إن اللغة نتاج إنساني عقلي جَمْعي، وعنصر أساس من ثوابت الهُوية، تنظم علاقة الفرد بمجتمعه، وتحدد الأُطر الفكرية والأبعاد الثقافية للناطقين بها، فهي وعاء الفكر وأداة الاتصال والتعبير، وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه وإظهار ملكاته، وعرض عقله على الناس.
واللغة في أصلها محاكاة الإنسان للطبيعة محاكاة بدائية، بما فيها من أصوات؛ مثل: خرير الماء، وحفيف الأشجار، وزقزقة العصافير، وما إلى ذلك.
فسواء أكانت اللغة توقيفا من الله -سبحانه وتعالى- كما يرى بعض العلماء اللغويين، أم اصطلاحية بين الخلق، كما يرى فريق آخر منهم، فهي بالنتيجة أداتنا للتواصل مع الآخرين، وأثيرنا الحي الذي يحمل أفكارنا وآمالنا وتطلعاتنا، وينحني استجابة لأحزاننا وآهاتنا.
جولة مفاهيمية
واللغة هي اللسن، واصطلاحا حدّها -كما قال اللغوي البارع ابن جني- أنها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم. وجمعها لُغَى، وفي المحكم جمعها لغات ولغون. أما “اللَّغْو فهو النطق. ويقال: هذه لغتهم التي يلغون بها؛ أي ينطقون. ولغوى الطير: أصواتها”.
ويرى أستاذ اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي، أن اللغة تعدّ إحدى خصائص النوع الإنساني في مكوناته الأساسية. فهي مرتبطة بالتفكير والفعل والتطبيق، ولها وظائف تعبيرية وتواصلية. ويمكننا أن نجمل القول في اللغة بثلاثة عناصر أساسية؛ فاللغة في أصلها نظام صوتي، وظاهرة اجتماعية، تؤدي وظيفة تعبيرية تواصلية.
والفصاحة هي البيان والإيضاح والإعراب، ويقال: لسان فصيح أي طَلِق، والفصيح هو “المنطلق اللسان في القول الذي يعرف جيد الكلام من رديئه”.
واللغة العربية الفصحى -كما جاء تعريفها في معجم المعاني الجامع-: هي “لغة القرآن والأدب، وهي لغة خالصة سليمة من كل عيب، لا يخالطها لفظ عامي أو أعجمي، خلاف العامية، ويحرص الخطباء والدعاة على استخدام الفصحى في كلامهم”.
أما اللهجة، فقد قال ابن منظور في تعريفها وإيضاح حدودها في لسان العرب، “واللَّهَجة: طرف اللسان. واللَّهَجة: جرس الكلام، والفتح أعلى. ويقال: فلان فصيح اللَّهْجة واللَّهَجة، وهي لغته التي جُبِل عليها فاعتادها ونشأ عليها”. وجاء في معجم المعاني الجامع، أنها “طريقة من طرق الأداء في اللغة، فالعربية أصل يتشعب منها لهجات؛ كالشامية والمصرية”.
وهناك علم اللهجات الذي يدرس العوامل والظواهر المعنية بنشوء اللهجات واختلافها وتنوعها على الرغم من انبثاقها من لغة واحدة. وقد جاء في معجم المعاني “اللغة العامية: (العلوم اللغوية) هي اللغة المتداولة بين الناس، وهي بخلاف اللغة الفصحى المستخدمة في الكتابة والأحاديث الرسمية والعلمية”. فاللهجة هي لغة الحياة اليومية المتداولة بين الناس الذين يجمعهم مكان جغرافي واحد وواضح المعالم والحدود.
ويذكر أن العرب قديما كانوا يعبّرون عن اللهجة بقولهم: لغة، كأن يقولوا لغة تميم، ولغة قيس، ولغة حِمْيَر وغيرها. وفي أحيان أخرى كانوا يعبّرون عنها بقولهم: اللحن. ومثال ذلك: ما تراه من المعاجم من أشباه قولهم: “الصقر بالصاد من الطيور الجارحة، وبالزاي لغة” (بضم اللام وكسرها)؛ أي هناك قبيلة تقول (الزقر) بدلا من (الصقر). وكذلك الأمر فيما يخص القراءات القرآنية، إذ يقال: اللهجات أو اللغات التي نزل بها القرآن الكريم.
عن اللهجات الأصلية في الجزيرة العربية
عرفت اللغة العربية بوصفها اللغة الأم في رقعة الجزيرة العربية كلها، وامتدت لتشمل بلاد الشام من ضفاف نهر دجلة شرقا، إلى حدود سيناء غربا.
ومعلوم أن جُلّ القبائل العربية العدنانية والقحطانية توزعت في هذه المساحات، وعاشت في ظروف بيئية متشابهة إلى حد بعيد، لكن يمكن القول، إن كل قبيلة تميزت بلهجة معينة مختلفة من غيرها من القبائل العربية.
غير أن الاختلافات لم تكن عميقة المدى وبعيدة التأثير، إذ تركزت حول اختلاف نطق حرف من الحروف -مثلا- أو استبداله بحرف آخر في الكلمات نفسها، أو زيادة حرف أو أكثر على الكلمة نفسها، أو استعمال مجازي خاص للكلمة، أو استعمال كلمات دون غيرها وخروجها عن المألوف المتداول في عموم الجزيرة العربية، أو تكون في بنية الكلمة ونسيجها الصرفي، ولا سيما في قضايا الإعلال والإبدال، لكن ذلك لم يجعل اللهجات بعيدة عن بعضها إلى درجة يصعب، أو يتعذر فيها فهم المعنى المراد على أبناء القبائل الأخرى.
ومن الأمثلة التي ضربها السيوطي عن ذلك قوله، إن الفعل (وثب) عند قبيلة حِمير اليمنية تأتي بمعنى جلس، وهي عند عرب الشمال بمعنى قفز. وكلمة (السدفة) عند قبيلة تميم هي الظلمة، وعند قبيلة قيس هي الضوء.
وكان اختلاف اللهجات على المستوى الصوتي مما عرف بين القبائل، إذ يقال، عنعنة قيس وتميم، والمقصود بها هو قلب الهمزة في بداية الكلمات إلى عين، كأن يقولوا، (عنك) بدلا من (أنك)، و(عذن) بدلا من (أذن).
ويذكر أن لهجة قريش كانت وسطا بين لهجات القبائل العربية بحكم توسطها جغرافيا، ونظرا للدور الاقتصادي التجاري الذي حظيت به منذ أمد بعيد، ونظرا للمكانة الدينية التي اكتسبتها من جوار الكعبة المشرفة وخدمتها.
كيف نشأت اللهجات الدخيلة في الواقع اللغوي؟
مع تباعد الأزمان والأسفار وكثرة الفتوحات الإسلامية، وبسبب توسط بلاد الشام وشمال الجزيرة العربية جغرافيا بين شرق الأرض ومغربها، مما جعلها مسلكا وموئلا للهجرة، وبسبب دخول كثير من غير العرب إلى الإسلام، واحتكاكهم بالسكان الأصليين لتعلم العربية بهدف فهم شرائع الدين وتلقين العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وغير ذلك، وترجمتها ونقلها إلى لغات أخرى، كل ذلك أدى إلى نشوء اللهجات الحديثة إذا جاز التعبير، فقد كان لتعلم المسلمين من غير العرب للغة العربية ونطقهم بها ومخالطتهم للعرب واندماجهم بهم تأثير واضح في لهجات اللغة العربية.
أضف إلى ذلك تفرق الشعوب في العصر الحديث وتأثرها بضروب الاستعمار وسلطة المحتل المهيمنة التي فرضت عليها في أحيان، وتلقتها صدور بعض النشء برحابة وتهليل في أحيان أخرى، ما أدى بالضرورة إلى اعوجاج الألسن، وقطع رابطة متينة من سلسلة الهوية والانتماء إلى أمة عربية إسلامية عظمى كرمها الله -سبحانه وتعالى- بنزول القرآن الكريم بلغتها، والتكفل بحفظه أبد الدهر، فهو القائل -جلّ في علاه- في سورة الحجر: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
كل ما سبق ذكره وغيره من الأسباب جعل للغة العربية مستويات متعددة، المستوى الأدبي العالي الذي يُعنى به الكتاب والأدباء وتراه في الكتب التراثية والدواوين الشعرية، والمستوى الرسمي للغة الذي تجده اليوم في الكتب المدرسية ووثائق الدوائر الحكومية، وتسمعه في لغة الأخبار والصحافة، والمستوى الثالث هو المحكي المتداول بين الناس، وفي هذا الأخير نلحظ تنوع اللهجات وتعددها.
كيف يتفق الناس ويصطلحون على إقرار اللهجات؟
تعدّ اللهجات وجوها متعددة للغة نفسها، ففي اللهجات يكثر الحذف من حروف الكلمة القائمة بذاتها في اللغة، وذلك للسهولة والتخفيف في النطق وتحقيق السرعة في التواصل، ويحدث ذلك فعليا دون وعي حقيقي من الناس في أثناء تداول الكلمات.
ونجد ذلك في التخفف بنطق بعض الحروف الشديدة أو الحلقية، كالقاف والجيم في اللغة العربية، على سبيل المثال، ففي مصر تصبح الجيم شبيهة بصوت الحرف الإنجليزي (g)، وفي بعض دول الخليج تصبح ياء، وفي دمشق تصبح القاف همزة، وفي اللهجة الفلسطينية تخرج القاف اللطيفة بين الكاف والـ(g).
والأمثلة المتعلقة بالتداول اللغوي والمجازي للكلمات كثيرة وأوسع من أن تحصى، ولا بد أنك الآن –أيها القارئ- تفكر بمثال يتعلق بلهجتك وتقارنه بغيرها من اللهجات العربية.
وحقيقة فإن السبب الأساس وراء مثل هذه الاختلافات يكمن في اختلاف مخارج بعض الحروف بين أبناء البلدان والمدن العربية، وكذلك الاختلاف النغمة الموسيقية العامة للهجة، وتحديدا في مسألة تفخيم الحروف وترقيقها، كالجيم الحلبية، والجيم الشامية على سبيل المثال.
وهكذا يظهر لنا بجلاء ارتباط اللغة الوثيق وتطورها بالبيئة المحيطة بأبعادها التاريخية والجغرافية، والظروف الاجتماعية والنفسية والعرقية والقومية، كما أكد ذلك علماء اللغة على الدوام.
فاللُّغوي المحنّك ابن جني -مثلا- يقول في تعريفه للغة، مؤكدا أنها حلقة وصل قومي، “إنها الأصوات التي يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”.
وعلى الجهة الغربية، فإن العالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير يقول، “اللغة هي ظاهرة اجتماعية”.