل مع مسببات الأمراض.
تقول إيفانز إن بعض الحرارة قد تكون مفيدة في بعض الأحيان. وقد أظهرت هي وباحثون آخرون في تجارب سابقة على الفئران وفي الخلايا المزروعة مخبريا أن التعرض للحرارة المعتدلة على المدى القصير يمكن في الواقع أن يدعم الدفاعات المناعية، مثل تعزيز حركة خلايا الدم البيضاء وتركيز جزيئات الإشارات المناعية في الدم. يعتقد الباحثون أن الجسم يثير الحمى لإعطاء الجهاز المناعي ميزة قتالية أثناء الإصابة بالعدوى.
وبطبيعة الحال، فإن الحرارة الزائدة لفترات طويلة، سواء كان ذلك بسبب الحمى أو البيئة، يمكن أن تكون ضارة. تجهد الحمى لفترات طويلة الأعضاء الداخلية مثل القلب والرئتين، ويمكن أن تسبب نوبات صرع.
الجهاز المناعي
ولم يتمكن الباحثون من تحديد ما إذا كان التعرض للحرارة في الدراسة يعتبر خفيفا أو خطيرا بالنسبة لسكان لويزفيل. يقول ريجز إنه على الرغم من أن جميع عمليات سحب الدم تمت في الخارج، فإن الباحثين لم يتتبعوا مكان وجود المشاركين مسبقا. كان من الممكن أن يقضي المشاركون معظم وقتهم قبل الإجراء في راحة عند مكيفات الهواء أو في الهواء الطلق. يمكن أن تؤثر كلتا الحالتين على الجهاز المناعي وتقلل من قوة ارتباطات العلامات الحيوية.
ومع ذلك، تشير الدراسة إلى جوانب في الجهاز المناعي قد تكون أكثر حساسية لارتفاع درجات الحرارة. وتقول باحثة المناخ والصحة بجامعة واشنطن كريستي إيبي، والتي لم تشارك في الدراسة، إن النتائج تثير “أسئلة مثيرة للاهتمام”، مثل مدى قوة وسرعة استجابة الجسم للحرارة.
وبينما يتجه الكوكب نحو ظاهرة الاحتباس الحراري بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة بحلول منتصف القرن، فإن فهم كيفية تشكيل الحرارة للمشهد المناعي أمر حيوي لمنع وعلاج الإجهاد الحراري لدى البشر. تقول إيفانز “أعتقد أننا في بداية فهم التأثير الذي قد يحدثه ارتفاع درجات الحرارة فيما يتعلق بموجات الحرارة والمرضى”.