“يا تلاميذ غزة علمونا”… هكذا تكلم نزار قباني عن فلسطين

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن التاريخ لم يمض أصلا!

وكأننا عالقون في حلق الصهيونية شوكة متمردة، فلا هي قادرة على لفظنا، ولا نحن نرضى بغير اختناقها واندحارها حلا لقضيتنا!

ها نحن بعد نحو 35 سنة نردد ما قاله نزار قباني مخاطبا أبناء غزة، فمن أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت سنة 1987 كتب نزار “يا تلاميذ غزّة علّمونا…”، ولا نزال حتى يومنا هذا نتعلم من أبناء غزة معاني المقاومة المكللة بالعزة والكرامة، المُدجَّجة بالحجارة وحدها سلاحا فتيا ثائرا في وجه الصهاينة ومشروعهم الوجودي في أرض فلسطين الحبيبة، أرض الأنبياء، ومسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- الأرض المباركة كما جاء وصفها في القرآن الكريم في سورة الإسراء في قوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.

منذ متى وغزة الأبية تواجه العدو الإسرائيلي وتقاوم براثنه؟

منذ متى وغزة العزة بعنفوانها وثباتها مصدر إلهام حي وحقيقي لشعرائنا الأحرار، وقلب عربي نابض بالحق والكفاح والمقاومة؟

منذ متى وغزة العزة بكل ما يطوّقها من قتل وذعر وتشريد، هي جرحنا الدامي، وقلبنا المليء بالإيمان بالقضية، وروحنا المشعة التائقة المتطلعة إلى وحدة الأمة الإسلامية وعزتها وسلامها؟

وما زالت غزة في كل جولة تدوس القناع العربي الزائف… لك الله يا درعنا المنيع يا غزة الأبية، فقد صدق محمود درويش حين قال:

لا أَحَدْ…

سقط القناعُ

عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم

عَرَبٌ وبارعوا رُوْحَهُم

عَرَبٌ… وضاعوا

سَقَطَ القناعُ

في انتفاضة فلسطين الأولى التي سميت بانتفاضة الحجارة علمنا أطفال غزة معنى أن يرضع الوليد من ثدي المقاومة، أن يسري في عروقه معنى الشهادة، وأن ينشأ في حضن القضية، ليشبّ شهيدا جميلا يسير على أحلامنا، وترفرف له قلوبنا أن يا للشهيد.

لم يكن لديهم من سلاح آنذاك سوى حجارة من كرامة يرمونها بأياد من عزة وإباء، يسارعون بأرواح متوهجة بالإيمان بالحق وأقدام ثابتة على طريقه، مطالبين بالأرض والعرض، باذلين أنفسهم حتى اقتلاعها من براثن الصهيونية، فإما النصر وإما النصر! فالشهادة عندنا نصر!

يقول في ذلك نزار قباني معجبا بصلابة أبناء غزة وعنفوانهم، مستنكرا على العرب تخاذلهم عن نصرة إخوانهم:

يا تلاميذَ غزّة

عَلّمونا بعضَ ما عندكم فَنَحنُ نِسينا

عَلِّمونا بأن نكونَ رجالًا

فلدينا الرِّجالُ صاروا عَجينا

عَلّمونا كيف الحجارةُ تغدو

بين أَيدي الأطفالِ ماسًا ثَمينًا

كيف تغدو درَّاجة الطِّفلِ لُغمًا؟

وشَريط الحرير يغدو كَمينًا

كيف مصّاصة الحليب

إذا ما اعتقلوها تحوَّلت سِكِّينا

استطاع أبناء غزة وأطفالها أن يقاوموا جيشا مجهزا بأفضل العُدَد والعتاد وأكثرها تطورا بقلوب من حجارة، تصدح على أغصان الحرية، مناشدة ما تبقّى من نخوة عربية طال سُباتها! فأصحاب القرار العربي نائمون، وذوو العزم والقوة منهم مقيدون مكبلون، وأبناء العروبة غارقون في وحول تركها لهم الاستعمار الذي استوطن أوطانهم، ومشتتون في أصقاع من الهموم التي أكلت أذهانهم وفرّقت أهدافهم، وشوّهت فكرة الانتماء لديهم، وحَدَّت من امتداد ظلال الأمة الواحدة باقتلاع جذورها وقطع النشء الجديد عن مقومات هويته الدينية والوطنية والقومية.

لم يقتصر الأمر على تخلي بعض الإخوة العرب عن دعم الفلسطينيين في انتفاضتهم ومساندتهم، بل تعداه إلى التطبيع مع العدو والوقوف في صفه، وكأن دعم القوى العالمية له لم يكن كافيا! وها نحن اليوم نرى فجور العالم صارخا في وجه الإنسانية التي يصوغها كما يحلو له وبما يخدم مصالحه وأهدافه!

الدول الكبرى -التي جعلناها كبرى- تدعم إسرائيل اليوم، وتدافع عنها بكل وضاعة، وهي تنظر في عيون الحق الأبلج بكل صفاقة! والدول العربية يترأسها صُمٌّ بكمٌ عميٌ…

ما الذي تركوه لنا حتى قال عنهم نزار:

سأقُولُ، يا قَمَرِي، عن العَرَبِ العجائبْ

فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ؟

أم مثلنا التاريخُ كاذبْ؟

شوّهوا تاريخنا بالحاضر المخزي الذليل، وفتقوا الجراح ونكؤوا الندوب، وصيّروا فينا العجز واليأس، وباتت عروبتنا عارا علينا، ولعنة انتماء، وصرنا جميعا نهتف بقول نزار:

أنا يا صديقة متعب بعروبتي

فهل العروبة لعنة وعقاب؟

أمشي على ورق الخريطة خائفا

فعلى الخريطة كلنا أغراب

لولا العباءات التي التفوا بها

ما كنتُ أحسب أنهم أعراب!

ألا يحق لنا اليوم أن نصرخ ألما ونتشظى غيظا وعجزا، ونحن نسمع أحد المحسوبين على قادة العرب يفاوض على تهجير أهلنا في غزة!

كان شاعرنا الثائر يتساءل:

ما للعروبـة تبدو مثلَ أرملة؟

أليس في كتب التاريخ أفراح؟

لم تعد العروبة أرملة يا نزار، فقد دُفنت عروبتنا بدون جنازة ورفات!

لكنّها غزة، تلك المدينة العزيزة المنيعة العصية على طأطأة الرأس والانكسار…

يا أبناء غزة، يا أحبابنا الأبطال، يا نصرنا الجميل المدمّى:

“لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا

اضربوا… اضربوا بكل قواكم

واحزموا أمركم ولا تسألونا

نحن أهل الحساب والجمع والطرح

فخوضوا حروبكم واتركونا

إننا الهاربون من خدمة الجيش

فهاتوا حبالكم واشنقونا

نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى

لا يملكون عيونا

قد لزمنا جحورنا

وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنّينَ

قد صغرنا أمامكم ألف قرن

وكبرتم خلال شهر قرونا”

يا أبناء غزّة… علّمونا الجنون!

يقول نزار قباني في قصيدته (يا تونس الخضراء):

إن الجنون وراء نصف قصائدي *** أوليس في بعض الجنون صواب؟

بلى يا شاعر الياسمين! أتراك كنت ترى بلحظ الشاعر وحسه وإلهامه أننا سنصل يوما إلى عصر يمور فيه الجنون حتى نكاد نذهل عن أنفسنا ونحن نحاول أن نفهم ما يجري من حولنا من تكالب الدول والأمم وخذلان القريب والبعيد، إلى عصر يتصدّر فيه الإمّعة، ويتطاول فيه السفيه، ويُباري فيه العقل ريح الجنون المستعرة في كل نفس نتجاذبه… يا أبناء غزّة… يا نبض الأمة ويا أحرارها:

“يا تلاميذ غزة

أمطرونا بطولة وشموخا

إن هذا العصر اليهودي

وهمٌ سوف ينهار

لو ملكنا اليقينا

يا مجانين غزة

ألف أهلا بالمجانين

إن هم حرّرونا

إن عصر العقل السياسي

ولّى من زمان

فعلّمونا الجنونا”.

إنّ طوفان الأقصى الذي صنعه من كانوا تلاميذ غزة بالأمس، فصاروا أبطال الدنيا اليوم هو أجمل أشكال الجنون في عصر العقل السياسي الجبان والعقلانية الخانعة المخاتلة، فلنغترف من نهر الجنون الذي يصنع الكرامة والإباء، والذي يعيد لنا وجودنا على الخارطة بعد أن ضيّعنا عليها المتخاذلون تحت ستار من العقل السياسي الخانع الجبان، أولئك الذين قال عنهم نزار:

“نتعاطى القات السياسي والقمع

ونبني مقابرا وسجونا

يا تلاميذ غزّة

حرّرونا من عقدة الخوف فينا

واطردوا من رؤوسنا الأفيونا”

إن وعد الله كائن لا محالة، ونصره قادم لا ريب فيه، فاعملوا فإنه يرى، وإنكم العالون ومن خذلوكم هم السافلون الأسفلون، وتمسكوا بحبل الله ووعده ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *