خلال فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي عُرض بالمسابقة الرسمية الفيلم التشيلي “الكونت” (El Conde)، من إخراج “بابلو لاراين” وتأليفه بالاشتراك مع “غييرمو كالديرون”، وينتمي لنوعي الرعب والكوميديا السوداء.
ويقدم الفيلم رؤية خيالية للجنرال التشيلي “أوغستو بينوشيه”، الذي حكم بلاده بالحديد والنار لأكثر من عقد من الزمان، مخلفا وراءه خيطا طويلا من الدماء و300 تهمة جنائية.
حصل الفيلم على جائزة أفضل سيناريو من المهرجان، قبل عرضه على منصة نتفليكس الإلكترونية مضيفا لمسة من الفنية على محتواها الغني بالأفلام التجارية والترفيهية، ولكن ذلك لا يعني أنه عمل لا يصلح للمشاهدة غير النخبوية، بل هو فيلم للجميع، ويضيف إلى الرؤية السياسية مسحة من الكوميديا والتسلية.
فانتازيا الرعب والسياسة
يأخذ فيلم “الكونت” الشخصية المثيرة للجدل “بينوشيه” إلى عالم فيلمي مختلف بعيدا عن الواقعية، ولكن في الوقت ذاته أقرب ما يكون لها. يفتتح بإخبار المشاهدين أن الجنرال الشهير “ليس سوى مصاص دماء”، يعيش منذ عصر الثورة الفرنسية، وقد اعتاد على “مص دماء ضحاياه لضمان استمرارية شبابه”، ولكن هدفه الأسمى كان “القضاء على كل من يعتقد أنه يدعو للعدالة”.
انتقل الجنرال عبر البلاد حتى وصل إلى تشيلي التي وجدها مكانا مناسبا لقضاء الباقي من عمره، وترقى في المناصب حتى وصل إلى قائد الجيش، قبل انقلابه على الرئيس الأول “سلفادور أليندي” وقتله في منزله، وتبوؤ مكانه لسنوات طويلة، ثم تم عزله، فقرر الانتحار.
تبدأ الحبكة الرئيسية عندما ينتقل الكونت -كما يُحب أن ينادى من المقربين- إلى منزل ناء مع زوجته وخادمه، ويزوره أولاده العديدون محاولين معرفة مكان إخفائه أمواله للاستمتاع بها، مصطحبين معهم محاسبة جميلة وشابة، ولكنها في الحقيقة راهبة تحاول تخليص العالم من شرور الجنرال فيما يشبه عمليات التطهير من الأرواح الشريرة.
اشتهر المخرج “بابلو لاراين” بأفلام السيرة مثل “جاكي” (Jackie) و”سبنسر” (Spencer)، وكلاهما تناول لحظة حساسة من حياة امرأة شديدة الشهرة، الأولى جاكلين كينيدي في الساعات القليلة بعد مقتل زوجها بين ذراعيها، والثانية الليدي ديانا سبنسر في عشاء عيد الميلاد الأخير مع العائلة المالكة، وهي تجارب ناجحة حققت له النجاح وترشيحات لعدة جوائز.
وفي أحدث أفلامه “الكونت” يتخلى “بابلو لاراين” عن منطقة الأمان الخاصة به، وينطلق إلى أنواع سينمائية مختلفة، ولكن أيضا تتقاطع مع السيرة الشخصية.
اختار الكاتب والمخرج لحظة فارقة أيضا في حياة شخصيته الرئيسية -حتى لو كانت لحظة متخيلة- وتتمثل في يأس بينوشيه بعدما تم اتهامه بالفساد المالي، واختلاس أموال وقوت شعبه وتنحيه عن منصبه باستفتاء جماهيري، فيتقبل “الكونت” بنفس راضية اعتباره قاتلا للآلاف من أبناء شعبه، بل يعتبر ذلك جزءا من إنجازاته، ولكن فقدانه احترامه ومهابته كان ثقيلا نفسيا لدرجة دفعته لاعتزال العالم.
ينحو الفيلم منحى فانتازيا باستخدام الرعب -الذي يظهر في المشاهد الدموية لانتزاع قلوب الضحايا وشرب دمائهم- فهو فيلم بالفعل يحمل سمات نوع الرعب السينمائي، ولكن ينظر إلى ما وراء النوع.
المجاز والواقع
لا يتعامل بابلو لاراين، في هذا الفيلم، مع شخصيته الرئيسية بالتعاطف كما فعل مع أبطاله السابقين، بل يضع عيوبها تحت المجهر، فيجعلها أكبر وأكثر ضخامة.
فقد قدم الجنرال بينوشيه -الذي لم يبال في الحقيقة بدم مواطنيه الذي يريقه رجاله بلا حساب- بوصفه “مصاص دماء حقيقيا”، يتقزز من دماء العمال لأنها ليست شهية.
على الرغم من بساطة مجاز “مصاص الدماء”، فإنها أفلح كأداة للسخرية من “الجنرال الدكتاتور”، وقد أعاد لاراين بناء الفيلم حول تفاصيل أفلام مصاصي الدماء المستقاة بصورة كبيرة من رواية برام ستوكر الشهيرة “دراكولا”، ولكن غيّر فيها قليلا فخرج بها عن التقليدية.
تبعا لكارول أل فراي في كتابه “الجذور البدائية لسينما الرعب”، فإن “في جميع أفلام مصاصي الدماء المبكرة، كان الخطر المحدق بامرأة بوصفها حاملة مستقبلنا الجيني من العناصر المركزية للرعب”.
ومن وجهة نظر فراي وغيره من منظري السينما، فإن أهمية المرأة كضحية في أفلام الرعب أنها تمثل رمز “الأم” في الخيال الجمعي الإنساني، الوعاء الجيني لنوعنا بالأساس، لذلك الخطر نفسه يصبح أكثر أهمية إن كانت المعرضة له سيدة.
في فيلم “الكونت”، يحيق الخطر بامرأة، هي “كارمن”، التي تخشى غواية الكونت، الذي يجتذب الجانب الشرير من نفسها، وهنا الخطر لا يهددها وحدها، ولكنه يهدد البشرية بالكامل عبرها.
وهذه الشخصية هي مفتاح الكوميديا السوداء، ففي فيلم رعب تقليدي على الأغلب سيتم إنقاذ هذه المرأة، ولكن هذا النوع الفرعي -الكوميديا السوداء- غالبا ما يمد الخطوط والفرضيات حتى أقصاها، فبدلا من إنقاذها يستكشف نتائج تحالف الخير مع الشر بشكل ذكي.
ينتهي الفيلم بظهور “مصاصة دماء” أخرى، الأمر الذي يقوي مجاز الربط بين مصاصي الدماء والرموز السياسية الشهيرة بشكل كوميدي، ويوحي للمشاهد باستعادة أشهر المستبدين في التاريخ وافتراض “طبيعتهم الماورائية”، ففي النهاية الفيلم لا يهدف فقط إلى السخرية من دكتاتور شهير بقدر ما يطرح رؤية مغايرة لسردية تاريخية معروفة.
يمثل فيلم “الكونت” خطوة جديدة في مسيرة مخرجه، الذي يخرج فيه عن المألوف منه، ويجعل كلا من المشاهدين والنقاد في انتظار تجاربه المقبلة في استكشاف السير الخاصة بأشهر الشخصيات التاريخية ولكن بعدسته الخاصة.