بدأت ألمانيا مع دخول شهر مارس/آذار الحالي تنفيذ المرحلة الثانية لقانون الهجرة الجديد التي أُطلق عليها “بطاقة الفرصة”، وتتوقع الوكالة الاتحادية للعمل أن يصبح تدفق المهاجرين الراغبين في العمل داخل البلد أكثر سهولة خلال هذه المرحلة.
ومن الناحية النظرية، فمن المفترض أن يبدد هذا القانون كثيرا من العقبات البيروقراطية التي تحول دون تنقل الكفاءات وحرية العمل في ألمانيا، غير أن الأمور ليست بالسهولة المتوقعة في بلد يعاني من تضخم كبير في الإدارة والقوانين.
ويأمل قطاع الصحة بشكل خاص أن تحرر “بطاقة الفرصة” القيود المكبلة للكفاءات في هذا القطاع لسببين؛ أولهما: حاجة البلاد المتزايدة للأطباء والممرضين بسبب النقص الشديد في هذا القطاع، والثاني: لمواجهة آثار تزايد أعداد المسنين التي يعاني منها المجتمع الألماني وحاجتهم إلى العلاج.
وتفيد بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي بتجاوز عدد من سنهم فوق 67 عاما -وهو سن التقاعد الرسمية القانونية في ألمانيا- 20 مليون في 2023 من أصل عدد السكان البالغ نحو 85 مليونا.
حاجة دائمة
ومنذ عقود تضطر ألمانيا إلى الاعتماد أكثر فأكثر على الطواقم الطبية القادمة من الخارج؛ بسبب ارتفاع أعداد المتقاعدين في قطاع الصحة مقارنة بمن يُؤهّلون سنويا لسوق العمل.
وإجمالا فإن أعداد الأطباء في البلاد في ازدياد مستمر، ويبلغ المتوسط الوطني لعدد الأطباء مقارنة بعدد السكان، طبيب واحد لكل 203 من السكان، وفق بيانات 2020، وهو متوسط يجعل ألمانيا في الصدارة عالميا.
لكن خلف تلك النسبة يلعب الأطباء الأجانب دورا كبيرا في ترسيخ دولة “الرفاه الاجتماعي” بما في ذلك الرعاية الصحية المميزة، التي تفاخر بها الدولة الألمانية.
وارتفع عدد الأطباء الأجانب في ألمانيا من نحو 15 ألف طبيب في 2005 إلى نحو 38 ألفا في 2015 من بينهم حوالي 2000 طبيب سوري كانوا ضمن اللاجئين، ليصعد العدد في 2022 إلى أكثر من 60 ألفا، بحسب بيانات مكتب إحصاء اتحاد الأطباء الألمان، وهو رقم غير مسبوق في ألمانيا.
المنفعة الثلاثية
ويشير ممثل عن الوكالة الألمانية للتعاون الدولي بيرون غروبر إلى أن القوى العاملة الأجنبية تلعب دورا مهما في التخفيف من وطأة نقص العمالة التخصصية في هذا المجال.
ويضيف غروبر في الإيضاحات المقدمة لموقع “دوتشلاند” التابع لوزارة الخارجية بشأن استقدام عمال الرعاية الصحية، أن برنامج “المنفعة الثلاثية” يسعى إلى الإسهام في هذه الجهود، وذلك وفق أسس عادلة ومستدامة.
ووفق المسؤول الألماني فإن البرنامج يعدّ ثمرة تعاون بين وكالة العمل الاتحادية ووكالة التعاون الدولي الألمانية، وهو يعمل بتفويض من المستشفيات ودور الرعاية الألمانية، على استقدام العمالة المتخصصة في الرعاية من خارج البلاد إلى ألمانيا.
ومن خلال برنامج “المنفعة الثلاثية”، يُستقدم العمال المتخصصون في الرعاية من البوسنة والهرسك وتونس وإندونيسيا والفليبين والأردن وولاية كيرالا الهندية.
عوائق بيروقراطية
ومع ذلك فإن طرق انتقال المهاجرين المهرة ليست مفروشة بالورود بالعودة إلى الإجراءات على أرض الواقع، فعملية اعتماد الأطباء الأجانب في ألمانيا هي مهمة بيروقراطية للغاية ومعقدة. تشترط في البداية الخضوع إلى اختبار الكفاءة الطبية بهدف مطابقة المعايير، وقد تستغرق هذه العملية نحو عام كامل.
ويزداد الأمر تعقيدا بشأن الحصول على تصريح عمل، حيث هناك 22 دائرة اعتماد في أنحاء ألمانيا في هذا الشأن، وفي بعض الحالات تختلف المعايير من دائرة إلى أخرى.
كما أن التحدي الأكثر شيوعا أمام الوافدين الجدد للحصول على ترخيص العمل رسميا في القطاع الصحي بألمانيا، يرتبط بضرورة إتقان اللغة الألمانية، وهذا التحدي -أيضا- قد يستغرق وقتا.
وبحسب قانون الرواتب في القطاع العام، تُعتمد المعادلة والرواتب قياسا إلى المؤهلات المطلوبة وعدد ساعات الدراسة والعمل في البلد الأم، وفي كل الحالات فإن النقص في الممرضين كبير في المؤسسات الصحية لهذا يجري استقدام الأجانب على نطاق واسع، بحسب الممرض التونسي مالك السماعلي الذي وصل إلى مدينة فرانكفورت قبل تفشي جائحة كورونا.
ويقول السماعلي للجزيرة نت إن غالبية الممرضين الوافدين يضطرون للانتظار أشهر عدة لمعادلة تكوينهم، مما يؤثر هذا في قيمة المرتبات التي يتقاضونها في الأشهر الأولى.
حبل نجاة
وينظر إلى المرحلة التالية من قانون الهجرة الجديدة كحبل نجاة لكثير من الباحثين عن فرص عمل داخل السوق الألمانية بإجراءات أقل تعقيدا.
وفي هذه المرحلة، أوضحت الوكالة الاتحادية للعمل، أنه يمكن للأجانب ذوي الخبرة المهنية الذين حصلوا على درجة جامعية أو على تدريب مهني لمدة لا تقل عن سنتين في الخارج، بالإضافة إلى خبرة مهنية لا تقل عن سنتين كذلك، أن يمارسوا في ألمانيا مستقبلا مهنة تتطلب مؤهلا.
وذكرت الوكالة أن هذه القاعدة تنطبق على المهن غير المنظمة -التي لا تتطلب ترخيصا أو تنظيما من السلطات المختصة- حتى لو كان الاعتراف بمؤهل المتقدم لا يزال معلقا في ألمانيا، ومن أمثلة المهن المنظمة التي لا تخضع لهذه القاعدة: التمريض والطب والهندسة المعمارية والوظائف الحكومية.
تقدم ألمانيا نفسها شريكا ملتزما بإستراتيجية الاستدامة وتبني أهداف الأمم المتحدة الـ17 المدرجة في “أجندة” 2030، ومن بينها: مكافحة الجوع والفقر والحصول على ماء نظيف، وتعميم التعليم والمساواة بين الجنسين.
لكن على أرض الواقع تتضارب هذه الأهداف مع سياسة الحكومة في استنزاف الخبرات والعمال المهرة في قطاعات حيوية وحساسة؛ مثل: الصحة بدول الجنوب، مع الإبقاء في الوقت نفسه على قيود عدة في مجال الهجرة وضد حرية التنقل.
طيف الاستعمار
ولا تتردد منظمات حقوقية في تشبيه علمية الاستقطاب الكبيرة للكوادر والأطباء عبر برامج هجرات انتقائية، بممارسات حقبة الاستعمار المستنزفة للموارد الطبيعية لدول الجنوب، عبر سياسات تتعارض في نتائجها وآثارها مع قواعد سلوك منظمة الصحة العالمية، وهو ما نبهت إليه “ميديكوس موندي سويس” وهي شبكة المنظمات السويسرية العاملة في مجال الرعاية الصحية على الساحة الدولية.
وعلى سبيل المثال، يغادر تونس سنويا 80% من الأطباء الشبان حديثي التخرج، البلاد نحو الدول الأوروبية (ألمانيا وفرنسا بالأساس)، بحسب إحصاءات تعود إلى 2023 نشرتها عمادة الأطباء التونسيين.
وأثّر هذا بشكل كبير في خدمات قطاع الصحة العمومية في المناطق الداخلية البعيدة عن العاصمة، حيث تفتقد المستشفيات إلى أطباء الاختصاص.
ويقول سفيان بن حسن وهو مدير مدرسة خاصة لتعليم اللغة الألمانية في تونس، للجزيرة نت إن كثيرا من خريجي الجامعات يقدمون على تغيير تخصصاتهم للدراسة أو للتدريب في أحد مجالات القطاع الصحي؛ من أجل الحصول على فرص أكبر للعمل في ألمانيا.
وردا على التحفظ المعلن، يقول ممثل الوكالة الألمانية للتعاون الدولي غروبر إن ألمانيا لا تحاول استقدام العمالة التخصصية التي تكون بلدانها بحاجة إليها. مضيفا في حديثه لموقع “دوتشلاند” التابع لوزارة الخارجية أن السلطات تراعي في عملية اختيار البلدان الشريكة، المعايير وقواعد السلوك لمنظمة الصحة الدولية.
وأكد أن وكالة العمل الاتحادية ووكالة التعاون الدولي، تعملان على استقدام العمالة بعد موافقة الجهات الحكومية الرسمية في البلدان الأصلية، ومراعاة أوضاع سوق العمل فيها.
مكاسب متعددة
وتقول وكالة التعاون الدولي إن برنامج “المنفعة الثلاثية” يتيح تحقيق مكاسب لأطراف ثلاثة، أولهم: العاملون في مجال الرعاية، حيث يمكنهم العمل والحياة في ألمانيا في ظل ظروف مناسبة ويحصلون على أجور عادلة، والثاني: يخص أرباب العمل في ألمانيا، الذين يمكنهم ملء الوظائف الشاغرة بعمالة تخصصية مؤهلة، كما يساعد البرنامج البلدان الأصلية على خفض نسبة البطالة لديها وفتح الباب أمام هجرة مضمونة وعادلة.
وحتى 2023 يشكل الأطباء الأجانب حوالي 15% من إجمالي الأطباء المباشرين في ألمانيا، ومع ذلك فإن النقص لا يزال كبيرا خاصة في المناطق الريفية، وأعلنت وزارة الصحة الألمانية أنها خصصت 23 مليون يورو لتمويل المشروعات الموجهة لسد الفجوة.
ولكن التحدي الأخطر أمام الحكومة الألمانية سيكون على المدى المتوسط والبعيد، حيث توقعت نتائج دراسة أعدتها منظمة “روبرت بوش” منذ 2021، أنه بحلول 2035، سيكون هناك حوالي 11 ألف وظيفة طبيب أسرة شاغرة في ألمانيا، بجانب نقص في الخدمات الصحية والعرض يشمل حوالي 40% من مناطق البلاد من بينها المناطق الحضرية.
ويضاف لذلك توقعات بتراجع أعداد الأطباء الممارسين في مراكز الرعاية الحكومية بنسب متفاوتة تصل أقصاها إلى نحو 50% في عدد من المناطق.