يعكس فيلم “نزوح” للمخرجة سؤدد كنعان الواقع السوري بتفاصيله الدموية، لكنه يعمل كمرآة عاكسة لواقع غزة التي تواجه عاصفة النيران ويطارد أهلها الموت طوال الوقت تحت وطأة القصف المستمر من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتحديدا بعد عملية “طوفان الأقصى”.
ورغم تساقط الآلاف بين شهيد وجريح والدمار الذي لحق بالبلدة فإن الفلسطينيين لا يزالون يدافعون ببسالة وإصرار عن أرضهم وكرامتهم رافضين سيناريو التهجير المطروح واللجوء إلى أي بلد آخر.
وهو السيناريو الذي يشبه -إلى حد كبير- ما واجهه السوريون بعد اندلاع الحرب السورية في 2011، وفي حين اختار بعض السوريين النجاة بحياتهم والبحث لأولادهم عن فرص أخرى عادلة للحياة أو أقل قسوة هناك من رفضوا النزوح كونه يهين وطنيتهم ويصمهم بعار لن يتحملوا الحياة معه، بحسب رؤيتهم.
وهي الفكرة التي بني عليها فيلم “نزوح” المستوحى من الواقع خلال فترة الحرب السورية عبر شهادات حقيقية للناجين أو عائلات الشهداء، الأمر الذي منح العمل طابعا وثائقيا إلى حد كبير، خاصة أن الإخراج اعتمد من جهة على التركيز على المحتوى البصري واللجوء إلى الأصوات الطبيعية لا الموسيقى التصويرية ومن جهة أخرى على قلة الحوار، إذ منحت المخرجة أبطالها الفرصة للارتجال، مما منح العمل طابعا جمع بين الصدق والتلقائية.
النزوح الأخير
جرت أحداث الفيلم في دمشق وتمحورت حول عائلة سورية من أب وأم وطفلة في بداية المراهقة يعيشون محاصرين في منزلهم، إذ يتشبث الأب بثورية وكبرياء أهل الشام، مما يمنعه من النزوح على خلاف الأغلبية العظمى ممن حولهم تمضي بهم الحياة بمُرها وجمودها إلى أن يقصف المنزل بقذائف جوية كادت أن تودي بحياة الجميع.
أمام الموت الوشيك ترغب الأم والابنة بالرحيل، فيما يظل الأب مقتنعا بإمكان استمرارية البقاء في منزلهم المدمر حيث يعيشون دون سقف أو حماية خلف أنصاف جدران وبأنصاف حياة.
تمضي الأيام ومع زيادة الأوضاع سوءا واحتمالية دخول الجيش إلى منطقتهم السكنية وما يلي ذلك من عزم آخر الجيران المتبقين على الرحيل تقرر الأم الفرار بابنتها والنجاة تاركة خلفها زوجها وأفكاره الحالمة والمثالية، ومن ثم يبدآن رحلة خطرة يقودهما الأمل ويحيط بهم الخوف والفخاخ.
رومانسية تحت الحصار
حصد العمل إشادات إيجابية كثيرة من النقاد والجمهور، سواء عند عرضه بالمهرجانات أو في دور العرض، وحتى بعد أن صار متاحا للمشاهدة عبر منصة “شاهد” مؤخرا، إذ إلى جانب الحبكة الإنسانية التي تناولها الفيلم تمتع العمل ببعض الإيجابيات الفنية التي لفتت الانتباه، مثل الطريقة التي مزجت بها المخرجة سؤدد كعدان بين الإضاءة الطبيعية والظلال المتسبب بها كل من البيوت المهدمة والجدران المهشمة، وكيف استغلت ذلك لإبراز التضاد بين أجواء الحصار وما بقي من أحلام مستقبلية، وهو ما نجحت كعدان في إبرازه عبر مشاهد رغم قسوتها حملت جمالا وأملا.
يذكر أن اللمحة الرومانسية نفسها وتسلل بعض الكوميديا إلى النص جعل بعض النقاد -وعلى رأسهم طارق الشناوي- يعيبون على العمل رقصه على السُلَّم دون إدانة جهة دون أخرى، الأمر الذي جعل الفيلم يبدو دراميا وإبداعيا أكثر منه سياسيا أو تاريخيا، وبالتالي قلل أثره المرجو على المشاهد.
الحمدلله سعيدة وممتنة بفوز الفيلم السوري #نزوح بجائزة الجمهور في مهرجان ڤينيسيا السينمائي.. مبرووك لكل طاقم الفيلم مبروووك للصديقة المخرجة والمؤلفة سؤدد كعدان الجائزة بعد المجهود الجبار مبرووك صديقي الرائع سامر مبروك حلا ونزار.. وكل فرد شارك في صنع هذا الفيلم #VeniceFilmFestival pic.twitter.com/Hd6khL9EAu
— Kinda Alloush (@KindaAlloush) September 10, 2022
وهو ما علقت عليه بطلة الفيلم الفنانة السورية كندة علوش بأن الفيلم ليس عن الشأن السوري على وجه التحديد بقدر ما يمكن اعتباره يسلط الضوء على فكرة نزوح الجسد والروح عن الوطن الأصلي والاتجاه نحو المجهول بحثا عن عالم أفضل حيث الأمان والفرص اللانهائية.
وأمام الوضع العربي الحالي يمكن تغيير جنسية العمل فيصبح عن المواطن الفلسطيني أو العراقي أو كل من يعانون الأزمة نفسها فيصبح العمل إنسانيا بالمقام الأول.
أما مؤلفة ومخرجة الفيلم فصرحت بأنها لم ترغب في تقديم فيلم عن قسوة الواقع السوري وآلام السوريين بطريقة مباشرة أقرب إلى السذاجة أو استدرار التعاطف، خاصة أن ذلك قد ينفر الجمهور من المشاهدة وإنما أرادت تقديم رسالتها بطريقة أقرب إلى الكوميديا السوداء.
“نزوح” فيلم إنتاج فرنسي سوري بريطاني مشترك، تأليف وإخراج سؤدد كعدان، وبطولة كل من كندة علوش وسامر المصري وهالة زين ونزار العاني.
جرى تصوير العمل في تركيا وتم توزيعه في الوطن العربي وحول العالم، الأمر الذي جعل الفيلم يحظى بشعبية في مختلف الدول العربية والغربية حتى أنه تمت ترجمته صوتيا (دوبلاج) إلى الإيطالية والسويسرية.
مهرجانات وجوائز
عرض الفيلم في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية التي تجاوز عددها العشرين، أشهرها مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بدورته لعام 2022، حيث فاز بجائزة الجمهور ليصبح أول فيلم عربي يحصل عليها، وجائزة “لانترنا ماجيكا” التي تمنحها الجمعية الوطنية الاجتماعية الثقافية للشباب.
وعُرض أيضا أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مهرجان الشارقة السينمائي للأطفال والشباب بدورته العاشرة، وحاز على جائزة أفضل فيلم روائي طويل.
ومن بين المهرجانات الأخرى التي شارك فيها مهرجان لندن ومهرجان “مالمو للسينما العربية” في السويد ومهرجان “تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط”، بالإضافة إلى عرضه ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية وفي صالات العرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي بدورته الثانية.