في دراسته الصادرة حديثا في 270 صفحة يقارب الكاتب والباحث اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني موضوع “الهجرة والمهاجرون في الأدب اليمني المعاصر”، متوقفا أمام تمثيلات الهجرة وأسبابها في نصوص سردية وشعرية يمنية.
تحاول الدراسة/ الكتاب استقراء وتحليل أبرز النماذج الأدبية -سردية وشعرية- في أدب اليمن المعاصر التي اتخذت من قضية الهجرة خلال القرن الـ20 إلى جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا ودول الخليج العربي موضوعات لها.
تنتظم الدراسة في 3 مباحث يحيط الأول بمفهوم “الهجرة” كما تظهر عند دارسي موضوع الهجرة في النصوص الأدبية المختلفة، وكيف تعامل الأدباء المعاصرون مع قضية الهجرة بوصفها مشكلة اجتماعية لها أسبابها ونتائجها.
ويهتم المبحث الثاني بتتبع “الأسباب والتمثيلات” للهجرة والدوافع التي قادت الشخصيات الرئيسية في النصوص المدروسة لترك الوطن إلى مهاجر مختلفة، أما المبحث الثالث فيحلل نصوص الريادة والنصوص اللاحقة من الأدب اليمني المعاصر والمرتبطة بالهجرة.
ووفقا للدراسة، فقد خاض المنتج الأدبي اليمني المعاصر في موضوع الهجرة من منطلق “متلازمة الأدب بأسئلة المجتمع الحيوية”، ومنها أسئلة الهجرة والاغتراب.
ومن هنا، فإن مقاربة الكتابة الأدبية لموضوع الهجرة لم تكن ترفا، بل معاينة لقضية مجتمعية لعبت دورا مهما في تاريخ اليمنيين الطويل.
وتخلص الدراسة إلى أنه من جملة 12 عملا أدبيا مدروسا شكلت الرواية القوام الأهم في ذلك بنسبة تزيد على 65%، لأن الكتابة السردية والروائية على وجه الخصوص هي من أكثر الفنون تطويعا لقراءة الأشياء المنظورة وغير المنظورة، ولها قدرة على الإحاطة بتفاصيل دقيقة في حياة الناس وتموضعاتهم بالأمكنة.
صورة بانورامية للشتات اليمني
وقدمت الأعمال الروائية المدروسة صورة بانورامية لشتات المهاجرين اليمنيين في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا وبريطانيا والسعودية وعن ترحال البعض منهم إلى أستراليا والكاريبي، حيث تتجلى أزمنة الهجرة اليمنية من بداية القرن الـ20 وحتى نهايته.
وتُبرز الدراسة مستويات متعددة من الريادة الجمالية في نموذجين: الأول في النص الروائي “يموتون غرباء” لمحمد عبد الولي، والآخر في النص الشعري “الغريب” لمحمد أنعم غالب، وريادة زمنية في رواية “فتاة قاروت” لأحمد عبد الله السقاف، ويظهر أن لهذه الأعمال تأثيرا على أعمال لحقتها لآخرين.
ويلاحق “الماضي” كل مهاجر في النص الأدبي يضغط عليه في هجرته، فيصير ثقيلا “على ظهور حامليه من المهاجرين الأشقياء” مثل صخرة أسطورية تارة أو مثل طيف يراد استعادته في صورة مثال مدمِّر أو أحلام تتبخر بعد أن تكون في متناول اليد.
البحر تيمة الهجرة
لكن الدراسة تشير إلى أن بعض الأعمال السردية اليمنية التي عنيت بالهجرة التفتت إلى “مشكلة العبودية” كمعضلة اجتماعية كانت سائدة حتى الستينيات من القرن الماضي.
وتتمحور التمثيلات الرئيسية للهجرة وسماتها في النص الأدبي اليمني المعاصر في “البحر” بوصفه التيمة الأبرز للهجرة، سواء كان ممرا لانتقال المهاجر من مكان إلى آخر، أو مكان عمل حيث أغلب المهاجرين (في النصوص) ركبوا البحر أو عملوا على ظهر السفن كبحارة في الأغلب، ونادرا كصيادين.
وهناك أيضا “الأمية” التي كانت العنوان اللافت في التكوين المعرفي لمعظم المهاجرين في النصوص الأدبية، تظهر كسمة من سمات الهجرة، لكن الأميين استطاعوا اكتساب مهارات ومعارف ودراية بالبلدان وثقافات الشعوب التي هاجروا إليها، فصاروا يعيدون إنتاجها في حكايات يروونها هم أو يرويها غيرهم عنهم.
وثمة “الحلم”، حيث لكل مهاجر حلمه الخاص به، سواء العودة إلى الوطن أو غير ذلك، ناهيك عن محاولات التخلص من “الماضي” الذي يعد سمة رئيسية من سمات الهجرة، إما بالتخلص منه عبر محاولة التموضع خارج نسقه المؤلم أو استدعائه كطيف جميل في الذاكرة.
وفي مقاربته لـ4 نصوص قصصية من أعمال القاص زيد مطيع دماج اتخذت من موضوع الهجرة منطلقات للكتابة والمعالجات الجمالية ينوه الباحث بغنى التجربة القصصية لدى دماج، فهي “تعكس اعتراضاته على السائد من قيم متوارثة جهلا وتقييدا”، في ظل تغييب الوعي داخل المجتمع كمظهر للتخلف الذي بني على أساسه النظام والقوى التي تحكمت في السلطة باليمن قبل قيام الجمهورية.
وثمة موضوع مركزي طَرَق أسباب الهجرة عند شخصيات رواية “قرية البتول” لمحمد عبد الولي بكثير من المباشرة والقوة، مما عده الباحث “واحدة من دعامات دراسته”، حيث تعدد الشخصيات وقربها من بعضها وتماثلها في وضعها، فجميعها شخصيات “أمية” لا تقرأ ولا تكتب، كما أنها فقيرة تنتمي إلى طبقات العمال والفلاحين الريفيين.
وتلحظ الدراسة في تتبعها موضوع “الهجرة الجديدة والعبودية” في رواية “سالمين” لعمار باطويل حالات اندماج الشخصيات الرئيسية في مجتمع “جدة” الجديد رغم ماضي العبودية الذي يثقل كاهل بطل الرواية.
وفي “طيف ولاية” للروائية عزيزة عبد الله تتبع الدراسة ترحال المهاجر “ناجي” في رحلة البحث عمن تسبب بشقاء عائلته، وعودته محملا بخيبات كبرى مسترشدا بطيف حبيبته ولاية، حيث ترميزات النص ومحمولاته تفتح بابا إلى ثنائية الأنا والآخر.
“جحيم أميركا”
ولم يكن المجتمع الأميركي بعيدا عن حياة المهاجرين اليمنيين ضمن قراءة “الهجرة الجديدة” كما تناولتها “أشياء خاصة” المجموعة القصصية لعبد الناصر مجلي، وتاليا في روايته “رجال الثلج”، حيث يصير الخارج جحيما مضاعفا.
ويبين الباحث أن الهجرة كمشكلة اجتماعية واقتصادية بتموضعها الزمني خلال القرن الـ20 قد اجتذبت أدباء معاصرين للكتابة عنها، مستلهمين أدوات تعبيرية وتقنيات كتابية جديدة.