فيلم “الخيال الأميركي”.. دعابة عن العنصرية الأميركية تنقلب إلى حقيقة

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 6 دقيقة للقراءة

يقدم فيلم “الخيال الأميركي” تجربة سينمائية مختلفة عن الأفلام الأخرى المرشحة لجوائز الأوسكار هذا العام، فهو عمل يشتبك بشكل شديد الذكاء مع قضايا عدة في آن واحد، وعلى الرغم من كونه الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه فإن الأخير استطاع التعامل بنضج مع مواضيع ثقيلة مثل “العنصرية المستترة” و”ثقافة السود”، بالإضافة إلى الحسابات الخاصة بدور النشر الباحثة عن الأعلى مبيعا قبل كل شيء آخر.

“الخيال الأميركي” من إخراج كورد جيفرسون وبطولة جيفري رايت وستريلنغ جي براون وإيسا راي، وجاء عرضه الأول في مهرجان “تورنتو” السينمائي، وترشح لـ5 جوائز أوسكار هي أفضل فيلم وأفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثل في دور رئيسي وأفضل ممثل في دور مساعد وأفضل موسيقى تصويرية.

الخيال الأميركي والعنصرية المستترة

يضع فيلم “الخيال الأميركي” المشاهد في قلب الصراع منذ لحظاته الأولى بالمشهد الافتتاحي لـ”مونك” الأستاذ الجامعي ذي الأصول الأفريقية، والذي يتجادل مع إحدى طالباته بسبب طرحه عنوانا عنصريا صادما للنقاش.

تتكشف سريعا طبيعة شخصية البطل المثقف المتعالي سريع الغضب الذي يشعر بمرارة عدم التقدير الأدبي، فأعماله الروائية غير معروفة سوى للأكاديميين فقط، فيما أعمال روائية أقل من الناحية الأدبية تحصد النجاحات المادية والنقدية لمجرد تقديمها كليشيهات الأدب الأسود المعتادة، والتي تعتمد على العلاقات الأسرية المتفسخة والجريمة والعنصرية والقهر.

يزداد غضب “مونك” بعد عودته إلى بوسطن حيث تقيم عائلته عندما يصدم بحالة والدته الصحية السيئة التي تتطلب رعايتها الكثير من الوقت والمال.

يقرر “مونك” في لحظة غضب من المشهد الأدبي اللاهث وراء القصص الرخيصة كتابة رواية على ذات الشاكلة، عمل أدبي لا يبذل فيه أي جهد حقيقي، يجمع كل الأفكار النمطية الشهيرة في أدب السود، ثم يضع عليه اسما مستعارا ويرسله إلى وكيله الذي يعرض الرواية بالفعل على عدد من دور النشر.

تمثل هذه الرواية بالنسبة للبطل سخرية من المشهد الأدبي الأميركي، ودعابة ساخرة من سطحية المسؤولين عن دور النشر، ولكن تنقلب هذه الدعابة إلى حقيقة.

تنهال عليه العروض لشراء الرواية بمبالغ لم يحلم بكسبها في حياته، ثم تطلبها الأستوديوهات السينمائية لتحويلها إلى فيلم من المتوقع حصوله على الأوسكار، بل تتجاوز الرواية حتى النجاحات التجارية لترشح إلى أهم الجوائز الأدبية في ظل محاولة القائمين على هذه الجوائز إظهار اهتمامهم بأدب أصحاب الأصول الأفريقية، ويجد البطل نفسه حائرا بين احتياجاته المادية الملحة، وغضبه وشعوره بالمهانة من هذا النجاح لعمل لا يمكن مقارنته بأعماله السابقة بأي شكل من الأشكال.

يبدو فيلم “الخيال الأميركي” في البداية كما لو أنه يستحضر ثنائية الأدب الرائج والرفيع، ويستعرض الفروقات بينهما وكيف يستطيع كاتب واحد تقديمهما معا، لكن الفيصل هو للقارئ الذي يختار، فيما هو في الحقيقة يناقش ثنائية أخرى أهم، بين أدب لا يحاول مداعبة الأنماط الشائعة عن كتابات السود في محاولة لقهر هذه العنصرية المستترة، وآخر يقدم مضامينه الخاصة ضمن هذا النمط.

تتمثل هذه الثنائية في الفرق بين ما يقدمه “مونك” من أعمال يعتبرها رفيعة ولكن لا يقرؤها أحد وبين كتابات منافسته “سينتارا جولدن” الذي استخف بها البطل لنجاحها الشديد، لكنها استطاعت تطويع الكليشيه لتقديم فكرها الخاص عن طبيعة حياة السود في أميركا.

المساواة في المجتمع الأسود

يرفض “مونك” من البداية تصنيف نفسه رجلا أسود، سواء من ناحية أعماله الأدبية أو اختياراته لشريكاته العاطفيات، وجزء كبير من احتقاره أدب السود التقليدي يرجع إلى عدم رغبته في الاعتراف بأن ذلك الأدب يحمل في باطنه جزءا من الحقيقة ويمثل آخرين في المجتمع.

يحكم البطل على عِرقه بالكامل من تجربته الخاصة كرجل أكاديمي من عائلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى العليا كل أفرادها من الأطباء، يمتلك كل منهم منزلا على الشاطئ بالإضافة إلى منزل المدينة، ويلقي بعبء فشله الأدبي على رواج الأدب الأسود التقليدي، فلا يرى -أو لا يرغب أن يرى- المذنب الحقيقي وهو العنصرية المستترة التي تحتفي بهذا الأدب رغم ضحالته في بعض الأحيان لأنه يزيد تنميط النظرة العنصرية.

ورغم ذلك فإنه لا يمكن اعتبار أن تجربة البطل ذي المكانة العلمية والاجتماعية متشابهة مع تجربة الخادمة في منزله لمجرد أن كليهما يحمل لون البشرة نفسه، لأن العِرق هنا يتقاطع مع عوامل أخرى مثل الطبقة الاجتماعية والجنس، ويضع الفيلم البطل في مقارنة مع أخيه طبيب التجميل الذي على الرغم من مكانته الاجتماعية المساوية لـ”مونك” فإنه لا يخفي هويته كرجل أسود خلف قناع من التحضر المتعالي.

تتمتع شخصية “مونك” بتعقيد مميز، فلا يمكن أن يتعاطف معه المشاهد بشكل تام لأنه يحمل بداخله عنصرية، خاصة تجاه حتى بني عِرقه أنفسهم، ويستخدم تعالي المثقف جدار حماية بينه وبين العالم، ولكن في الوقت ذاته يمكن التماس الأعذار له لأن شخصيته نتيجة نظام من العنصرية المستترة كلما حاول الفكاك منها وجد نفسه أسيرها مرة أخرى.

عندما كتب “مونك” روايات لا تلجأ إلى أسلوب الأدب الأسود المعتاد تم تنميطه فقط للون بشرته ووضع كتبه مع كتب الأدب الأميركي الأسود، وحين حاول السخرية من هذا النظام أتى نجاحه كما لو أنه يؤكد على أن الاستسلام هو الطريق الوحيد للنجاة، وحتى مشهد النهاية في الفيلم المقتبس من روايته اضطر خلاله إلى الخضوع لرؤية يستعيد فيها نمطين شهيرين من كليشيهات العِرق الأسود، الأول القتل على يد الشرطة كخاتمة للفيلم، والآخر لقطة لمنزل جنوبي ينتمي إلى عمارة ما قبل الحرب الأهلية عندما كان أجداده عبيدا للعرق الأبيض.

يسخر فيلم “الخيال الأميركي” من المنظومة الثقافية الأميركية، وترشحه لأهم الجوائز يحمل معاني مزدوجة، فهو دعابة ذكية أفلحت في إحداث أثرها، وهو ترسيخ إضافي للتنميط الأميركي للسود.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *