في قلعة كوتيريه (80 كم شمال شرق باريس) حيث وقع الملك فرانسوا الأول في أغسطس/آب 1539 مرسوم فرض اللغة الفرنسية لتكون لغة إدارية لمملكة فرنسا بدلًا من اللاتينية، وحيث أنشئت أخيرا المدينة الدولية للغة الفرنسية، تنادى رؤساء الدول الفرنكوفونية سعيا لتدارك حالة الانحسار التي تعانيها لغة موليير.
خرجت القمة الـ19 للدول الفرنكوفونية المنعقدة في فرنسا في 4 و5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري والتي شارك فيها ممثلون عن 88 دولة بتوصيات أهمها العمل على تعزيز استخدام اللغة الفرنسية في المؤسسات الدولية، وتفعيل وجودها في مجالات التعليم والسياسة والتكنولوجيا الرقمية. وتناولت القمة أيضا إشكالية بطالة الشباب الفرنكوفوني، ودعت إلى توفير فرص لدمجه مهنيا.
وصادقت القمة على توسيع المنظمة بمنح العضوية الكاملة لكل من قبرص وغانا، ومنح صفة مراقب لكل من: أنغولا وتشيلي ونوفاسكوشا (كندا) وبولينيزيا الفرنسية وسارلاند.
كما تم تناول بعض الأزمات والحروب التي تعصف بالفضاء الفرنكوفوني، وفي هذا الصدد كان هناك إعلان تضامن على استحياء مع لبنان وهو من الدول المؤسسة للفرنكوفونية، ويتعرض حاليا لعدوان إسرائيلي خلّف حوالي ألفي قتيل، لكن الإعلان اكتفى بإدانة الأعمال العشوائية ضد المدنيين دون ذكر إسرائيل.
وقد عبر الوفد اللبناني عن خيبة أمله لغياب إدانة واضحة للعدوان الإسرائيلي، فقد عجز بيان القمة حتى عن تسمية إسرائيل، بل إنه كلما ذكر اسم إسرائيل بادرت العديد من الدول بإعلان التضامن معها والدفاع عنها، وعلى وجه الخصوص كندا ورومانيا وألبانيا.
خريطة اللغة الفرنسية في العالم
يوجد أكثر من 60% من الناطقين بالفرنسية في أفريقيا، وحسب دراسة للنائب السابق لمدير السياسة اللغوية والتعليمية في وزارة الخارجية الفرنسية روجر بيلهيون فإن الناطقين بالفرنسية في العالم يتوزعون على النحو التالي:
قرابة 44% في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، 15% في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، 33% في أوروبا بما في ذلك حوالي 28% في فرنسا، 7% في أميركا، 3% في آسيا وأوقيانوسيا.
واللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في 13 دولة بينها في أوروبا: فرنسا وموناكو، وفي أفريقيا: بنين وبوركينا فاسو والكونغو الديمقراطية والكونغو وساحل العاج والغابون وغينيا ومالي والنيجر والسنغال والتوغو، وهي إحدى اللغات الرسمية لـ16 دولة أخرى بينها بلجيكا وسويسرا والكاميرون وجزر القمر وجيبوتي وتشاد وكندا وهاييتي وغيرها.
كما تعد اللغة الفرنسية لغة موجودة، دون صفة رسمية، في 7 دول أخرى، إذ يتحدث بها أكثر من 20% من السكان في الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا، وفي لبنان وغيرها.
قمم بلا جدوى
في مقال بصحيفة “لي ديفوار”، رأى الكاتب الفرنسي جان فرانسوا ليزيه الذي حضر 4 قمم سابقة للفرنكوفونية أن القمم الفرنكوفونية بلا جدوى وتسير من فشل إلى آخر.
واستدل الكاتب على فشل المنظمة الدولية للفرنكوفونية بأنها سلمت قيادتها لممثلة رواندا التي اختارت اللغة الإنجليزية لغة للدراسة والعمل ولا يتحدث الفرنسية من سكانها سوى 6% فقط، كما أن العديد من ممثلي الدول الأعضاء لم يتمكنوا من الحديث بالفرنسية لأنها لغة غريبة عليهم، كما هو الحال في اليونان (يتحدث 7% من السكان الفرنسية)، وكمبوديا (3%)، وبلغاريا (2%)، وفيتنام (0.7%)، وحتى كندا وهي إحدى الدول المؤسسة الرئيسية للمنظمة لا يتحدث رئيسها الحالي اللغة الفرنسية.
واستدرك الكاتب ليزيه أن المنظمة لا يمكن أن تفعل شيئا ما دامت فرنسا رائدة الفرنكوفونية قد باتت “مستعمرة باللغة الإنجليزية” في كل المجالات؛ الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية، حتى إن الرئيس إيمانويل ماكرون قرر أن تكون بطاقة الهوية الفرنسية من الآن فصاعدا باللغة الإنجليزية، وهو يتولى الإشراف على معارض شعارها Made in France ويطلق مبادرة لجذب الاستثمار الدولي عنوانها “French Touch”.
واعتبر الكاتب أن ما تزعمه منظمة الفرنكوفونية من انتشار للغة الفرنسية ووجود أكثر من 321 مليون ناطق بها غير دقيق، وأعطى مثالا على ذلك بتصنيف مصر دولة ناطقة باللغة الفرنسية في حين أن 3% فقط من سكانها يتحدثونها.
وأضاف أن المعيار الموضوعي لتحديد الناطقين بالفرنسية يكون بحساب عدد الأشخاص الذين تمثل الفرنسية لغتهم الأولى، وحسب موقع Ethnologue المتخصص في لغات العالم فإن الرقم المعقول للناطقين بالفرنسية هو 80 مليونًا.
ويخلص الكاتب إلى أن منظمة الفرنكوفونية تصدق يوما بعد يوم ما يصفها به البعض من كونها مجرد أداة للسياسة الخارجية في أيدي الرؤساء الفرنسيين، وهي الأداة التي بدأت فعاليتها في التضاؤل.
انحسار في المواطن الأصلية
انعقدت القمة الحالية في وقت تراجع فيه الحضور الفرنسي في أفريقيا التي تضم أغلبية الناطقين بالفرنسية إلى أدنى مستوياته وخصوصا في منطقة الساحل التي كانت الحديقة الخلفية لفرنسا، وقد تمت ترجمة ذلك في غياب تمثيل العديد من الدول الأفريقية في القمة.
فقد غابت دول الساحل التي قطعت علاقاتها مع فرنسا وطردت القوات الفرنسية من بلدانها مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر (الدولة التي أعلن منها ميلاد المنظمة الدولية للفرنكوفونية في 20 مارس/آذار 1970).
وكان غياب الرئيس السنغالي بشيرو ديوماي فاي ملاحظا بقوة سواء من طرف الصحافة الفرنسية أو السنغالية، فهذه أول مرة منذ تأسيس المنظمة يقاطعها رئيس سنغالي، فالسنغال عضو مؤسس مهم لعب دورا بارزا في تاريخ هذه المنظمة، وكان الرئيس السنغالي الأول ليوبيد سينغور ممن خدموا اللغة الفرنسية وأحد مؤسسي منظمة الفرنكوفونية، كما تولى خلفه عبدو ديوف منصب الأمانة العامة للمنظمة من 2002 حتى 2015.
وقد اعتبرت ماريا مالاجارديس مراسلة إذاعة فرنسا الدولية في تعليق على غياب الرئيس السنغالي أنه يعكس حالة عدم الثقة تتزايد لدى كثير من الأفارقة تجاه منظمة الفرنكوفونية، بينما رأته صحف سنغالية نذير اضمحلال للمنظمة، ويجسّد اتجاها جديدا في السياسة الخارجية السنغالية عكسته تصريحات رئيس الوزراء عثمان سونوغو الطامحة للتحرر من كل تبعية لفرنسا سواء في المجال العسكري أو السياسي أو الثقافي.
توسع لتعويض الانحسار
في كتاب “الفرنكوفونية.. الوهم الضائع” ترى الكاتبة الفرنسية بيرتين لوبلان أن المنظمة الفرنكوفونية تسعى لتعويض انحسارها في مواطنها الأصلية عبر التوسع خارج الحدود الأفريقية، ولكن المفارقة أن هذا التوسع يشمل بلدانا غير ناطقة أصلا بالفرنسية، فالدولتان مثلا اللتان صادقت القمة الحالية على انضمامها ليس لهما ارتباط واضح بالعالم الناطق بالفرنسية، ففي قبرص يتحدث 6% فقط من السكان الفرنسية ولغتاها الرسميتان اليونانية والتركية، أما غانا فهي دولة ناطقة بالإنجليزية بالكامل تقريبا، مع نسبة 1% تتحدث الفرنسية، وليست تشيلي وأنغولا اللتان منحتا صفة مراقب بأحسن حالا.
وإذا كانت المنظمة الدولية للفرنكوفونية في موقعها الإلكتروني تعرف الفرنكوفونية بأنها في المقام الأول نساء ورجال يتشاركون لغة مشتركة هي الفرنسية، فإن نظرة على قائمة الأعضاء الـ88 تعكس واقعا مختلفا، ففي كثير منها لا تستخدم الفرنسية في الحياة اليومية ولا وجود لها في الدساتير.
هذا التناقض حاولت المتحدثة باسم منظمة الفرنكوفونية تبريره عندما استشكلته الصحافة، فرأت أنه يتم أحيانا ضمّ بعض البلدان بهدف تعزيز حضور اللغة الفرنسية في مناطق معينة، فغانا مثلا بلد محاط بالبلدان الناطقة بالفرنسية وانضمامها يسهم في بناء تكامل فرنكوفوني إقليمي، وينطبق الوضع نفسه ربما على أنغولا الدولة الوحيدة الناطقة بالبرتغالية في منطقة فرنكوفونية، إذ تمت الموافقة على ضمها بصفة عضو مراقب.
لكن هذا التفسير لا ينطبق على عدد من الدول الأعضاء التي لا تستخدم الفرنسية ولا تحاط ببلدان تستخدمها مثل ألبانيا التي لا يتجاوز الناطقون بالفرنسية فيها نسبة 2%، وهي عضو منذ عام 1999، ومولدوفا بنسبة استخدام للفرنسية لا تتجاوز 1%، وهي عضو منذ عام 1996، وكذلك بالنسبة لدول أخرى قديمة العضوية مثل فيتنام (1970) أو كمبوديا (1991) المرشحة لتنظيم القمة المقبلة.
وكانت قطر قد نالت صفة عضو مشارك في المنظمة سنة 2012، وهو المنصب الذي ترشحت المملكة العربية السعودية أيضا للحصول عليه سنة 2018 لكنه ترشح قوبل بالرفض.
العولمة الإنجليزية الجارفة
يفسر المؤرخ الفرنسي ومؤلف كتاب “فرنسا والفرنكوفونية السياسية، تاريخ التجمع الصعب” فريديريك توربين هذا التوسع غير الخاضع للمعيار اللغوي أن فرنسا منذ بداية التسعينيات فرضت انفتاحًا واسعًا في ما يتعلق بالعضوية في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، بهدف مواجهة تيار العولمة “الإنجليزي” الجارف.
وهكذا سعى جاك شيراك إلى تطوير المنظمة الفرنكوفونية لتصبح منظمة دولية كبيرة تستند إلى التعاون الحكومي بين أكبر عدد ممكن من الدول بدلًا من الاستمرار في التركيز على عدد قليل من الدول الناطقة بالفرنسية المحدودة النطاق والمحدودة التأثير.
وقد أقرّت الأمينة العامة الحالية للفرنكوفونية لويز موشيكيوابو بضبابية معايير العضوية الحالية، وطالبت بوضع معايير جديدة ومنطقية لا أن يستمر التوسع من أجل التوسع.
هدف التوسع لذاته دفع المنظمة إلى منح العضوية لكيانات غير حكومية، كما هو حال سارلاند أو نوفا سكوتيا، وهو ما رأى فيه البعض مساسًا بمصداقية المنظمة بل وخرقا للقانون الدولي، حيث تتحكم منظمات في عضوية دولة ذات سيادة وتعلق عضويتها أحيانا.
البلدان الناطقة بالفرنسية أكثر تخلفا
تصنف الأمم المتحدة 7 دول أفريقية ناطقة بالفرنسية ضمن البلدان العشرة الأسوأ تصنيفا في معدلات التنمية البشرية، و3 منها توجد في المراكز الثلاثة الأخيرة: بوروندي، والنيجر، والكونغو الديمقراطية.
وفي تحقيق للصحفي بمجلة جون آفريك آلان فوجاس تحت عنوان “لماذا تتخلف البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية عن الركب؟”، وصف الكاتب منطقة غرب القارة حيث تنتشر لغة موليير بأنها منطقة يغلب على سكانها الكسل والحلم بالهجرة، لكن بمجرد الاتجاه شرقا حيث البلدان التي تسود فيها لغة شكسبير يكون النشاط محمومًا، والمشاريع وافرة، والفواتير تدفع بنقرة زر أو عبر الهاتف.
وخلص الكاتب إلى أن طبيعة التعليم والتكوين، والافتقار إلى البنية التحتية، وضعف ثقافة الأعمال، والفساد الإداري أمور من بين أخرى أدت إلى تخلف الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية عن ركب جيرانها الناطقين بالإنجليزية.
لغة الهيمنة والاستعمار
حسب دراسة لمنظمة “سوليداريتي لائيك” بعنوان “اللغة الفرنسية من الهيمنة إلى التكامل” نشرت في مارس/آذار 2019، فإن اللغة الفرنسية تحتاج جهدا كبيرا لصقلها مما لحقها من أدران بسبب ارتباطها الوثيق بتاريخ استعماري مؤلم جعلها لغة اضطهاد وهيمنة.
وحسب الدراسة، فإن اللغة الفرنسية تصنف في البلدان الناطقة بالفرنسية المتعددة اللغات على أنها لغة النخبة المهيمنة الفاسدة وأداة للفصل الاجتماعي.
ففي معظم هذه البلدان لا يتقن جزء كبير من السكان اللغة الفرنسية، ومع ذلك تُدار السياسة والتعليم والعمل بشكل كلي تقريبا باللغة الفرنسية، وهو ما يولد غبنًا اجتماعيا لأغلب السكان.
ويرى الباحثون اللغويون أن اللغة الفرنسية لغة إقصائية لا تقبل التعايش مع اللغات الأخرى، ولعل من أسباب تخلف الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية فرض تدريس التلاميذ والطلاب باللغة الفرنسية، وهي لغة أجنبية عليهم.
وحسب مقال بعنوان “الإرث الاستعماري للفرنكوفونية” للكاتب عبد القادر خرفوش، فإن اللغة الفرنسية إنما نشرت بسفك الدماء وكانت أداة استعمارية هدفها إخضاع الشعوب وغسل عقولها وشحن ذاكرتها بالقيم الاستعمارية العنصرية.
فالجزائريون مثلا تعلموا من اللغة الفرنسية “أن رينيه كان ذكيا، وأن عليا غبي مثل الحمار”، كما هو مصفوف في الكتب المدرسية خلال الحقبة الاستعمارية.
ولعل ارتباطها بالاستعمار هو ما يفسر أن الجزائر المستعمرة الفرنسية السابقة ليست جزءا من المنظمة الدولية للفرنكوفونية على الرغم من أنها تشكل ثاني مجتمع أفريقي ناطق بالفرنسية بعد الكونغو الديمقراطية.