في ظل احتواء المتاحف الفرنسية على عشرات الآلاف من الأعمال الفنية الأفريقية يواجه أمناؤها مهمة صعبة لمحاولة تحديد القطع التي نُهبت خلال الحكم الاستعماري في القرنين الـ19 والـ20، والتي ينبغي إعادتها إلى بلدها الأصلي.
وخلال زيارة إلى بوركينا فاسو عام 2017 تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعادة “التراث الأفريقي إلى أفريقيا” في غضون 5 سنوات، مما دفع القوى الاستعمارية السابقة الأخرى -بينها بلجيكا وألمانيا- إلى إطلاق مبادرات مماثلة.
ومع بدء الحركة الاستعمارية عام 1524 سيطرت فرنسا على أكثر من 20 دولة في غرب وشمال أفريقيا، وظلت 35% من القارة تحت السيطرة الفرنسية لمدة قاربت 300 عام.
وسنة 2021 أعادت فرنسا 26 من الكنوز الملكية التي نهبها جنودها من بنين خلال الحكم الاستعماري.
لكن الجهود قد تعثرت، وأجّلت الحكومة في مارس/آذار الماضي إلى أجل غير مسمى مشروع قانون يتيح إعادة القطع الأثرية الأفريقية وغيرها من التحف الثقافية بعد معارضة اليمين في مجلس الشيوخ.
وتمتلك فرنسا في أرشيفاتها ومتاحفها ما يقارب 90 ألف قطعة أثرية تاريخية تنتمي إلى أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى، تم تهريب 46 ألفا منها خلال الحقبة الاستعمارية الممتدة في الفترة من 1885-1960، فيما غابت بلدان شمال أفريقيا العربية عن الوعود الفرنسية بإعادة الآثار إلى بلدانها الأصلية.
ومعظم هذه القطع (79 ألفا) موجودة في متحف “كيه برانلي” بباريس المخصص لفن السكان الأصليين في أفريقيا وآسيا وأوقيانيا وأميركا.
وأشارت إميلي سالابيري رئيسة متحف أنغوليم -الذي يضم نحو 5 آلاف قطعة أثرية أفريقية- إلى أن المهمة “ضخمة وتثير الحماسة”.
وقالت لوكالة الصحافة الفرنسية “لقد تغيرت بصورة جذرية طريقة فهمنا لمجموعاتنا”.
وبات تحديد مصدر القطعة الأثرية أمرا أساسيا ضمن عمل المتحف، لكن تعقب المعلومات الضرورية مسألة صعبة وتستغرق وقتا طويلا.
وبدأ متحف الجيش الفرنسي عمليات الجرد سنة 2012، لكنه لم يتمكن إلا من دراسة نحو ربع القطع الأفريقية البالغ عددها 2248 قطعة.
وفي حين أشار إلى وجود “فرضية منطقية” مفادها أن عددا كبيرا من القطع تمثل غنائم حرب يسعى جاهدا للتوصل إلى استنتاجات نهائية.
وأوضح ناطق باسم المتحف لوكالة الصحافة الفرنسية أن “الصعوبة الرئيسية تكمن في النقص النسبي بالمصادر”.
وقالت إميلي جيرو رئيسة “إكوم فرنسا” -التي تشرف على 600 متحف- “إنه عمل استقصائي فعلي يتطلب التحقق من الأدلة وإيجاد مصادر قد تكون مشتتة، في الخارج أحيانا، أو قد لا تكون موجودة من الأساس”.
ومن المرجو أن تصبح المهمة أسهل عندما يصبح هذا النوع من الأبحاث شائعا.
وقدمت جامعة “باري-نانتير” دورة تدريبية مخصصة لموضوع أصول القطع الأثرية في العام 2022، فيما حذت حذوها مدرسة اللوفر في قلب المتحف الشهير سنة 2023.
وأطلقت ألمانيا وفرنسا في يناير/كانون الثاني الماضي صندوقا لـ3 سنوات بقيمة 2.1 مليون يورو (2.2 مليون دولار) مخصصا للأبحاث المتمحورة على موضوع مصدر الآثار.
وقالت كاتيا كوكاوكا كبيرة أمناء متحف أكيتين “علينا أن نكون شفافين في كل التفاصيل، كأوجه القصور في كتالوغاتنا وتاريخنا وتصنيفاتنا”، واصفة هذه المهمة بأنها “ضرورة أخلاقية”.
ولتخفيف عبء التكلفة يقوم متحف أكيتين -الذي يضم 2500 قطعة أثرية أفريقية- بتجميع الموارد مع جهات أخرى، بينها المتاحف في غابون وكاميرون.
لكن من دون القانون المقترح تبقى المعايير التي تحدد متى يجب إعادة القطعة إلى أفريقيا ملتبسة.
وقالت سالابيري من متحف أنغوليم “في حال تم الحصول على القطع بشكل غير قانوني فإن ذلك يكون كافيا، لكن الافتقار إلى سجلات تاريخية واضحة سيواصل إحباط جهود إعادة الآثار”.
وأضافت “سيكون هناك عدد هائل من القطع التي لا يمكن استيضاح وضعها مطلقا”.
وقد تكون القروض والضمانات طويلة الأمد بديلا للتعويض الكامل مثلما فعلت بريطانيا أخيرا مع قطع تابعة للعائلة الملكية في غانا، لكن هذه الخطوة لم تثر إعجاب الجميع.
وقالت نانا أوفورياتا أييم المستشارة الثقافية لحكومة غانا في حديث عبر “بي بي سي” “يأتي شخص ما إلى منزلك ويسرق أحد أغراضك ثم يحتفظ به داخل بيته، وبعد سنوات يقول لك سأعيرك إياه، هذا ليس منطقيا ولا معنى له”.
إرجاع الآثار إلى بلدانها
لا تزال الأعمال الفنية والآثار المنهوبة من بلادها الأصلية محل جدل كبير، حيث يعتقد البعض أن نهب التراث أمر خاطئ، ويجب أن تعود المسروقات إلى بلادها، فيما يرى البعض أن وجودها في بلاد أخرى هو أحد أنواع الترويج للحضارة، بالإضافة إلى أن البعض يعتقد أن الأعمال الفنية والآثار المنهوبة تلقى اهتماما في البلاد المضيفة لها أكثر من ملاكها القانونيين.
وكانت اتفاقية لاهاي لعام 1907 هي الأولى التي اعترفت بأضرار الحروب والاستعمار على التراث الثقافي، وحظرت سرقة ونهب الآثار والقطع الفنية أثناء النزاعات المسلحة والحروب.
وعلى الرغم من القوانين الحديثة الملزمة بإعادة التراث الثقافي والفني إلى أصحابه الأصليين فإن الدول تماطل في الأمر، وتتعامل مع كل قطعة على حدة، مثل حجر رشيد الذي استولت عليه القوات البريطانية من الجيش الفرنسي في مصر عام 1801، ويعتبر اليوم من أكثر المعروضات شعبية وأهمية في المتحف البريطاني بلندن.
وفي عام 2017 وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإعادة القطع الأثرية الأفريقية إلى القارة، وأثار التصريح دهشة واسعة بالنظر للأبعاد الاقتصادية والسياسية لقرار فرنسا التي بسطت يدها طويلا على الموارد الطبيعية والثقافية لأفريقيا.
الاسترداد والاستثناء
وفي ذلك السياق، كلف ماكرون المؤرخة بنديكت سافوي والخبير الاقتصادي السنغالي فيلين سار بإصدار تقرير عن إمكانية إرجاع الآثار، وأوصيا آنذاك بضرورة إعادة جزء من المقتنيات والقطع الأثرية -التي يبلغ عددها 90 ألفا- من أصول تعود إلى جنوب الصحراء الأفريقية.
وفي أعقاب التقرير نشرت مجلة “جون أفريك” الفرنسية تقريرا ينتقد غياب الإشارة إلى بلدان شمال أفريقيا (العربية) فيه، وكانت فرنسا -التي استعمرت تلك البلدان- استحوذت على الكثير من تحفها الفنية، بما فيها ألواح قرطاجية وتماثيل رومانية وكنوز بيزنطية وغيرها من المسروقات التي أخذت من العثمانيين وضمت إلى المجموعات الفرنسية.
وقالت المجلة إن الرئيس ماكرون منذ تصريحه في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو أعطى الانطباع بأنه يريد التركيز على جنوب الصحراء، لأن هناك “خللا في توزيع التراث الخاص بهذه المنطقة، في حين يمتلك الشمال متاحف غنية كما هي الحال في الجزائر وتونس”، كما تقول سافوي، مشيرة إلى أن متاحف القاهرة (1902) ومتحف باردو في تونس (1888) ومتحف الفنون الجميلة في الجزائر (1897) لا يضاهيها أي متحف في الدول الـ48 جنوب الصحراء الكبرى.
ونبه لوران دو سان بيرييه في تحقيق للمجلة إلى أن العديد من روائع العصور القديمة التي اكتشفها علماء الآثار المستعمرون في بلدان شمال أفريقيا تعرض في المتاحف الغربية، إذا لم تبق مخزنة في مستودعات خاصة.
يذكر أن آخر المجموعات التاريخية التي عادت إلى موطنها الأصلي كانت رفاتا وجماجم 24 فردا من قادة المقاومة الشعبية الجزائرية الذين قتلوا في السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي للبلاد، وكان الرفات محفوظا في متحف الإنسان في باريس وأعيد إلى موطنه الأصلي في الذكرى الـ58 لاستقلال الجزائر.