مارتن لوثر والإسلام.. تمرد على الكنيسة والثالوث ورفض الحروب الصليبية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

لا تزال إصلاحات مارتن لوثر الدينية تُسيل لعاب الباحثين بعد أن قلبت مسيحية أوروبا رأسا على عقب، لكن اللافت في تلك الإصلاحات تقاطع كثير منها مع الإسلام خصوصا في رفض الثالوث والوساطة بين الرب وعبده وصكوك الغفران وتقديس الأشخاص.. فهل تأثر لوثر بالإسلام؟

يعتبر مارتن لوثر (1483-1546) مؤسس البروتستانتية في أوروبا، وهو راهب ألماني تمرد على الكنيسة وألف 95 بندا في العام 1517 ستكون نواة لما عرف لاحقا بالإصلاحات الدينية في أوروبا.

ولعل البند الأبرز في تلك الإصلاحات هو رفض تجارة صكوك الغفران التي أنشأتها بابوية الفاتيكان، وتتمثل في دفع المال للكنيسة مقابل مغفرة جزئية أو كاملة للخطايا والذنوب.

وكان لوثر قد ترقّى في المراتب الكنسية حتى عُمد كاهنا في عام 1507، غير أن أفكاره المتمردة على الكنيسة قادت إلى عقابه بما يعرف في النظام الكنسي بالحرمان وذلك طبقا لقرار أصدره البابا العاشر في العام 1521.

وكان ذلك القرار كفيلا بإعدامه وحرقه، لكن النزعة القومية الألمانية المتصاعدة حينها وامتعاض أمراء ألمانيا من جبايات الأموال التي تمارسها الكنيسة باسم صكوك الغفران وفرت حماية للوثر، حيث رفض الألمان تطبيق القرار البابوي ضده، كما وجدت أفكاره الثائرة على الكنيسة تربة صالحة وحقدا دفينا على الكنيسة والقائمين عليها بسبب ما ترهق به كاهل الناس من جبايات وما تفرضه عليهم من معتقدات.

لوثر والسعي لمعرفة الإسلام

كشف أستاذ التاريخ الحديث بالمعهد اللاهوتي البروتستانتي بباريس بيير أوليفييه ليشو في كتاب أصدره في فبراير/شباط 2021 سعي مارتن لوثر الحثيث للاطلاع على حقائق الإسلام.

واعتبر أوليفييه في كتابه (لوثر ومحمد: البروتستانتية في أوروبا الغربية في مواجهة الإسلام من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر) أن لوثر أراد أن يعرف من خلال القرآن حقيقة الدين المحمدي الذي أعلنته الكنيسة هرطقة، وهو  الاتهام نفسه الذي سيواجه به لوثر بعد انتقاداته للكنيسة.

ويؤكد أوليفييه أن لوثر مضى قدما في تحقيق رغبته في فهم الإسلام، فأيد بشدة ـ رغم موقف الكنيسةـ نشر القرآن المترجم إلى اللاتينية على يد المستشرق السويسري تيودور ببلياندر، بل كتب بنفسه مقدمة لتلك الترجمة.

ويعتبر عالم اللاهوت أن رائد الإصلاح الديني في أوروبا مارتن لوثر كانت له مواقف وصفها بـ”المعقدة إلى حد ما” فيما يتعلق بالإسلام.

ففي حين كانت لدى لوثر رغبة جامحة في معرفة الدين الإسلامي وتعاليمه، وسعى جاهدا لدراسة “القرآن” وفهمه وترجمته إلى اللاتينية، نقل عنه أنه أيضا يعتبر أن الإسلام يشكل تهديدًا خطيرًا على أوروبا، حيث عاصر لوثر حملات تغلغل العثمانيين في أوروبا الوسطى خلال القرن 16.

هل خدم لوثر الإسلام؟

اعتبر الباحث ليشو أن الكاثوليكيين ما فتئوا يتحدثون عن أوجه التشابه بين ما يعتبرونه هرطقة الإسلام وهرطقة البروتستانتية بزعامة مارتن لوثر، ويعتبرونهما عدوّين، أحدهما خارجي يهدد أوروبا بالقوة والآخر داخلي يدعو إلى التشكيك في بعض عقائد الكنيسة، بل إن الفاتيكان اعتبرت الانشقاق البروتستانتي داخل المسيحية أكثر ضررا عليها من الإسلام البعيد والغريب.

ويضيف أوليفييه أن الكاثوليكيين رأوا أن ثورة لوثر على الكنيسة خدمت الإسلام، واعتبروه وأتباعه طابورا خامسا للإسلام في أوروبا، ولهذا السبب طالبت الكنيسة أكثر من مرة البروتستانتيين بتبرير وتوضيح هذه المواقف، تحت طائلة عدم الاعتراف بعضوية البروتستانتية في الأسرة المسيحية.

ويخلص ليشو إلى أن “الإسلام قد كيّف التفكير البروتستانتي بشكل عميق من القرن 16 إلى القرن 18 إلى حد الإخلال بجوانب معينة من هويته”، لكن بالنسبة للمؤلف، فإن تكييف التفكير لا يعني أنه يحدد الاتجاه.

توافق بشأن العقيدة ومريم

اعتبر الباحثون أن الكثير من الإصلاحات الدينية التي تبناها لوثر خصوصا في مجال العقائد تتفق مع رؤية الإسلام، مثل الموقف من الثالوث والموقف من الأقدار، والرغبة في العودة إلى النصوص الدينية التأسيسية، ومنع الصور ورفض تقديس رجال الدين.

ويعطي أوليفييه مثالا حيًّا على التوافق في توحيد الله بين الإسلام وأتباع لوثر، أن عالم اللاهوت الإسباني ميشيل سيرفيت أُحرق حيا في جنيف في العام 1553 وهو يردد “لا إله إلا الله” تماما مثلما يقولها المسلمون؛ رفضا لعقيدة التثليث.

كما أن تيودور ببلياندر الذي نشر الترجمة اللاتينية للقرآن بدعم من لوثر أكد على تقارب النص القرآني مع الإيمان المسيحي، قائلا “إن عقيدة محمد تحمل في طياتها توافقًا كبيرًا مع عقيدة المسيح الأرثوذكسية بقدر ما تعترف بإله واحد حقيقي وتبشر بالمسيح بشكل رائع”.

ويعتبر بيير أوليفييه أن هذا الإقرار يعكس دهشة كاتبه أمام القرآن كنص مليء باحترام المسيح ولا يتحدث بسوء عن مريم العذراء بل يروي قصتها بطريقة أخلاقية مناسبة.

لكن في نفس الوقت -يقول ليشو- فإن التقديم الذي قام به مارتن لوثر لنفس الطبعة اللاتينية حمل انتقادات للقرآن، وهو ما يعتبره أوليفييه حالة من الشك والتناقض طبعت وما زالت تطبع البروتستانتية وعلاقتها بالإسلام، وهذا ما يسميه أوليفييه في كتابه لوثر ومحمد “الاضطراب البروتستانتي في وجه الإسلام”.

هل ساهم لوثر في التعريف بالإسلام؟

في مقال للباحث الفرنسي مالك بدوح نشره في موقع سافيرنيوز في ديسمبر/كانون الأول 2019، تساءل الكاتب: كيف كان ينظر أبو الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر إلى الإسلام؟

وقد ذكر بدوح الانتقادات التي نسبت لمارتن لوثر في التقديم الذي وضعه لأول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية، لكنه اعتبر أن تلك الترجمة ساهمت في معرفة أفضل للإسلام في أوروبا.

ورأى بدوح أن الحركة البروتستانتية التي قادها لوثر أدت إلى تحطيم الوحدة الدينية لأوروبا المسيحية الغربية، حيث إن قيام لوثر وببلياندر بترجمة لاتينية للقرآن ونشرها يعتبر مروقا عن القرار الذي اتخذه البابا كليمنت السادس خلال مجمع فيينا عام 1309 بمنع قراءة القرآن.

وفي إشارة إلى تأثر لوثر بالإسلام، أكد بدوح أن البروتستانت، وفي مقدمتهم لوثر، عارضوا أي فكرة لشن حملة صليبية لهزيمة المسلمين.

لوثر يمارس الكاثوفوبيا

وأورد الكاتب بدوح، أن الكاثوليكيين سخطوا جدا على ما اعتبروها هرطقات لوثر ومن ذلك ما ورد في كتاب فلوريموند تحت عنوان “تاريخ ولادة وتقدم وانحطاط هرطقة هذا القرن”، الذي نُشر عام 1605، وهاجم بشدة ما سماه “الكاثوفوبيا” أو رهاب الكاثوليك الذي يمارسه مارتن لوثر الذي ذهب إلى حد القول “إن عبادة الأوثان والفجور في الكنيسة الرومانية أكثر مما هي عليه عند المحمديين”.

ونقل الكاتب بدوح أيضا تصريحات للمندوب البابوي عام 1540 يهاجم فيها البروتستانت ويعتبر فيها أنه “من الصعب أن نميز من هم أكبر أعداء المسيح، البروتستانت أم الأتراك (المسلمون)؟ وربما يكون الأتراك أفضل من البروتستانت، لأن الأتراك عندما لا يذبحون الناس قد يتركونهم يعتنقون الكاثوليكية، بينما البروتستانت إذا لم يقتلوا الأجساد يدمرون النفوس بحجة إصلاحها”.

ويرى الكاتب بدوح أنه منذ ظهور مارتن لوثر أصبحت العلاقة سلمية بلا حدود بين الكنائس البروتستانتية والإسلام، مذكرا بأن لوثر كان ينوه بإخلاص المسلمين ومواظبتهم على الصلاة، وتدبرهم الصادق، فضلًا عن رصانتهم التي تتناقض مع السكر لدى المسيحيين، وسيكون كل ذلك حافزا للوثر لحث أتباعه على التوقف عن التبتل للكنيسة والتضرع لله مباشرة.

ولا يخفى هنا تأثر مارتن لوثر بالمسلمين، حيث يؤكد بدوح أن لوثر أوصى المسيحيين بالصلاة مرارا وتكرارا، معتبرا أن المسلمين “معلمو المدارس” لأنهم دفعوا المؤمنين إلى التوسل إلى الله.

الينبوع أفضل من النهر

وفي نقطة جوهرية من نقاط التقاطع مع الإسلام يركز مارتن لوثر على الاعتماد على الأدلة الأصلية للدين، فحسب دراسة نشرها المؤرخ الفرنسي وعميد كلية اللاهوت البروتستانتي في جامعة ستراسبورغ بفرنسا مارك ليينارد في مارس/آذار 2017، يعتبر الباحث أن لوثر يستشهد كثيرا بالمثل القائل بأن الشرب من الينبوع أفضل من الشرب من النهر، لذلك يعتمد على العقائد التي طورتها مجامع المسيحية في القرنين الرابع والخامس الميلاديين ويعتبرها تفسيرًا أمينًا للكتاب المقدس، مع احتفاظه بحرية نقدها.

وفي سياق التقاطع مع الإسلام الذي ذم الرهبانية، تؤكد دراسة الباحث مارك ليينارد أن لوثر انتقد الحياة الرهبانية التي تعتبرها الكنيسة الطريق المفضل لإيجاد الله والخلاص، كما انتقد طرق التقديس المتعددة التي اقترحتها الكنيسة في عصره مثل الحج والغفران، ودعا إلى توطيد العلاقة المباشرة والشخصية بين الله والإنسان.

قشة صكوك الغفران

تقول دراسة أستاذ اللاهوت المؤرخ مارك ليينارد إن مسألة صكوك الغفران كانت القشة التي قصمت العلاقة بين لوثر والكنيسة الرومانية عام 1517، حيث كان شائعا أن يدفع الناس الأموال للكنيسة مقابل صكوك تطهرهم من ذنوبهم، لكن التعاملات المالية غير الشفافة للكنيسة أفقدتها مصداقيتها ودعمت مواقف لوثر الرافضة لصكوك الغفران.

وقد تجاوز الجدل الذي أثارته أفكار لوثر بسرعة قضية صكوك الغفران ليمتد إلى سلطة الكنيسة وسلطة البابا بل إلى كل جوانب الديانة المسيحية: عقيدتها وكتابها المقدس وتفسيراته التي كانت من اختصاص البابا ومجمعه، والذين لا يمكن أن يخطئوا حسب الاعتقادات التي كانت سائدة، ومن يفسر الكتاب المقدس بطريقة مختلفة عن تفسيرهم فهو مهرطق، وعقوبة المهرطق هي الحرمان ثم القتل.

وحسب دراسة ليينارد، فقد اعتبرت الكنيسة مارتن لوثر مهرطقا واتهمته بالسعي لنشر دين أو مذهب جديد، خصوصا بعد أن أحرق القوانين الصادرة عن الكنيسة، فتم إصدار عقوبة الحرمان ضده بتاريخ عام 1521.

ويؤكد المؤرخ الفرنسي أنه كان مستحيلا التوفيق بين مواقف لوثر وبين مواقف الكنيسة، فقد رفض لوثر ادعاء “الرومانيين” بأنهم “الخدام الوحيدون للكتاب المقدس” وأن “البابا لا يمكن أن يخطئ”.

لوثر يقر بجاذبية الإسلام

يؤكد عالم اللاهوت الفرنسي ليينارد في دراسته أن لوثر اعترف بجاذبية الدين الإسلامي، ودعا إلى معرفة أفضل للقرآن والتعاليم التي يدعو إليها والممارسات التي يحاربها، وكان العديد من الإصلاحات التي تبناها متسقة مع رؤية الإسلام مثل كسر وصال الصيام وإجازة زواج الكهنة والرهبان وجواز الخروج من الأديرة وإزالة الصور التي يتم تقديسها.

ويتابع أن من الأفكار التي تقترب من الرؤية الإسلامية لدى مارتن لوثر اعتباره أنه لا ينبغي إجبار أحد على الإيمان، وأنه يجب على الجميع أن يؤمنوا بحرية.

ما الذي كان يسعى له لوثر؟

يبدو حسب الدراسات والبحوث التي تناولت مارتن لوثر وما أحدثه من تغييرات جذرية في تاريخ أوروبا الحديث، أن لوثر لم يتحرك في ثورته الفكرية بغرض تحقيق ما سيعرف لاحقا بالإصلاحات الدينية في أوروبا، والظاهر أنه كان يسعى للوصول لحقيقة الدين أو إلى تحقيق علاقة مختلفة مع الله تختلف عما هو قائم لدى الكنيسة.

ويؤكد ليينارد أن لوثر ـ وإن كان يعلم أن التغييرات التي حدثت مرتبطة بأفكاره ـ إلا أنه يؤكد أنه لم يقصد ذلك أصلا، ولم يدّع أنه مصلح للمسيحية، كما ادعى ذلك آخرون من قبله.

ويقول إن مارتن لوثر تجاذبته في عشرينيات القرن 16 أفكار وتصورات كثيرة توحي بأنه كان يبحث عن حقيقة ما، حيث وصف نفسه بأوصاف مختلفة بدءا بالكنسي مرورا بالواعظ أو المبشر، وصولا إلى “نبي الألمان”.

وحسب ليينارد، فإن لوثر شبّه نفسه بأنبياء العهد القديم وشبه عزلته بعزلتهم، ومع أنه وصف نفسه عدة مرات بأنه “نبي الألمان”، إلا أنه في مقاطع أخرى كثيرة يتراجع عن ذلك ويشدد على أنه يختلف عن الأنبياء ويعتبر نفسه “تلميذ الأنبياء” فقط.

ويؤكد أن مارتن لوثر واجه في أوقات عديدة لحظات من الشك، لكنه كان يرى أن كلمة الله معه وأن الله يدفعه ويرشده إلى طريق الحق.

ويبدو من الدراسات والبحوث السابقة أن مارتن لوثر لم يكن هدفه أصلا إصلاح الكنيسة، وإنما تجاذبته أفكار وتصورات سعى من خلالها إلى معرفة طريق الحق في العلاقة مع الله، لكن ذلك البحث نتجت عنه رؤى إصلاحية كشفت زيف الكثير من العقائد التي كان يعتنقها المسيحيون، وحررت أوروبا إلى حد بعيد من سلطان الكنيسة وقساوستها.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *