مصر.. رحيل سيزا قاسم آخر سلالات الذهب من مؤسسي ثقافة الحداثة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

رحلت عن عالمنا، قبل يومين، الدكتورة سيزا قاسم عن 89 عاما بعد أن قضت جل حياتها في خدمة النقد والثقافة العربية، فكانت أحد أبرز الأسماء وأهمها بين النقاد العرب المعاصرين الذين تخصصوا في دراسة الأدب المقارن، سواء كان معاصرا أم من التراث.

ولم تكن سيزا قاسم مجرد ناقدة أدبية فقط، بل كانت صوتًا قويا للوعي الثقافي والسياسي، وعبّرت عن آرائها بشجاعة وعقلانية، وقدمت تحليلاتها النقدية للأدب والثقافة في ضوء التحديات الراهنة.

دافعت سيزا قاسم كثيرا عن سؤال المنهج وعن حق الإنسان العربي في المعرفة، وترى أن تزييف المعرفة وحجبها، وفرض منظور الأيديولوجية السائدة على المجتمع من خلال ما تسميه القمع المعرفي، من المشكلات الجوهرية التي يعاني منها المجتمع العربي، ومن ثم يقع العبء على الأدب في أن يفضح هذا الزيف وأن يكشف النقاب عن الحقيقة.

ولهذا دانت في أعمالها النقدية الاستبداد والتسلط والقمع والظلم الاجتماعي، داعية إلى دمقرطة الحكم وإحقاق إنسانية الإنسان، وكان لديها الشجاعة النقدية التي لا تخضعها لعبادة الأصنام الثقافية، وتجأر بصوتها في وجه الجميع مهددة بخرق حد الصمت، ومنددة بالسكوت الذي يتساوى مع الاشتراك في الجريمة.

إنتاج قليل وحصاد غزير

لم تقدّم سيزا قاسم كثيرا من الأعمال النقدية أو الفكرية، فلم يشغلها الكم بقدر ما كان يشغلها الهم الإنساني بأن تعبر الأعمال الأدبية عن آمال الإنسان وطموحاته، وتفتح له في الأفق نافذة يجد فيها الخلاص، لذا جاءت كل أعمالها بمثابة الثورة في مجالها، تهدم قديما وتشيد جديدا على أنقاضه.

كانت رسالتها للدكتوراه عن “الواقعية في الرواية المصرية.. بحث في ثلاثية نجيب محفوظ”، لقد كان الأمر مستغربا وفريدا في نهاية السبعينيات، إذ كيف يتم التصديق على دراسة أكاديمية مقارنة تقوم على عمل واحد فقط؟

ومثلما كانت رسالتها عصفًا بالتقاليد الأكاديمية، كانت فتحا في الرؤى النقدية للأدب العربي، حيث أرادت أن ترسم صورة للواقع المصري والتاريخ من أسفل من خلال رؤية مكبرة.

في هذه الدراسة، ولأول مرة وضعت يدها على تأثر أديب نوبل نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة بمدارس غربية ثلاث: المدرسة الواقعية الفرنسية متمثلة في أونوريه دي بلزاك وغوستاف فلوبير، والمدرسة الطبيعية (مذهب الطبيعة) متمثلة في إميل زولا، ومدرسة الروائيين الإنجليز الإدوارديين مثل غولزورذي وبينيت.

أما كتاب “القارئ والنص” فبحث في موضوع القراءة والقارئ ونظرية التلقي، وقيمة النص ودلالته ومعناه، وضعت مجموعة من التساؤلات على طاولة التشريح الأدبي: هل يمتلك النص قيمة بذاته أم تقوم هذه القيمة في كاتبه أم إن القارئ هو من يخلع مثل هذه القيمة عليه؟ أو بالأدق ما طبيعة العلاقة بين القارئ والنص الأدبي؟

من هذا المدخل سعت الدكتورة سيزا قاسم لتناول قضية القراءة في أصولها المعرفية بين القارئ والنص الأدبي، منطلقة في ذلك من فكرة مسلم بها تقول إن اللغة هي الملكة التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات، فكيف يستقبلها الإنسان؟ وكيف تنتقل الدلالة من منبع ما إلى مستقبِلها؟ أو كيف يفهم البشر بعضهم بعضا؟

التراث والهوية

ويأتي كتابها التراثي عن ابن حزم الأندلسي وعمله “طوق الحمامة في الأُلفَة والأُلَّاف”، الذي كان موضوع رسالتها للماجستير في 1971، عن علاقتنا بالتراث، إذ ترى أنه لم يعد هناك الاهتمام الكافي بالنصوص التراثية الكبرى.

الكتب التي أنتجتها والمناهج الجديدة التي عملت عليها، واقتحامها قضايا كانت جديدة تماما على مجتمعاتنا، جعلت إنتاجها يعبّر عن موضوعات خلاقة، يعود ذلك في الأساس إلى إلمامها بالثقافتين الغربية والعربية، ودرايتها الكبيرة بالتراث العربي، مما جعلها واعية تماما بالأنا في مواجهة الآخر، وأن ما نملكه قد يكون أفضل كثيرا مما نستورده.

لكن رحيل سيزا قاسم يعد بمثابة صدمة للأوساط الثقافية المصرية والعربية، حيث تقف كتبها وأفكارها ورؤاها النقدية بمثابة العلامات الثقافية الرائدة، وتبارى تلامذتها وزملاؤها وأصدقاؤها في الحديث عنها، ونحن هنا نلتقي مع من كان أكثر قربا منها، وأكثر فهما لأعمالها.

رائدة تيار الوعي

أول من أعلن خبر رحيلها كان الناقد طارق النعمان، الذي كان لها بمثابة الابن والتلميذ والصديق، يقول “منذ أن عرفتُها وهي تمثل لي نصًا إنسانيا وأكاديميا حافلا بالقيم والمبادئ الجليلة والجميلة والراقية المتمثلة في الجدية، والإخلاص، والدأب، والمثابرة، والإتقان، وعدم المساومة على القيم العلمية والأكاديمية بأي صورة من الصور، وعدم خلط القيمة العلمية بالمصلحة الشخصية أو بالمجاملة مهما كانت علاقة الأفراد بها ومهما كان ما تَكنّه من حب لهؤلاء الأفراد”.

ويكمل النعمان “المتابع لخطاب سيزا قاسم النقدي يلفته هذا التنوع الثري بين فضاءات الثقافة العربية المختلفة من الخطاب النثري التراسلي القديم كما في رسالة طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، إلى الخطاب الروائي المعاصر على نحو ما يتجلى في دراستها البالغة التميز “بناء الرواية” في ثلاثية نجيب محفوظ ومقارنتها بكل هذا العدد الضخم من الروايات الغربية وكل هؤلاء الروائيين: أوجيني جرانديه لبلزاك، ومدام بوفاري لفلوبير، والمطرقة والفريسة لزولا، وثلاثية غولزورذي لفورسيت ساجا، والبحث عن الزمن الضائع لبروست، ومدام دالوي لفرجينيا وولف كممثلين لرواية تيار الوعي”.

أصوات متعددة

ولم يقف جهدها عند رواد تيار الوعي، بل انتقل إلى الخطاب الديني، والتفسير على وجه التحديد لدى مفسرين وبلاغيين من أمثال الطبري والزمخشري والرُّماني، وعلماء علوم قرآن مثل الزَّركَشي والسيوطي، إلى الخطاب التاريخي لدى الطبري والمسعودي وابن خلدون، فالتنظير لمفهوم الخبر في التراث العربي.

ويشير النعمان إلى التحليل المتنوع لنماذج الخطاب السردي المعاصر ما بين روايات وقصص قصيرة على نحو ما يتجلى في كل تلك الدراسات الشديدة العمق والتكثيف في كتابها “’روايات عربية.. قراءة مقارنة”، وإلى جهدها الكبير في حقول الشعر المعاصر، وإلى نظريات السيميوطيقا (علم العلامات) وقراءة المكان والزمان في الشعر الجاهلي.

ويضيف النعمان “لا يخفى عن الدارسين جهدها الكبير في نظريات القراءة في الهرمنيوطيقا (علم التأويل) وفي التراث العربي على نحو ما تتجلى في شروح أو قراءات الشريشي للمقامات، إلى خطاب الصورة والفنون التشكيلية على نحو ما هو في كتابها “القارئ والنص.. العلامة والدلالة”، وفي قراءتها صور ولوحات مارجو فييون عن النوبة، إلى السيميوطيقا وأحدث منجزاتها، إلى الصمت كخطاب يملك شفراته الخاصة، إلى المقارنة بين خطاب الجنون بين إرازموس وعقلاء المجانين للنيسابوري، ووصولًا إلى العلاقة بين التاريخ والرواية.

وللدكتورة سيزا قاسم العديد من الترجمات المهمة في اللغويات، من بينها النظرية الأدبية والسيميوطيقا، وتحريرها أول وأهم كتاب صدر عن السيميوطيقا في العالم العربي، وهو كتاب “مدخل إلى السيميوطيقا.. أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة”.

المؤسسون للثقافة الحداثية

ويصف المفكر والناقد نبيل عبد الفتاح سيزا قاسم بأنها واحدة من الجيل المؤسس للثقافة الحداثية المعاصرة في مصر والمنطقة العربية، ولهذا كان رحيلها مثار حزن وصدمة للكثيرين من تلامذتها وزملائها وأصدقائها المقربين.

ويضيف عبد الفتاح للجزيرة نت أن سيزا قاسم تعد واحدة من أهم نقاد الأدب المقارن في مصر والعالم العربي، ويعود ذلك إلى أنها جمعت المعرفة العميقة بجواهر الثقافتين الفرنسية والعربية، ومعرفتها المنهجية بالتراث والأدب العربي الحديث، وإلمامها العميق بالمعرفة في الأدب المقارن وخاصة في مجال الدراسات النظرية والتطبيقية وتطوراتها المختلفة في الحقل الأدبي، وهو ما يظهر جليا في دراستها المهمة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد “مدخل إلى السيميوطيقا” وكتابها “القارئ والنص”.

غلاف سيزا قاسم ونصر حامد أبوزيد

وتجلت هذه المعارف والتطورات المذهلة في ثورة “اللسانيات” التي شكلت نقلة كبيرة في الدراسات النقدية والسياسية والسوسيولوجية، والتي تعد إحدى مزايا العقل النقدي لسيزا قاسم، لتكون بهذه الصورة مثالا لا تجد له نظيرا في كليات الآداب، مثلها في ذلك مثل جابر عصفور وعبد المنعم تليمة وأستاذتها سهير القلماوي.

ويؤكد عبد الفتاح أن سيزا قاسم قدمت في أطروحتها لنيل درجة الماجستير دراسة رائدة وجديدة عن كتاب “طوق الحمامة في الإلف والإيلاف” لابن حزم الأندلسي، اتبعت فيه التحليل المقارن مع نظائره في الأدب الغربي، وكذلك رسالتها لنيل درجة الدكتوراه عن “الواقعية الفرنسية والرواية العربية”، وهو ما ظهر في كتابها “بناء الرواية”، وهذا الكتاب قال عنه نجيب محفوظ إنه من أهم الكتب التي تناولت الثلاثية (قصر الشوق، وبين القصرين، والسكرية) بالدراسة والتحليل.

خطاب نقدي شجاع

ويستطرد عبد الفتاح “فوق التميز الأدبي والنقدي العميق، اتسمت سيزا باللطف الإنساني والشجاعة الأدبية مع طلابها وزملائها، وعلى الرغم من انتمائها للطبقة العليا في مصر قبل 1952 وبعدها، فإنها كانت تملك رؤية معتدلة في أمور المجتمع، وكانت منحازة للطبقات الضعيفة من المجتمع بكل أشكالها، ولم تقتصر شجاعتها على الواقع الاجتماعي، بل امتدت إلى الخطاب النقدي وموضوعيته”.

وكان لثقافتيها العربية والفرنسية الرفيعتين، بالإضافة إجادتها اللغة الإسبانية، تأثير واضح في لغتها الفاتنة الشائقة التي تتسم بالدقة الاصطلاحية والأسلوبية، بحسب نبيل عبد الفتاح.

آخر سلالات الذهب

أما المترجمة والناقدة منى أنيس فتصف صديقتها سيزا قاسم بأنها من آخر النقاد المثقفين الكبار، وبأنها تتميز بالعمق والمعرفة المتعددة، وهي من مواليد العقد الثالث من القرن العشرين، شبت وسط ثقافة فرنسية ضاغطة، وحصلت على ليسانس الآداب الفرنسية في الخمسينيات، ومع ذلك أرادت لنفسها أن تكون ابنة بيئتها الثقافية محليا وعالميا، لذا اتجهت في دراستها العليا نحو الثقافة العربية، واختارت الأندلس وابن حزم وكتابه “طوق الحمامة” موضوعا لأطروحتها، لتلتحق من جديد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وحصلت على الماجستير في العربية بعد الفرنسية.

وتؤكد أنيس أن “الدكتورة سيزا من سلالة النقاد الكبار من أمثال عبد المنعم تليمة وعبد المحسن طه بدر وسهير القلماوي والدكتور الأهواني، وكل أساتذة العصور الوسطى في جامعة القاهرة، وأستاذهم جميعا الدكتور طه حسين، وإن كانت في قسم اللغة العربية، فإنها تطير بجناحين في سماء الثقافتين العربية والغربية”.

وتبقى دراستها المهمة عن ثلاثية نجيب محفوظ التي حصلت بها على رسالة الدكتوراه من أهم ما كتب عن المدارس الغربية من فوكو ودريدا، وذلك عبر نقد عميق للثلاثية ومقارنتها بروايات الأجيال في الثقافة الغربية أمثال توماس مان وغيره من روائيي الأجيال في أوروبا.

نموذج المثقف الرسولي

وتقول الدكتورة فريال غزول أستاذة النقد بالجامعة الأميركية بالقاهرة وتلميذة وصديقة الدكتورة سيزا قاسم، للجزيرة نت، إن “سيزا قاسم الزميلة والأخت احتضنتني عندما جئت من بغداد إلى القاهرة لأدرّس في الجامعة الأميركية في قسم الأدب الإنجليزي المقارن، وكانت سيزا بتمكنها من اللغات وعمقها الفكري ناشطة ثقافية بامتياز. أنشأنا معا دورية أكاديمية بارزة استمرت في ازدهارها حتى يومنا هذا بفضل سيزا قاسم”.

وأردفت غزول “كما أشركتني سيزا في مشروعها وكتابها عن السيميوطيقا وعلم العلامات، وعرّفتني على المثقفين المصريين، وجعلتني أشعر بالانتماء”. وتضيف “سيزا قاسم نموذج المثقف الرسولي الذي يجمع الآخرين ويوجّههم نحو ثقافة إنسانية شاملة، سلام عليها وعلى نموذجها النادر”.

تفسير القرآن وجماليات اللغة

محمد شعير، مدير تحرير “أخبار الأدب” وأقرب الصحفيين إلى عقل الدكتورة سيزا قاسم ونافذتها التي تطل منها على الحالة الأدبية في مصر، تحدث للجزيرة نت قائلا “قبل يومين من رحيلها، كتبت سيزا قاسم تدعو بأن تموت بلا ألم، وكان أن تحققت أمنيتها بعد تعب بسيط دخلت المستشفى لساعات لتغادر بعدها”.

ويضيف شعير “لم أتعامل مع سيزا باعتبارها مجرد ناقدة نزيهة أضافت إلى مناهج النقد الأدبي العربي الكثير، ولكنها كانت أكبر من ذلك، كانت داعما دائما لكل ما هو جديد، ومرشدا إلى ما ينبغي أن أتابع، كانت بمثابة الأم التي لا تكف عن العطاء”.

وأضاف “فتحت بيتها كثيرا لشباب عديدين، ترشدهم بلا وصاية، وتدعم بلا هدف سوى تلك المحبة والمعرفة، وكنت واحدا منهم، لفتت نظري إلى أشياء كثيرة في تجربة نجيب محفوظ، وإلى مناهج حديثة في الثقافة الغربية أو ما كانت تسميه الأفكار الجديدة في العالم”.

ويؤكد شعير أنه “كان لديها آمال كثيرة في مجال العلم والمعرفة، وكانت آخر أمنياتها أن تفسر إحدى سور القرآن لتبيّن جمالياتها اللغوية، ولكن يبدو أن حلمها الأخير لم يتحقق.. سلاما لها بحجم ما تركته من محبة في نفوس الكثيرين”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *