تقوم سنة الحياة على انفتاح الشعوب على بعضها وتبادلها الفكري والحضاري، لا سيما حين خرج المسلمون من جزيرة العرب بوصفهم دعاة فاتحين، وكان لا بد للغة أن تعاصر هذا الركب والتطور الحضاري وتتواءم معه في مختلف مجالات العلوم والفنون والآداب.
كيف تحصل الألفاظ الجديدة والمعربة على تأشيرة شرعية للدخول إلى اللغة العربية؟
حين أقر مجمع اللغة العربية في القاهرة مشروعية إدخال كلمة “ترند” إلى اللغة العربية واستعمالها، لم تكن المرة الأولى التي يطالعنا فيها مجمع اللغة العربية في القاهرة في الآونة الأخيرة بمثل هذه القرارات، فقد سبق ذلك وفي وقت قريب قبوله وإدخاله كلمات مثل: “أولمبياد، وأرشيف، وأجندة”، وقد قدم الموضوع أ.د. محمد رجب الوزير (عضو المجمع)، ونشر على الصفحة الرسمية لمجمع اللغة العربية في القاهرة على فيسبوك “من إجازات لجنة الألفاظ والأساليب بالمجمع: الترند (في مواقع التواصل الاجتماعي)، موضوع ساخن جديد يثار على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، فينتشر بسرعة في فترة زمنية قصيرة، ويهتم به الجمهور، ويتداولونه بالحديث فيه والتعليق عليه، ويتبادلون الأخبار عنه بكثرة. (ج) ترندات.
وجه الاعتراض: لعدم ورودها في المعاجم.
وجه الإجازة: الترند كلمة معربة عن الأصل الإنجليزي (trend) بمعنى: اتجاه أو نزعة أو ميل أو موضة”.
تساءل أحد أعضاء المجمع اللغوي في القاهرة في مقابلة تلفزيونية عن تفاعل الناس وانزعاجهم من تعريب كلمة (ترند) وعدم انزعاجهم من الكلمات السابقة التي عُربت حديثا، وضرب كلمة “التلفزيون” مثالا.
دعني أقول لك: ألا يمكن أن يكون الغضب أو الانزعاج الشعبي العام اليوم حصيلة لردود أفعال مكبوتة على كل ما سبق؟ وخشية من جعل ذلك نهجا وطريقا معبدا للتفريط والتساهل مع كل وافد جديد على اللغة العربية وقبوله.
ثم إن كلمة التلفزيون التي عُربت إلى الرائي أو المرناة في زمن ليس ببعيد، كان قد حل محلها “التلفاز” من قبل، ونال اللفظ من الرضا ما جعله رائجا ومستعملا، لا سيما أنه يدل على اسم آلة بالنظر إلى وزنه الصرفي فهو وزن (مفعال)، ويكون بذلك قد حقق شرط التعريب ونال تأشيرة الدخول إلى اللغة العربية.
أليس من حق كل باحث ومهتم بقضايا اللغة أن يدلي بدلوه في مثل هذه القضايا التي تدور في فلك نمو اللغة العربية، أو إحياء بعض ألفاظها المندثرة أو المتراجعة في الاستخدام، أو إيجاد وابتكار -وبكلمة أدق- اشتقاق ألفاظ جديدة تلائم العصر ومقتضياته وتطوراته؟
إن من حق كل عربي غيور على لغته، حريص عليها، أن يتساءل: هل تباحث مجمع اللغة العربية في القاهرة مع غيره من مجامع اللغة العربية قبل أن يقر بأهلية هذه الكلمة لتعريبها ودخولها إلى لغتنا وتسللها إلى ألستنا؟ هل هو قرار جماعي أم أن مجمع القاهرة قد تفرد به؟ ولماذا لا تعمل مجامع اللغة العربية في الوطن العربي جنبا إلى جنب وكتفا إلى كتف؟
سؤال مفتوح ينتظر الإجابة!
يأخذنا هذا السؤال إلى الحديث عن نشأة مجامع اللغة العربية، وكيفية التواصل فيما بينها، فقد أنشئت مجامع اللغة العربية أساسا بوصفها مؤسسات تهتم بشؤون اللغة والتعريب والتحفيز على الكتابة والتأليف والإبداع، وللأمر جذور قديمة إذا ما أردنا البحث في أصل النشأة وصلتها بالعهود القديمة.
أنشئ بداية مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1919م، ثم تلاه مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1932م، وتخلل ذلك إنشاء للمجمع العلمي في لبنان عام 1928م، ثم المجمع العلمي العراقي في بغداد 1947م، وتوالت بعد ذلك المجامع في مختلف البلدان العربية، وتشكل بعد ذلك اتحاد يضم مجامع اللغة العربية العلمية عام 1971م.
إذن: هل تتشاور مجامع اللغة العربية فيما بينها؟ أم أن كل واحد منها يملك حق التفرد بقراراته في قضايا النقل والتعريب؟
سؤال مفتوح برسم الإجابة! على أمل أن تكون دقيقة ومنضبطة وواضحة الحدود.
ما الذي تعمل عليه مجامع اللغة العربية بالضبط في عملية التعريب؟
من البدهي أن تعنى مجامع اللغة العربية بالحفاظ على سلامتها، والاهتمام بتسيير الأمور والقضايا العالقة المتعلقة بدراسة كل لفظ أو مفهوم وافد جديد ومعالجته ليصير لفظا ومعنى جزءا من اللغة النامية بطبيعة الحال؛ فالنمو اللغوي حقيقة واقعة قبل أن يكون شرطا، ومرونة اللغة أمر مطلوب لتستطيع أن تفي بمتطلبات العلوم قديمها وجديدها بما يناسب روح العصر وسياقاته الاجتماعية والنفسية المتبدلة على الدوام، ناهيك عن أن مرونة اللغة وحركيتها أمر ضروري لملء أي فراغات لفظية ومعنوية في سياقات الفنون التي لا تفتأ تنمو وتتبدل وتتوسع وتتقعر في رحاب الانفتاح العالمي، والنشاط الإنساني ورغبته المتوقدة بابتكار الجديد والتصدر وتحقيق الأسبقية، وإثبات الأحقية في كل مجال.
وبعبارة أخرى؛ فإنه بالإضافة إلى دورها الأساسي والرسمي في الحفاظ على سلامة اللغة وحماية حصنها المنيع، ونقل المعارف والعلوم الجديدة وترجمتها، والحث على الإقبال على التأليف والبحث في قضايا اللغة وخدمتها والانفتاح على الآخر؛ تعنى مجامع اللغة العربية بفتح آفاق اللغة وتوسيعها لاستقبال كل جديد يوائم حاجات الإنسان في التواصل مع الآخرين في العصر الراهن.
ويكون ذلك -غالبا- بوساطة التعريب؛ وهو قبول الكلمة الأجنبية كما جاءت في لغتها الأصلية وكتابتها بحروف عربية، أو صبغها بصبغة عربية، وصياغتها وجعل مبناها أقرب ما يكون إلى أبنية مشتقات اللغة العربية بحسب وظيفتها واستعمالها؛ أي يكون باستقبال كلمات وافدة جديدة، شريطة أن تحمل هذه الكلمات جذورا لغوية قوية وصياغتها بالاتكاء على الخاصية الاشتقاقية للغة العربية، أو أن توجد في معاجم اللغة ألفاظ متروكة مهجورة فتدب الدماء في عروقها مجددا وتعود للتقدم إلى صفوف الألفاظ المستعملة والشائعة والمنتشرة على الألسن، أو أن تحمل الكلمة على تفاسير خاصة توائم طبيعة اللغة وما شاع منها، وإلا فإن مصير هذه الكلمة الوافدة هو الترك والهجران.
ومن هذا المنطلق، نرى حرص الباحثين والدارسين في مجالات اللغة العربية على إنشاء معجم تاريخي مثلا كما هي الحال إذا نظرنا إلى الجهود الحثيثة التي تبذل منذ أعوام لإنشاء معجم تاريخي للغة العربية في الدوحة للعناية بتاريخ الألفاظ وتثبيت معانيها وتحديدها، ورصد تطوراتها ومدلولاتها على مدى التاريخ والاستعمال الإنساني لها، ورحلتها الزمنية في تغير مدلولاتها وصلتها الوثيقة بالجذر الأساسي الذي وضعت من أجله أساسا.. أضف إلى ذلك عناية الباحثين بكتابة أبحاث ونشر دراسات تسلط الأضواء على اللهجات المتنوعة ومدى صحتها، ومدى ابتعادها أو قربها وارتباطها بالعربية الفصيحة.
آثار جانبية
حين تطالعنا مجامع اللغة العربية بين الفينة والأخرى بتجويز دخول بعض الكلمات الأجنبية إلى اللغة العربية؛ وذلك لشيوع استعمالها بين عامة الناس وخاصتهم، وبدعوى أن إيجاد البديل العربي عنها بعد شيوعها وانتشارها على الألسن لا طائل منه؛ فالناس اعتادت استعمالها كما هي باللغة الأجنبية… ولا ضير من إدخالها إلى لغتنا واستخدامها للدلالة على المفهوم نفسه؛ حين تطالعنا بذلك يتطاول بعض الناس من غير المختصين ومن المختصين في قضايا اللغة أيضا ويجرؤون -مع الأسف- على التعبير عن عجز اللغة العربية عن إيجاد الإفادة اللغوية نفسها، ويرون أنها تبدو أكثر وضوحا وجلاء، وأنعم وأقرب تعبيرا، وأوسع إفادة كما جاءت في لغتها؛ ناسين أو متناسين في ذلك السياق الاجتماعي وهيمنة اللغات الأجنبية -لا سيما الإنجليزية منها- على كثير من مناحي الحياة العملية ومجالاتها بحجة اتساع رقعة الدلالة وقربها من المتلقين لها سماعا وقراءة!
وإنه مما يثير الحفيظة والجدل على حد سواء أن ترى أبناء العربية والعاملين في ميادينها حبا وخدمة وإيمانا بها لغة حية عصية على أيادي الزمن ومجرياته؛ يميلون إلى القول -بل إلى الجزم في أحيان بعدم قدرة اللغة على مجاراة حداثة العصر وسرعة عجلة التطور اللغوي والدلالي!
لماذا نعترض على تعريب “ترند”؟
من العجيب حقيقة أن يقبل مجمع اللغة العربية في القاهرة -مع احترامنا للقامات العلمية المهمة التي يضمها- إدخال هذه الكلمة إلى سياقات العربية وقبولها واستعمالها، في حين يعمل الصحفيون الغيورون على اللغة العربية وكذلك كثير من الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي؛ على إيجاد بديل لغوي مناسب؛ إذ يستعملون كلمات مثل متصدر ورائج ومتداول وحديث الساعة، للتعبير عن معنى “ترند” بكل بساطة، ولا أظن أن واحدا من هذه الألفاظ قصر في التعبير عن المراد!
بل من بديع ما قدمته العربية عوضا عن هذه الكلمة (ترند) أنها استطاعت توظيف اسم الفاعل (متصدر) و(رائج) واسم المفعول (متداول) في اشتقاقات مختلفة للتعبير عن المعنى نفسه، أضف إلى ذلك التركيب الإضافي (حديث الساعة) إن لم ترق لك الألفاظ السابقة، فاختر ما شئت!
ومن العجيب أكثر أن أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة صرح بأن هذه الألفاظ مشغولة بمعان أخرى! وقاصرة عن الإحاطة بالدلالة المقصودة، لكن تعليله جاء باهتا سطحيا ومن دون حجة أو دليل! فمتى قصرت الصفات على ألفاظ بعينها دون غيرها؟ كما أنه ألمح إلى أن هذه الألفاظ المقترحة تصلح بوصفها صفات تخلو من التقاط معنى الزمن القصير والمتحول! وأعتقد أن أي مطالع لمعاني هذه الكلمات في المعاجم ومن دون عميق بحث سيفهم أنها تضم عامل الزمن القصير الحالي في معناها؛ فالرائج اليوم لا يبقى رائجا غدا، والمتصدر اليوم لا يبقى متصدرا على الدوام، وحديث الساعة لن يكون حديث الساعات التالية لها… بكل بساطة!
لماذا نقبل بدخول كلمة مثل “ترند” ولغتنا بعمقها وعراقتها وأصالتها قادرة على إيجاد البديل بسهولة، من دون حاجة لنحت أو اشتقاق بعيد الفهم أو الاستعمال! كما أن الاستعمال اللغوي شيء وتعريب الكلمة وإدخالها إلى اللغة بصفة رسمية شيء آخر.
قد ينبري بعض إخوتنا في اللغة إلى تسويغ ذلك بفعله من قبل، فقد دخلت إلى العربية كلمات من الفارسية مثلا والهندية واليونانية وغيرها في أزمان غابرة، لكنهم بذلك ينسون أن الزمن اليوم مختلف، والسياق الحضاري والفكري مختلف، وأيديولوجية المواقف السياسية والاجتماعية السائدة باتت تطرق أبواب الهوية بعنف وتهز أوصالها باستهتار وبأياد رعناء تنوي تشويه الهوية وزعزعتها في نفوس النشء الجديد، ناهيك عن أن أثر العربية في تلك اللغات كان أوسع، وما انتقل من العربية إلى غيرها من اللغات لا يقل، بل يفوق في أحيان ما استقبلته العربية منها، وقد أقيمت دراسات كثيرة لرصد ذلك التبادل اللغوي.
أليس لنا في تمسك القوميات والأمم الأخرى بلغاتها المختلفة وإصرارها على ترجمة كل جديد وافد عليها من أسوة حسنة، ونحن أهل لغة سماوية وأصحاب رسالة عالمية!
فهل من يقظة للانتصار للغة العربية، وهل من معتبر!