“أنا شاعر، والشاعر يجب أن يكون حرا كالطائر في الغاب، والزهرة في الحقل، والموجة في البحار”.
في أيام الطوفان التي نعيشها تحلّ ذكرى وفاتِه التي توافق الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 1934، وهكذا يعرفنا أبو القاسم الشابي بنفسه، فهو الطائر الغرّيد المحلّق في سماء الدعوة إلى مقاومة المحتلّين والغاصبين، والزهرة المتفتحة في رياض التجديد والانفتاح، والموجة العاتية التي تريد أن تُغرق ما عاشته الشعوب من تخلف وتبعية واحتلال، يقول الشاعر الراحل:
إِذا الشَّعْبُ يوما أرادَ الحياةَ *** فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدر
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي *** ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِر
هل تحقّقت نبوءة الشّابي؟ أو أن الشعوب العربية ما تزال ترسف في نَير الأغلال وثقل الأصفاد السياسية والاجتماعية بأشكالها كافة؟ أتراه كان محقا حين جعل تحرّر الشعوب من شتى أنواع الاستعباد منوطا بإرادتها، أو أن الأمر أعقد من ذلك بكثير؟ أتراه سينجلي دَيجور الظُّلم الذي خيّم على شعوبنا واستباح أراضينا وبعثر أفئدتنا وتركها ترزح تحت وطأة الشعور بالعجز والخذلان؟ قلوبنا اليوم لَهفى لجواب شاف يسطره الأبطال في فلسطين الحبيبة.
إرادة الحياة
كان الشابي ينطلق في قصيدته (إرادة الحياة) من فكرة مفادها أنّ المرء إذا ما أراد شيئا وسعى إليه بإخلاص فإن نواميس الكون كلّها تعينه وتتفق على تعبيد سُبُله وتمهيد مساره… أتراها تفعل حقا؟ أتراها تستجيب اليوم لأمنياتنا ودعواتنا بالنصر المؤزّر؟
كانت قصيدته صرخةً هادرةً لبعث الحياة في الشعوب؛ فللحرف في الشعر والفن عامة سطوة على الإنسان لا تقل عمقا وتأثيرا وامتدادا واتساعا عن سطوة السيف وسلطته، فلطالما وقف الحرفُ المقاوم في وجه الظلم والاستبداد، ولنا في قول رسول الله -صلى عليه وسلم- وهو يحث حسان بن ثابت على هجاء كفار قريش؛ خير مثال، إذ جاء في الحديث الشريف قوله “اهْجُهم، فوالله لَهِجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غَلَس الظلام”.
فالكلمة سيف بتّار، بل مهنّدٌ صقيل، يدرك الناسُ جميعهم من العرب والعجم على حد سواء منذ القِدم أهميتها ومدى تأثيرها، لا سيما إذا ما حملت روح الجماعة وراية الانتماء، وحلّقت في سماء الكرامة الإنسانية، وحملت عبء الشعور المثقل بالعجز والظلم والضيم والتهميش. ولا سيما إذا ما صدرت عن شاعر ذي خيال متوقد، ورؤية خلاقة تجاه العالم مثل أبي القاسم الشابي الذي أكسبه الترحال الدائم مع والده بِحُكم عمله قاضيا سعة في الأفق وتنوعا في المشارب.
كان أبو القاسم الشابي شاعرا ثوريا مناضلا، ملتزما بقضايا شعبه وأُمته، يحثّ الشعوب على النضال ضد أشكال الاستعباد والاستغلال كلها، والكفاح والاستبسال في سبيل الاستقلال وانتزاع الحرية من براثن الاستعمار. كان صوتُ الشّابي يمثل صوت الجماهير الشعبية ويحمل همومها ويصدح بأحلامها بتحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر والاستقلال والاستقرار السياسي.
ملامح المقاومة في أشعار الشابي
تجلّى مفهوم المقاومة لدى الشابي في منحيين؛ الأول كان في مجال الدعوة إلى التجديد على صعيد الشعر والأدب والأفكار؛ فتجديد الأفكار هو بوّابة تغيير الواقع، متأثرا في ذلك بنتاج شعراء المهجر من جهة، وانطلاقا مما آمن به من أفكار “جمعية قدماء الصادقية” المنادية بالأفكار التحررية، التي كان عضوا فاعلا فيها، وقد لاقى كتابه “الخيال الشعري عند العرب” أصداء واسعة وعرّضه لكثير من النقد من قِبل أنصار مدرسة المحافظة والتقليد، وعبّر عن ذلك في إحدى قصائده، إذ قال:
كُلَّما قام في البلادِ خطيبٌ *** موقِظ شعبَه يريدُ صَلاحَه
ألبسوا روحَه قميصَ اضطهادٍ *** فاتكٍ شائكٍ يردُّ جِماحَه
هكذا المخلصون في كلّ صوب *** رَشقاتُ الرَّدى إليهم مُتاحة
أما منحى المقاومة الثاني لدى الشابي فقد كان في إطار الدعوة إلى تحرر الشعوب من مستعمريها والتمتع بكامل حريتها واستقلالها، وتجذير حبّ الأوطان في نفوس أبنائها ليثوروا لأجلها، فتراه يقول في حبِّ بلده تونس الخضراء:
أنا يا تونس الجميلة في لُجّ الهوى *** قد سبحت أي سباحه
شِرعتي حبُّك العميق وإنّي *** قد تذوّقت مُرّه وقَراحَه
وفي سبيل نيلها حريتها من الاستعمار الفرنسي قال متفائلاً بالغد الحرِّ، مؤمنا بإرادة شعبه:
لا أبالي وإن أُريقت دمائي *** فدماء العُشّاق دوما مباحه
إنّ ذا عصر ظلمة غير أنّي *** من وراء الظّلامِ شُمتَ صباحَه
ضَيّعَ الدَّهرُ مجدَ شعبي ولكن *** ستردُّ الحياةُ يوما وِشاحه
كيف استطاع الشابي أن يكون مثالاً للشاعر الثائر الحر؟
على الرغم من أن الطائر التونسي الحر أبا القاسم الشابي ترجل عن سرج الحياة باكرا، وهو لمّا يكمل أكثر من 25 عاما من عمره، إثر معاناته من تضخم القلب وبعد فجيعته بفقد والده، فإنه ترك لنا إرثا شعريا محملا بكلمات نُسجت من كرامة وحرية، واستطاع بما تركه لنا من أشعار، بل بقصيدة واحدة “إرادة الحياة” أن يُخلّد ذكره، ويصبح شاهدا على كلِّ لسان إذا ما نطق بحرية الشعوب وإرادتها.
ومن بديع أبياته الثورية ما جاء في قصيدته “إلى الطاغية” التي صوّر فيها واقعا مريرا وجماهير شعبية مستكينة، لكنه كان يؤمن بيقظة الشعوب يوما ما وقدرتها على النهوض لاستعادة كرامتها ونيل حريتها واستقلالها؛ يقول:
يقولون:
صوتُ المستَذَلِّين خافتٌ *** وسَمعُ طُغاة الأرض أطرش أَصخمُ
ولَعلَعةُ الحقّ الغضوب لها صدى *** ودمدمة الحرب الضّروس لها فمُ
لك الويلُ يا صرحَ المظالم من غدٍ *** إذا نهضَ المستضعفون وصمَّمُوا
نداءات الرّياح
يُحمّل أبو القاسم الشابي في قصيدته إرادة الحياة الرّيحَ مشاعره الثورية، ويجعلها معادلا موضوعيا للإنسان القويّ الحازم صاحب الهمّة والعزم والإرادة، فيقول على لسانها:
ودَمدَمَتِ الرّيحُ بين الفجاج *** وفوق الجبال وتحت الشّجر
إذا ما طمحتُ إلى غاية *** ركبتُ المنى، ونسيت الحذر
ولم أتجنّب وعور الشِّعاب *** ولا كبّة اللّهب المستعر
ومَن لا يحبّ صعودَ الجبال *** يعش أبدَ الدهر بين الحُفر
فعجّت بقلبي دماءُ الشّباب *** وضجّت بصدري رياحٌ أُخر
وأطرقتُ أصغي لقصف الرُّعود *** وعزف الرّياح ووقعِ المطر
ونراه في قصائد أخرى يركز على الرياح وقوتها وعنفوانها، وما تحمله وراءها من خلقٍ جديد، إذ يقول في إحدى قصائده:
سألتُ الدّياجي عن أماني شبيبتي *** فقالت: ترامتها الرياحُ الجوائب
ولما سألتُ الريح عنه أجابني: *** تلقّفتها سيل القضا، والنوائب
يُذكّرنا بذلك بالقصيدة الشهيرة للشاعر الإنجليزي بيرسي بيش شيلي أغنية إلى الريح الغربية؛ التي يخاطب فيها الشاعر الريح بوصفها قوة جامحة ومدمرة، لكن لا بأس… ما دام وراء هذا الجموح تجديدٌ وإحياءٌ وبعثٌ جديد، لا سيّما أن الاستعمار الفرنسي آنذاك كان حريصا على إبقاء الشعوب في حالة جمود فكري وثقافي، وفي طور التراجع والتخلف عن أي ركبٍ تتجاذبه رياح التجديد والإعمار؛ فلننظر إلى قول شيلي مترجما في ختام قصيدته وقد جعل من الريح مخاطبا بوصفه قوة التغيير وأداته:
“بعثري كلماتي بين بني البشر!
كوني من خلال شفتيّ إلى الأرض التي لم تستيقظ بوقَ النبوءةِ!
أيتها الريح… إذا حلّ الشتاء، فهل سيكون الربيع بعيداً؟”
وما بين الرّيح والطوفان نعيشُ في تاريخنا النضالي الطويل قصصا وحكايات تروي لنا استبسال الجندي العربي في وجه العدو بأشكاله كافة، ابتداء من الاحتلال الغاشم والاستعمار الذي قسم أوصال الأمة وتركها أجزاء تتلوى، انتهاء بالرغبة العارمة اليوم في كسر هيبة الجندي الصهيوني وإغراقه في طوفان الأقصى.
وتماما مثلما تبدو شعوبنا العربية في أيامنا هذه طَمُوحةً تواقة متعطشة للتلاحم مع بعضها لمواجهة العدو المشترك، كان دَيدَنها عبر التاريخ والعصور، فالعدو متربص بكل ما يخصنا بهويتنا وعروبتنا وديننا وانتمائنا منذ الأزل! ومذ أدرك الإنسان العربيّ عمق فكرة الانتماء وأهمية الهوية طار بخياله إلى حلم يراود كلَّ حرٍّ أبيّ؛ ماذا لو تُزال الحدود ويلتئم الشمل فتقوى الساعد ويشتد العضد؟ وماذا لو أنّ طموحه تفجّر فأزالها وهو يسمع صوت الشّابيّ يتردّد في ذكراه:
وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ *** لهيبُ الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ
إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ *** فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ