سمع الكثيرون عن سيارات “فيراري” شديدة الشهرة، ولكن لا يعرف سوى القليل منهم قصة الصراعات النفسية والعائلية والاقتصادية التي خاضها مبتدع هذه السيارات، وخلدت اسمه بصورة يتمناها الكثير من أصحاب الدماء الزرقاء والأسر المالكة.
يتناول فيلم “فيراري” (Ferrari) للمخرج “مايكل مان” قصة فترة محدودة للغاية من عمر المتسابق وصانع السيارات “إينزو فيراري”، ولكنها المفتاح الحقيقي لقراءة سيرة هذا الرجل الذي قام بدوره على الشاشة “آدم درايفر” وتشاركه البطولة “بينلوبي كروز” و”شايلين وودي”.
عُرض فيلم “فيراري” أول مرة في مهرجان البندقية السينمائي، وقد تنافس خلاله على جائزة الأسد الذهبي، ورغم إعداده في الأساس للعرض على شاشة “شوتايم” و”باراماونت بلس”، حظي الفيلم بعرض سينمائي حول العالم.
بناء الشخصيات واختيار الحدث
تطورت أفلام السيرة في السنوات الأخيرة بشكل واضح، فبدلا من الأعمال التي تروي قصة حياة الأبطال منذ مولدهم حتى وفاتهم، أصبحت هذه الأفلام تركز على لحظة محددة من حياة الشخصية الرئيسية، يمكن أن نطلق عليها “لحظة مركزية” يمكن عبرها قراءة شخصيته ما قبلها وبعدها.
يسمح هذا التكثيف لصناع الفيلم برؤية متعمقة للشخصية، أكثر من تلك السريعة التي تشبه ملخصات الكتب التي تحاول سرد كل شيء بشكل مختصر فتضطر لترك التفاصيل الصغيرة على طول الطريق خلال مسعاها، فيصبح المنتج النهائي نسخة باهتة عن عمل عظيم.
يتمثل البطل الحقيقي لفيلم “فيراري” في السيناريو الذي كتبه “تروي كيندي مارتن”، وقد اختار البدء عام 1957، بعد عام من وفاة الابن الأكبر لـ”إينزو فيراري” في عمر الـ24 إثر معاناته من مرض عضال.
يفتتح الكاتب الفيلم بتوضيح الحالة النفسية والعقلية والاقتصادية والاجتماعية للبطل، فهو أب حزين على فقد ابنه، وزوج خائن بعشيقة سرية، أنجب منها ابنا آخر يتردد في إعطائه اسمه خوفا من زوجته الأولى التي تمتلك نصف شركته، ومالك إمبراطورية سيارات توشك على الانهيار بسبب تركيزه على سيارات السباق وليس صناعة السيارات لبيعها وبالتالي عليه إيجاد شريك جديد وإقناع زوجته بالتفاوض.
وضع الفيلم في دقائقه الأولى صورة عامة لـ “إينزو فيراري” الرجل المهووس بسباقات السيارات لدرجة تبدو كل العوامل السابقة في شخصيته كما لو أنها هامش لشغفه الحقيقي الذي فقد من أجله العديد من الأصدقاء قتلتهم السيارات التي صنعها بيديه.
يعيب السيناريو من ناحية أخرى تركيزه على الشخصيات الرئيسية الثلاثة “إينزو” و”لاورا” الزوجة و”لينا” العشيقة، وإهماله باقي الشخصيات لتظهر في النهاية كما لو أنها اختصارات لبشر يجب أن يظهروا على الشاشة، أكثر من أفراد عاشوا وماتوا وأثروا في حياة “إنزو فيراري”.
يتحول الفيلم في الفصل الثاني منه إلى صراع تقليدي بين أطراف مثلث الزوجة والزوج والعشيقة، ولكن ينقذه الفصل الثالث، الذي ترك هذه العلاقة جانبا، ويركز على ما اعتبرها صنّاع الفيلم أكثر لحظة حاسمة في تاريخ “إنزو فيراري”، وهي أحداث سباق “ميل ميليا” الذي يمثل الفوز به الورقة الرابحة الوحيدة التي تمكن “إينزو” من التفاوض لإنقاذ شركته، ولكن رغم فوز إحدى سياراته بالفعل إلا أن السباق انتهى بصورة دامية أدت إلى إلغاء الحدث الذي استمر في الفترة ما بين 1927 و1957.
بينلوبي كروز الأفضل
يحمل البوستر الإعلاني للفيلم وعنوانه اسم “فيراري” وصورة الممثل “آدم درايفر” باعتباره بطل العمل، إلا أن أفضل ما فيه كان أداء الممثلة الإسبانية “بينلوبي كروز” التي تقدم دورا معقدا لامرأة تتراوح، طوال الوقت، بين الأسى على وفاة ابنها الشاب، والغضب من زوجها لأنه لم يستطع إنقاذ الابن، ولخيانته المستمرة لأكثر من عقد.
ولا يمكن توقع ما ستقدمه “بينلوبي كروز” من مشهد لآخر، فهي تتحرك بين طبقات الشخصية بخفة وسلاسة وتمكن شديد، وتبث الحيوية في كل لقطة تظهر فيها، بينما يغيب أداء “آدم درايفر” خلف سحابة كثيفة من اللهجة الإيطالية المصطنعة للحوار المكتوب بالإنجليزية.
يقدم درايفر للمرة الثانية شخصية حقيقية تتحدث بذات اللهجة، وكانت الأولى في فيلم “بيت غوتشي” (House of Gucci) و”موريزيو غوتشي”.
اختيار اللغة واللهجة بالتأكيد خطأ لا يقع على عاتقه، ولكنه بالفعل يكبل أداءه التمثيلي، ويفقده المصداقية، وهو ما يطرح سؤالا ضروريا حول السبب الذي يجعل السينما الأميركية تستخدم ممثلين أميركيين في صناعة أفلام تدور أحداثها عن أشخاص من بلاد أخرى، بينما يمكن الاستغناء عنهم بممثلين من هذه البلاد؛ خصوصا أن الفيلم معد بالأساس للعرض على شاشات المنصات التي تقدم خدمة الدبلجة والترجمة بسهولة بالغة.
ويبدو الأمر أن صناع الأفلام يعتمدون بشكل أساسي على قوة النجوم في التسويق للعمل، أو يظنون أن فيلما بلغة غير الإنجليزية سيلاقي صعوبة في التوزيع أو التلقي من المشاهد الأميركي.
ويأتي التصوير كأفضل عنصر في فيلم “فيراري” بعد أداء “بينلوبي كروز”، حيث ينقل التصوير الطابع المختلف للأقسام الأساسية الثلاثة في حياة “إينزو فيراري”، ويتنوع أسلوب التصوير في مشاهد تجربة سيارات السباق، أو السباق الرئيسي نفسه، بوضع الكاميرا في بعض الأحيان داخل السيارة نفسها، لتنقل للمشاهد السرعة والخطورة، ويعتبر أفضل مشاهد الفيلم حادث السيارة قرب النهاية الذي يمثل ذروة الفيلم من الناحية الدرامية.
وفي بداية الفيلم بمنزل “إينزو” و”لاورا”، الذي يتسم بالتقليدية ويمثل القيد في حياته، يتم تصوير “إينزو” بلقطات مقربة، ليبدو كما لو أنه حبيس قطع الأثاث الكثيرة من حوله، مع استخدام إضاءة خفيفة ومعتمة في هذه المشاهد، بينما نرى العكس في منزل “لينا” التي تم تصويرها باستخدام ضوء الشمس، وفي مساحات واسعة، تعكس إحساس “إينزو” بالراحة بصحبة هذه السيدة.
تعد أسماء “مايكل مان” و”آدم درايفر” و”بينلوبي كروز” تحفة فنية، لذلك ارتفعت آمال النقاد والمشاهدين تجاه الفيلم، الذي تمخض في النهاية عن عمل جيد، ولكن يعيبه الكثير من المشاكل التي تجعله متسابقا ضعيفا في موسم الجوائز الجاري.