لطالما كان القطاع الطبي أحد أهم القطاعات الحاضرة في جميع أفلام الخيال العلمي التي صورت مستقبل الحضارة الإنسانية، بدءًا من آليات الشفاء السريع وحتى إعادة نمو وتوصيل الأطراف المقطوعة وربما تعزيز القدرات البشرية عبر قطع آلية مدمجة.
ورغم هذا الحضور القوي في ذهن المبدعين، فإن القطاع الطبي عانى من تطور بطيء على أرض الواقع، واقتصر التطور في أغلبه على آلات لتعزيز القدرات التشخيصية للأطباء، حتى إن دور الذكاء الاصطناعي كان مقصورًا على مساعدة وتحليل بيانات المريض دون تقديم تشخيص حقيقي.
في كلية الهندسة والعلوم التطبيقية بجامعة بنسلفانيا، قاد كلّ من الدكتور هيون (ميشيل) كو وإدوارد ستيجر أبحاثًا على بعض التطبيقات التقنية في قطاع طب الأسنان تحديدًا، كان أبرزها تقنية روبوتات دقيقة “مايكروبوت” (Microbot) يتم تناولها وتعمل كطاقم تنظيف متكامل للأسنان، في محاولة منهم لخفض مخاطر تلوث الأسنان والضرر اللاحق بها، ورغم بساطة الفكرة، فإنها تفتح الباب أمام فجر جديد في قطاع طب الأسنان تحديدا.
روبوتات يمكن تناولها
تتمتع هذه الروبوتات بمجموعة متنوعة من الوظائف التي يمكن تنفيذها داخل فم الإنسان، بدءًا من القدرة على تنظيف الأسنان وإزالة الرواسب العالقة وحتى تشذيب وعلاج بعض الأمراض الطفيفة التي تصاب بها الأسنان، وذلك بفضل جهاز توجيه مغناطيسي يتيح لك التحكم في هذه الروبوتات لتنفيذ الأوامر المبرمجة عليها مسبقًا.
يوضع جهاز التوجيه المغناطيسي موجهًا ناحية المكان الذي يحتاج إلى علاج أو تنظيف، ثم تبدأ الروبوتات مباشرةً في علاج المشاكل التي تواجهها، وتنفيذ الأوامر الموجهة لها مسبقًا، سواءً كانت لتنظيف الأسنان أو كانت لعلاج مشاكل الأسنان البارزة.
وأما عن طريقة إدخال الروبوتات إلى الجسم، فتحدث كو المسؤول عن المشروع باستفاضة، مشيرًا إلى أن السر يكمن في آلية صناعة هذه الروبوتات، فهي تتكون من مجموعة من الجسيمات الدقيقة للغاية المصنوعة من مركبات أكسيد الحديد، وهي مادة تستخدم بكثرة في الطعام ومرخصة من هيئة الأدوية والغذاء الأميركية “إف دي إيه” (FDA)، لذا فإن المريض يتناول هذه الجسيمات الدقيقة التي تتحد معًا لتشكل الروبوتات الدقيقة.
وأضاف كو أنهم يعملون على طرق وخيارات أخرى ليتم استخدام هذه الروبوتات فيها، بدءًا من دمجها مع معجون تنظيف أسنان خاص يستخدم فرشاة أسنان خاصة، ويتم توجيه الروبوتات في هذه الحالة عبر جهاز يشبه واقي الفم يضم المغناطيس الذي يوجه الروبوتات مباشرةً إلى الهدف.
السر في مركبات أكسيد الحديد
تمكن العلماء من الوصول إلى هذه الروبوتات الدقيقة بفضل الخواص الفريدة التي تتمتع بها مركبات أكسيد الحديد، بدءًا من كونها مركبات محفزة قادرة على توليد مضادات ميكروبية تقتل الميكروبات الموجودة بين الأسنان، فضلًا عن تهذيب أطراف الأسنان.
وأما المزايا المغناطيسية التي تتمتع بها هذه المركبات، فهي ما تتيح بناء الروبوتات الدقيقة وتوجيهها داخل الفم بكل سهولة ويسر، ولأن الروبوت يتكون من جزئيات دقيقة للغاية، فإن هذا يتيح له التكيف مع تضاريس التجويف الفموي والأسنان وبالتالي الوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها باستخدام فرشاة الأسنان المعتادة.
نجاح باهر في التجارب العملية
لن يكتمل البحث العلمي دون وجود تجارب تعزز من نتائجه وتثبت قدرته على حل التحديات بعينها، وبحسب التجارب التي أجراها الفريق البحثي في جامعة بنسلفانيا، فإن هذا الابتكار لديه القدرة على تنظيف الأسنان والقضاء على الميكروبات بنسبة تصل 80%.
اعتمد الفريق على نوعين من التجارب لتعزيز فكرته، في البدء قام الفريق بطباعة هيكل ثلاثي الأبعاد يحاكي تركيب الأسنان البشرية مع الأنسجة المحيطة بها، واستخدم الفريق الروبوتات الدقيقة لتنظيف التلوث المحيط بهذه الأسنان، ثم بدؤوا بمقارنة النتائج مع نموذج آخر تم استخدام طرق التعقيم المعتاد فيه.
بينت النتائج أن نموذج الروبوتات قد وصل إلى نسبة تعقيم 100% من الميكروبات الموجودة في الهيكل، وهذا يعني أن الأسنان أصبحت نظيفة تمامًا دون وجود أي بقايا بكتيرية عليها، وهو الأمر الذي يتفوق على العديد من منظفات الأسنان والمركبات الكيميائية الخاصة بها.
ومن أجل تعزيز هذه النتيجة، أجرى الفريق اختبارًا آخر على الحيوانات، وفي هذا الاختبار تمكنت الروبوتات من القضاء على 80% من الميكروبات الموجودة، ورغم أن هذا الاختلاف قد ينبع من اختلاف طبيعة الفم وتركيبة الأسنان في الإنسان والحيوان، فإن الفريق يحاول جاهدًا تحسين هذه النتائج مع اقتراب نهاية مرحلة اختبارات الحيوانات والانتقال إلى الاختبارات البشرية نهاية هذا العام.
يذكر أن عملية تصنيع وبرمجة هذه الروبوتات الدقيقة ليست مكلفة للغاية، إذ إن تكلفتها تقترب من تكلفة فرشاة الأسنان الكهربائية، لذا يتوقع الفريق تقبّلا جماهيريا واسعا لها فور طرحها، رغم أن مدة التنظيف قد تصل إلى 10 دقائق في بعض الحالات، وهي من الجوانب التي يحاول الفريق حلها.
تطبيقات منوعة للتقنية
يسعى الفريق بشكل أساسي لتطبيق عمله على الأسنان وتنظيفها مباشرةً، ورغم بساطة هذا المسعى، فإنه يوفر فرصًا كثيرة لمن يعانون من تحديات حركية تمنعهم من التحكم في فرشاة الأسنان بشكل سلس، وهو الأمر الذي يخفف من معدلات التلوث والإصابات التي تطرأ في أسنانهم.
فضلًا عن ذلك، فإن هذه التقنية تفتح الأبواب أمام عالم الروبوتات الدقيقة التي يمكن التحكم فيها عن بعد، وهي ما يمكن استخدامه لاحقًا في إزالة الميكروبات المعوية أو حتى التنفسية، وربما تتطور التقنية بشكل يتيح لهذه الروبوتات القيام بعمليات جراحية بسيطة وتعقيم الجروح بشكل يمنع تلوثها نهائيًا.
لذا، فإن حدود هذه التقنية هي السماء، ولا يمكن التأكد من استخداماتها المستقبلية حتى انتهاء التجارب الحقلية عليها، ولكنها تقنية قد توازي اكتشاف “البنسلين” في الأهمية، فهل نرى مستقبلًا الروبوتات الدقيقة تحل مكان الأطباء في هذا الشأن؟