تحتفظ غابات الأرز في مرتفعات لبنان الجبلية بكنوز عديدة، بينها أقدم مطبعة بالحروف العربية لا تزال صامدة في موقع إنشائها منذ نحو 300 عام، لتشكل عامل جذب للسياح من داخل البلاد وخارجها.
وتقع مطبعة الشماس عبدالله الزاخر في دير “مار يوحنا الصابغ” في بلدة الخنشارة (شرقي لبنان)، حيث لا تزال محفوظة بكامل أجزائها، وحصل عليها الدير عام 1910، وكانت تكتب بالحروف السريانية، قبل أن يتم تحديثها وتحويل حروفها إلى العربية، واستمرت في العمل حتى 1939.
وأوضح الدليل السياحي المحلي عماد سماحة، وهو من بلدة الخنشارة، أن المطبعة هي أول مطبعة عربية في لبنان والثانية في الشرق (بعد مطبعة حلب التي اندثرت) وثالث مطبعة عربية في العالم (بعد مطبعة روما).
وتأسست المطبعة عام 1731 وطُبع الكتاب الأول فيها عام 1734، واستمر عملها حتى عام 1899، أي لفترة امتدت لنحو 165 عاما متواصلة أنتجت خلالها “كتبا فلسفية ولاهوتية وروحية وغيرها”، وفق سماحة.
وأشار سماحة إلى أن “الزاخر أصله من حلب (السورية) هو من أسس المطبعة، وميزتها أنها أنشئت بموقعها الحالي من جهة حفر الأحرف أو إعداد الحبر وصناعة آلاتها، لكن الجلد والورق كانا يُستقدمان من خارج المنطقة”.
الحرف اللبادي
لم تكن الطباعة سهلة منذ قرون، بل كانت تحتاج إلى جهد ووقت، إذ كشف سماحة عن أن “خط الحرف في هذه المطبعة سُمّي خط اللبّادي”.
وحسب سماحة، فإن “هذا الخط صُنع خصيصا للمطبعة نفسها، إذ بعد حفره على معدن الفولاذ بشكل نافر (بارز) ينقش على معدن النحاس الأحمر ليشكل بدوره القلب الداخلي لقالب الحروف”.
وأضاف “يوضع في هذا قالب خلطة من معدَني القصدير والرصاص مصهورين معا، بالإضافة إلى حجر الكحل الذي يقوم عمله على فصل المعدن عن القالب، وبذلك يتم إنتاج الأحرف”.
ولفت إلى أن الشمّاس عبد الله الزاخر “استحق لقب غتنبورغ الشرق على اختراعه هذا”.
وأردف سماحة أن “الأحرف منحوتة بالعكس من أجل أن تكون سويّة خلال عملية الطباعة، لافتا إلى أن الحرف اللبادي مميز، فهو واضح وسهل القراءة والصفحات ما زالت مقروءة لحد اليوم”.
الكتاب الأول
“ميزان الزمان” هو اسم الكتاب الأول الذي طبع في مطبعة الخنشارة وهو مؤلف من 362 صفحة، حسب سماحة.
وأضاف “ما زال الكتاب معروضا في متحف المطبعة ذاتها لغاية اليوم سليما ومقروءا، هو كتاب روحي، ووصل عدد نُسخ طبعته الأولى إلى 800”.
وأشار سماحة إلى أن المطبعة “طبعت نسخا من 33 كتابا، أولها (ميزان الزمان)، وآخرها كتاب الزبور الإلهي (أي المزمور الإلهي) للنبي داوود طبعت منه 15 نسخة”.
ولفت إلى أن الكتب المطبوعة “كانت تُباع في دير مار يوحنا في كلّ من مصر، وحلب ودمشق في سوريا، وعكّا في فلسطين”.
مراحل الطباعة
كما أن عملية إنتاج الكتاب تمر بمراحل مختلفة، بدءا من اختيار الأحرف إلى صفّها ثم طبعها وحياكة الكتاب.
ولفت سماحة إلى أن “طاولة الأحرف طويلة وممتلئة بآلاف الأحرف، لأن الحرف العربي يختلف بشكله في أول الكلمة ونصفها وآخرها، كما قد يتضمن التنوين والشدة”.
وأضاف: “أما الكلمات المتكررة، كرؤوس المقاطع والمقالات وأسماء الأشهر والأعداد تم حفرها كاملةً لمرة واحدة بغرض تسهيل عملية الطبع”.
وأردف سماحة أن هناك “فرنا يتم فيه صهر المعادن وطبخ الحبر المستخرج من أعشاب موجودة ضمن إطار الدير، وهو على لونين: الأسود والأحمر، ويتميز بأصالة تركيبته غير المتحللة حتى يومنا هذا”.
وتابع: “بعد تجهيز الأحرف، يتم تركيبها ضمن الكلمات والأسطر على صفحة خشبية، تُرص على بعضها بملازم حديدية فيتكون لدينا ما يسمى الكليشه، لتصبح جاهزة للمرحلة التالية وهي الطباعة”.
وقال سماحة إن “الطباعة تتم ضمن مكبس خاص، بعد وضع الحبر ومن ثم الورق على ما يسمى الكليشه، فتُكبس بشِدّة لفترة من الزمن لينتقل الحبر على الورق، من ثم يُنشّف بإسفنجات خاصة”، وتابع: “بعدها تأتي مرحلة خياطة الكتب بالمعدات التقليدية والتجليد”.
أهمية المطبعة
صحيح أن المطبعة اليوم لا تعمل لكن أهميتها التاريخية والثقافية كبيرة جدا، حسب سماحة الذي ذكر أن “أهمية المطبعة مقسومة إلى قسمين، ففي عهد عملها كانت تنشر الثقافة والإيمان في بلاد الشام وصولا لمصر، وحتى كان هناك اتجاه نحو الغرب”.
والقسم الثاني، وفق سماحة، “يكمن في أهميتها اليوم، التي تختصر بالسياحية الثقافية بامتياز، إذ تُضيء على حقبة من التاريخ المولِّد للنهضة العربية الحديثة”.
ولا تزال هذه التحفة الشرقية العربية يقصدها السواح من الخارج أو الداخل وطلاب المدارس والجامعات، كما تكثر بشأنها الأبحاث والدراسات.